الاثنين، 10 أغسطس 2015

انفرد أوباما في سياسته الخارجية.. فاشتعل الشرق الاوسط

واشنطن - حسين عبدالحسين

سيتذكر الاميركيون رئيسهم باراك أوباما بالخير، فبلادهم في عهده استعادت بعضا من قوتها وبريقها، لأسباب عديدة، بعضها ساهم في صنعها الرئيس الاميركي، وبعضها الآخر خلقتها الظروف. ويضاف الى حب الاميركيين لأوباما انه ماشى الشعور الاميركي العام بضرورة الانعزال عن العالم، وهو شعور تولد بسبب حربي العراق وافغانستان.

في السياسة الداخلية، كشف مركز “بوستن كونسلتنغ غروب” المرموق ان الصناعات، حتى النسيجية منها، بدأت تترك الصين وتعود الى جنوب الولايات المتحدة بعد عقود من هجرة الصناعة والاعمال من أميركا الى دول شرق وجنوب آسيا. ويورد المركز في تقرير ان كلفة الصناعة الاميركية كانت دولار واحد مقابل 86 سنتا في الصين قبل عقد، وان هذا الفارق تقلص ليصبح دولار للصناعة الاميركية مقابل ٩٧ سنتا لنظيرتها الصينية اليوم، ما يعني ان التكلفة صارت متشابهة، وهو ما صار يدفع المستثمرين الى نقل مصانعهم الى أميركا، ما يخلق وظائف ويحسن الاقتصاد.

اما اسباب عودة أميركا الى المنافسة فتأتي بسبب معاهدة التجارة الحرة بين أميركا وكندا والمكسيك، وهذا انجاز للرئيس السابق بيل كلينتون، اضاف أوباما اليه اتفاقية مشابهة مع كوريا الجنوبية، وهو في طريقه لاضافة معاهدة مشابهة مع 11 دولة اخرى كجزء من اتفاقية “الشراكة عبر الهادئ”.

لكن ظروفا اخرى، خارجة عن سيطرة أوباما، حسنت القدرة الاميركية على منافسة الصين صناعيا، بما في ذلك انتقال المصانع لاستخدام ماكينات بدلا من العمال، واكتشاف تقنية استخراج الوقود الاحفوري، وهو ما خفض سعر النفط والغاز في اميركا، وتاليا ادى الى تخفيض سعر الكهرباء للمصانع. ومن الظروف الخارجة عن ارادة أوباما ان ارتفاع مستوى المعيشة في الصين رفع الاجور في بلد تعاني من شيخوخة في يدها العاملة بسبب سياسة الولد الواحد.

لكن التاريخ والاميركيين لن يتذكروا التفاصيل، بل هم سيتذكرون انه في وقت كان نمو كل الاقتصادات العالمية، بما فيها الصين، يتراجع، كانت أميركا وحدها تتقدم واقتصادها يخلق وظائف جديدة.
للسبب نفسه لبيل كلينتون ذكرى طيبة بين الاميركيين، اذ على الرغم من هجرة المصانع في عهده من اميركا الى الصين، الا ان الغائه القوانين المالية الضابطة لعمل المصارف أشعل المضاربة في سوق الاموال، ما خلق فقاعة اقتصادية ولدت شعورا بالبحبوحة استمر حتى انفجرت الفقاعة في العام 2008 مع قرب نهاية الولاية الثانية للرئيس السابق جورج بوش الابن، الذي تلقى كل اللوم من الاميركيين بسبب الانهيار الاقتصادي الناتج عن سياسة مالية لم يكن هو المسؤول عنها.

هكذا هم الاميركيون، يتمتعون بذاكرة قصيرة تجعلهم يحبون الرئيس الذي يعيشون في زمنه اياما حلوة، وتدفعهم الى لعنة الرؤساء الذي تمر عهودهم بأزمات.

المشكلة تكمن في انه لا يوجد رئيس دولة في العالم مسؤول عن كل ما يحصل في عهده، فهناك احداث تصنعها الظروف خارجة عن الارادة، وهناك احداث، ايجابية ام سلبية، تتسبب بها سياسات الرؤساء السابقين.
من سياسات الرؤساء السابقين التي أدت الى كوارث لرؤساء تبعوهم هي فشل كلينتون في التعامل مع “الدول الفاشلة” مثل افغانستان والصومال، والتي تحولت الى مرتع للارهابيين يشنون منها هجمات ضد أميركا ودول اخرى. طبعا سبب تحول افغانستان الى “دولة فاشلة” هو اشاحة ادارة الرئيس جورج بوش الأب بنظرها بعد الانسحاب السوفياتي منها في العام ١٩٨٩. فافغانستان بعد الانسحاب السوفياتي كانت بحاجة لاموال طائلة من المساعدات والاستثمارات لاعادة بناء الحجر والبشر، لكن الاميركيين لم يكترثوا، ما فتح الباب امام المجموعات المتطرفة مثل الطالبان لاكتساح افغانستان واستضافة تنظيمات مثل القاعدة.

ركوب الموجة

وتظهر نقاشات ادارة كلينتون، كما في الوثائق التي كشفها واودعها في مكتبته الرئاسية قبل عام، ان الحكومة الاميركية كانت حينذاك في حيرة من امرها حول كيفية التعاطي مع الدول الفاشلة، وفي نهاية المطاف لم تقم ادارة كلينتون بما يجب غير عروض القوة من قبيل شن غارات جوية او توجيه ضربات بصواريخ توما هوك ضد اهداف لارهابيين.

وبسبب فشل ادارة كلينتون في التعامل مع مشكلة افغانستان، التي ورثتها عن بوش الأب المتقاعس، ورث بوش الابن المشكلة في هجمات 11 سبتمبر 2001، التي راح ضحيتها اكثر من 3 الاف اميركي. هكذا، قرر بوش اعادة هندسة الدول الفاشلة، ولكنه فعل ذلك برعونة، واخفى طموحات سياسية — مثل في احتلال العراق — خلف خطته القاضية ببناء حكومات قادرة على مواجهة الارهابيين وتجفيف منابعهم. ولكنه قبل رحيله بقليل، نجح بوش في لملمة النتائج الكارثية لحرب العراق، فانخفض العنف في العام 2009 الى مستويات ما قبل الحرب التي اندلعت في العام 2003.

أوباما، بدوره، وصل الرئاسة بركوبه موجة شعبية عارمة ضد حربي العراق وافغانستان. ومن نافل القول انه مع دخول أوباما البيت الابيض، كان الوضع في العراق قد استتب، لكن الرئيس الجديد لم يستمع للنصائح، وآثر التمسك بشعبويته ودفعه أميركا نحو ما كان يبدو انه عودة أميركا الى سياسة العزلة التي تمسكت فيها في عشرينات القرن الماضي.

وما زاد في الطين بلّة ان أوباما لم يستمع لكبار اركان ادارته، ولا لحلفائه حول العالم. فالخارجين من ادارة أوباما، مثل وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية السابق دايفيد بترايوس ووزير الدفاع السابق ليون بانيتا، كلهم قالوا، علنا بعد خروجهم، انهم نصحوا أوباما بالتعجيل في تدريب وتسليح قوة من ثوار سوريا المعتدلين لقطع الطريق على صعود المجموعات المتطرفة التي تملأ الفارغ الناشئ عن انهيار وتراجع قوات الأسد وسيطرته على مناطق متنوعة في سوريا. لكن أوباما رفض النصيحة.

واتهم وزيرا الدفاع السابقين ليون بانيتا وروبرت غايتس أوباما بخلقه أكثر ادارة مركزية في تاريخ الحكومات الاميركية. وكشفت صحيفة “واشنطن بوست” مؤخرا ان البيت الابيض يتدخل في اصغر الامور، وان بانيتا كان بحاجة لارسال نصوص خطاباته الى مسؤولين في “مجلس الأمن القومي” للحصول على موافقتهم، كما كان بحاجة لاذن من هؤلاء قبل موافقته على منح الاعلام مقابلات.

ومن يتذكر استدارة أوباما في موضوع سوريا في اغسطس 2013، عندما كانت السفن الاميركية المرابطة امام الساحل السوري على وشك توجيه ضربة ضد قوات الرئيس السوري بشار الأسد بسبب قيامها بشن هجوم بالاسلحة الكيماوية في ضاحية دمشق راح ضحيته اكثر من 1200 سوري مدني، قد يتذكر أن أوباما اتخذ قراره باحالة قرار الضربة على الكونغرس لنيل موافقته بعد تشاوره مع رئيس موظفي البيت الابيض دينيس ماكدنو. وبعدما اتخذ الرجلان القرار، اتصل أوباما بوزيري خارجيته ودفاعه جون كيري وتشاك هايغل لابلاغهما القرار هاتفيا.

وبسبب تهميش الوزراء، استقال وزير الدفاع الثالث في عهد أوباما هايغل، وواجهت الادارة مشكلة في العثور على وزير دفاع رابع في ولايتين رئاستين بعد اعتذار مرشحين الى المنصب، فلم يتبقى اذ ذاك لأوباما الا اللجوء الى وزير الدفاع الحالي آشتون كارتر، وهو ليس من الشخصيات السياسية ذات الوزن بل كان مجرد موظف اداري في وزارة الدفاع.

وبدلا من الأخذ بنصيحة وزرائه في السياسة الخارجية، احاط أوباما نفسه بمجموعة من المستشارين المغمورين اصحاب الخبرة الشحيحة والوزن السياسي الخفيف في العاصمة الاميركية، من امثال مستشارته سوزان رايس ونائبها سابقا والرجل الثاني في الخارجية حاليا انتوني بلينكن، وصديقيهما روبرت مالي، ونائب رايس الحالي بن رودز.

فريق مغمور

رايس وبلينكن ومبعوثة اميركا الدائمة الى الامم المتحدة سامنتا باور هم اصدقاء عملوا سوية في مركز ابحاث مغمور قبل دخولهم الحكم واصدروا دراسات مشتركة لا يتذكرها كثيرون بسبب سطحيتها. وباور صديقة رايس منذ ان عملتا في ادارة الرئيس السابق بيل كلينتون في باكوره عهديهما بالسياسة، وكذلك مالي، وهو المعروف بصداقته الوطيدة مع الأسد ومع سفيره السابق في واشنطن وفي بكين حاليا عماد مصطفى، زامل رايس وباور في ادارة كلينتون. اما رودز، فأول مشاركة في السياسة له كانت في انضمامه لحملة المرشح أوباما الرئاسية في العام 2008.

هكذا بدلا من ان يطلب أوباما النصيحة من مخضرمين في العسكر والسياسة والاستخبارات من امثال غايتس وبانيتا وبترايوس، شكل فريقا صغيرا من حديثي العهد بشؤون السياسة الخارجية، فتسلم بلينكن — بصفته مستشار الأمن القومي لنائب الرئيس جو بايدن حينذاك — ملف العراق بأكمله، وصمم السياسة التي راهنت على رئيس الحكومة السابق نوري المالكي شريكا من دون المكونات العراقية الباقية، فانهارت سياسة بوش التي كانت ادت الى تثبيت الوضع، وانفجر السنة امام بطش الشيعة، واندلعت الحرب مجددا.

وفي سوريا، تسلم مالي الدفة، وصمم سياسة مبنية على تسليم سوريا الى ايران وروسيا، وهي نصيحة على عكس السياسة التي اعلنها كيري في جلسة استماع تثبيته في منصبه مطلعا ٢٠١٢، والتي كانت تمحور حول ضرورة الحاق هزيمة بالأسد عسكريا لاقناعه ان بقائه في الحكم مستحيل، وان المخرج الوحيد له هو قبول دخول نظامه في تسوية مع المعارضة تتضمن تقاعده.
حتى رودز تسلم ملفات خارجية، بدلا من كيري، ففتح قنوات سرية مع الكوبيين وهندس اعادة العلاقات بين البلدين. وفي المراحل الاخيرة قبل الاعلان عن المصالحة مع كوبا، أعلم البيت الابيض كيري ووزارة الخارجية بما كان يحدث في الخفاء عنهم.

أوباما، عديم الخبرة في السياسة الخارجية، احاط نفسه بمستشارين اصحاب خبرة شحيحة مثله على حساب الوزراء والمخضرمين. واستفاد أوباما من شعور أميركي مساند لابتعاد أميركا عن شؤون العالم ليقنع الاميركيين ان سياسته تتمحور حول انسحاب أميركا من شؤون العالم واكتفائها بالديبوماسية، وهو أمر غير صحيح، اذ ان أميركا ساهمت حتى الآن في الحفاظ على الأسد في الحكم لاعتقادها ان البديل هو مجموعات اسلامية متطرفة، كما بدا جليا من المفاوضات مع ايران ان أوباما وظف رصيدا سياسيا لم يوظفه اي من الرؤساء ممن سبقوه في قضية خارجية من هذا النوع، وهو ما يعني ان سياسة أوباما بعيدة عن الانعزال.

أزمات المستقبل

أوباما الذي يتباهى بانجازاته، الداخلية والخارجية، يبدو انه لا يعلم ان سياسته الخارجية زرعت بذور الازمات للمستقبل، ففي عهد أوباما انهار العراق وسوريا واليمن وليبيا، وحققت ايران انجازات بتخلصها من العقوبات الاقتصادية الدولية من دون تراجعها عن سياستها التوسعية في المنطقة.

قد تبدو الامور مستتبة من وجهة نظر الاميركيين، لكن سياسة أوباما أدت الى غليان شرق أوسطي قد ينفجر في اية لحظة وقد يؤدي انفجاره الى عواقب وخيمة على أميركا وحلفائها، على شاكلة 11 ايلول، وسيجد الرئيس الذي سيخلف أوباما نفسه في مواجهة أزمة لم يكن هو المسؤول عن الوصول اليها.

لكن هكذا هي الشعوب، تصفق لما ترى، ويندر ان تسمع، ثم تذهب الى صناديق الاقتراع فتمنح اصواتها بعواطفها، بدلا من تحكيم عقلها، فيبتلي العالم بشعبويين عديمي الخبرة ومعتدين بآرائهم على طراز الرئيس الاميركي الحالي، ويبتلي العالم بعد أوباما وفريقه بمشاكل خلقها الرئيس المذكور ولكنه سيرحل قبل ان تلطخ مشاكله سمعته وتاريخه.

ليست هناك تعليقات:


Since December 2008