سحر مندور
في محيط منتصف ليل أمس الأول، ركنت سيارةٌ تبث أغنيات دينية وعقائدية وخطابية حماسية، عند زاوية في شارع الحمراء، وترجّل منها شبّان، علّقوا لافتاتهم فوق أعمدة الكهرباء.في الشارع الذي يحتفل يومياً بالتجارة، وليلياً بالسُكر، تحكي اللافتات عن جهوزية شباب «حركة أمل» للاستشهاد، وعشقهم له، واعتيادهم عليهم كاعتياد الديك على الصياح.
أما الصور فهي للرئيس نبيه برّي، وللإمام موسى الصدر. علّقوها، بحيث تشاركت أعمدة الشارع مع لافتات اختارها «حزب الله»، ومهرها بتوقيعه منذ شهر تقريباً، تنقل لرواد الحمراء عبارةً هي: «شهر الولاية». وقد استدعت تلك العبارة استغراب العديد من رواد الشارع، فلا الشهر المُشار إليه بديهيٌّ بالنسبة إلى مرتادي الحمراء (رمضان)، ولا «الولاية» واضحة الدلالات.
وفوق لافتات «الحزب» و«الحركة»، على أعمدة الكهرباء في شارع الحمراء، انتشرت أعلام الحزبين، الصفراء بسلاحها المشهور ضد العدو الإسرائيلي، والخضراء بتخطيطها المميّز لثلاثة أحرف تختصر «أفواج المقاومة اللبنانية».
وقبل «الحزب» و«الحركة» بأيام قليلة، أو كثيرة، اختار «الحزب السوري القومي الاجتماعي» الحمراء أيضاً، للتوجّه إلى الأمة بتصريح، علماً أن أفراده يتعاملون مع تلك المنطقة بصفتها فناء بيتهم الخلفي، كونها شهدت بعضاً من يوميات حزبهم منذ عشرات السنين. فعلّقوا صور زعيمهم الراحل أنطون سعادة، وعبارات إما هو قالها تضع ليلة إعدامه ظلماً برسم التاريخ، أو هم يقولونها واعدين إياه بالانتقام من ليلة الإعدام الظالم، علماً أنها حلّت في 8 تموز العام 1949.
وفوق اللافتات، رفرف علم «القوميين السوريين».. علماً أن تلك الرفرفة عادت بضراوة إلى فضاء الحمراء منذ مدة، وتحديداً منذ أحداث 7 أيار.
من هنا، بات العبور في شارع الحمراء انحناءةً أمام مجموعة من الأعلام والإعلانات الهامة، وباقات الوعيد والتهديد، بنكهات ايديولوجية مختلفة.
صحيح أن أي حزب لبناني، عندما «يفوز» بمنطقة، أو يكون فيها لا أكثر، يطلي وجهها بألوانه وصوره.. وتلك لأحزاب لبنان عادةٌ، تماماً كما الحقيقة والشهادة. ولكن، واحدة من مزايا الحمراء تكمن في إحجام أي من الأحزاب على تسميتها بكنيته. فأكثر الأحزاب شعوراً بالسيطرة عليها، وبانتمائها إليه، هو «القومي» القديم الحضور في ربوعها، وهو يواجَه يومياً بما يشبه غليان «التمرّد» على «سلطته»، ليس بسبب أداء شبابه في الشارع فحسب، بل رفضاً لسيطرة أيّ كان على منطقة يحتاجها روادها وسكانها «محرّرة» من الأحزاب اللبنانية الباهرة. وهي منطقة متنوعة، تبعاً لكل الأوصاف التي يعتمدها اللبناني في التفرقة بين أفراد شعبه: طائفياً، وطبقياً، وفكرياً، وسياسياً، ومناطقياً، وجنسياً، ودولياً... علماً أن المنطقة المتنوعة في لبنان، تشبه في ندرتها وعجائبية ظهورها كوكب الماس الذي اكتشف مؤخراً في فضائنا.
ولكن، ما الذي دفع بالحزبين الآخرين إلى الشعور بثقة عارمة بالنفس، تسمح لهما بطلي وجوهنا بألوانهم؟! لا الكأس المرفوعة دوماً في شارع الحمراء تتناسب مع أجواء «ولاية حزب الله». ولا حركة البيع والشراء، والمقهى واللقاء، تتلاءم واحتفاء «أمل» بالشهادة وبالإمام وبالأستاذ.
ربما هي حكومة اللون الواحد التي تتيح لقويّ اللحظة، أن يزرع صوره على كل جدار، غير آبهٍ بتفادي الاحتكاك مع «أولاد الحيّ التاني»، أي «المستقبل» مثلاً، و«الاشتراكيين» في عهد سابق... إذ باتوا خارج قاعدة «إما تشارك الجدران، أو تفاديها».
وربما هو وجود السفارة السورية في المنطقة، دفع بمؤيدي النظام الذي تمثّله إلى الرغبة بإشهار الهوية وإظهار الأنياب، لكي لا يتوهمن أحدٌ أن الرأي حرّ. فقد بات مدخل السفارة، خلال أشهر الثورة السورية، ساحة كرّ وفرّ، بين المتضامنين مع ثورة الناس من أجل الحرية، ودعاة مؤامرة اسمها الشعب يريد النيل من ممانعة اسمها الرئيس. علماً أن الاختلاف بالرأي انتهى بتكسير محبّي بشار لعظام محبّي الثوار، وبنقل التظاهرات إلى ساحة الشهداء. تتعدد الأسباب، لكن تبقى الصورة واحدة: ستارة مطرّزة بألوان الطوائف والعقائد تُسدل على أحد آخر حصون «المدنية» في لبنان، وتمنع عنه النور.
ففي لبنان، لو تفادى شارعٌ الخضوع لحكم الجماعة، يتهدد ذاك الحكم بالنسبة إلى الجماعة، ويضحي الشارع مصدر هوس لها.
وقد سبق لهم أن زرعوا صورهم هنا، وأدّى الخلاف مع «المستقبل» إلى إزالتها. وربما يأتي مدّ «مهرجان الحمراء» اليوم ليزيلها، ناشراً زينته مكانها. وربما يعود «الحزبيون» إلى التربّع أعلى أعمدة الكهرباء بعد انتهاء المهرجان، وربما...
تلك اللافتات والأعلام منفرة للمواطن المدنيّ، صحيح.. لكن تعدّد صور الزعماء والآلهة، يشبه تعدّد صور السراويل والوجبات الغذائية في الإعلانات التجارية. لها مستهلكوها، لها ولسواها أيضاً. وجميعها تتجاور، جميعها تتشابه، وجميعها تزول، وتُستبدل.
ولقد حصل أن زال كثرٌ، واستُبدل كثرٌ.
ومهما حاولت «أحزاب الشخص» أن تصادر وجوه المختلفين عنها، وعنه، فهي تبقى أكثر هشاشة من الاختلاف.. لأن الاختلاف يصنع الحياة، وهو شرط وجودها.