حسين عبد الحسين
يندر ان تسمع أميركيا يتحدث عن مصالح بلاده الاستراتيجية حول العالم من دون ان يقترن ذلك بتأييده لتدخلها سياسيا وعسكريا في المنطقة المعنية. ولكن من غرائب الامور ان تقرأ احد اهم الديبلوماسيين الاميركيين يكتب انه على الرغم من ان “للولايات المتحدة اسبابا استراتيجية، وكذلك انسانية، لتفضيل انهيار (بشار) الاسد، ولتشجيع الديبلوماسية الدولية للوصول الى هذا الهدف”، من الافضل لواشنطن البقاء بعيدة عن سوريا لان اي تدخل عسكري هناك يعرض النظام الدولي للاهتزاز.
هنري كيسنجر، مستشار الامن القومي في زمن الرئيس ريتشارد نيكسون، ثم وزير خارجيته ووزير خارجية خلفه الرئيس جيرالد فورد، والاكاديمي الاميركي الذي حث نيكسون على شن غارات سرية على كامبوديا اثناء حرب فيتنام للقضاء على الخصوم. هنري كيسنجر هذا هو صاحب المقالة التحذيرية من اي تدخل عسكري اميركي في سوريا.
ولكن لماذا يعارض وزير الخارجية الشهير هذا التدخل؟ في مقالة مطولة في صحيفة “واشنطن بوست” تحت عنوان “التدخل في سورية يعرض النظام الدولي لمخاطر الاهتزاز”، يستعيد كيسنجر تاريخ نشوء الدول ذات السيادة بمفهومها الحديث. يقول ان معاهدة وستفاليا، في العام 1648، هي الوثيقة المؤسسة للسيادة بمفهومها الحالي، وهي المعاهدة التي انهت “حرب الثلاثين عاما” في اوروبا عندما كانت العائلات الاوروبية الحاكمة ترسل جيوشها عبر حدود بعضها البعض لفرض وجهات نظرها وممارساتها الدينية. “تلك النسخة من تغيير النظام في القرن السابع عشر تسببت بمقتل اكثر من ثلث سكان اوروبا”.
للوقاية من تلك المذابح، فصلت “معاهدة وستفاليا” بين الدولي والمحلي، حسب كيسنجر، وانكفأت قوة الجيوش من الاستعمال عبر الحدود الى الاستعمال الداخلي، وعملت على فرض وجهات نظر العائلات الحاكمة ومعتقداتها الدينية على السكان. هذا هو المبدأ الاساسي للسيادة، وهو مبدأ انتشر من اوروبا الى دول العالم، ونجا من “حربين عالميتين وصعود الشيوعية الدولية”.
هذا الترتيب، يكتب كيسنجر، هو “الوحدة الاساسية” للنظام الدولي الحالي، وهو عرضة لاخطار جمة بسبب “الربيع العربي”، الذي غالبا “ما يتم الحديث عنه بشكل عام من زاوية حظوظ الديمقراطية” التي يقدمها. ويعتقد كيسنجر ان “الديبلوماسية التي تمخضت عن الربيع العربي تنسف مبادئ التوازن الوستفالي بعقيدة عامة تنص على التدخل الانساني”.
في هذا السياق، يضيف الديبوماسي العتيق، “يتم النظر الى الصراعات الاهلية من زاوية الديمقراطية”، وتطالب “القوى الخارجية الحكومات المحلية التفاوض مع خصومها من اجل نقل السلطة، ولكن، لأن الطرفين ينظران الى الموضوع على انه يتعلق ببقائهما، غالبا ما تلاقي الدعوات الخارجية آذانا صماء”.
ولأن القوى المحلية التي يتحدث عنها كيسنجر هي صاحبة قوى متكافئة، يصبح التدخل الخارجي، بما فيه العسكري، ضرورة لترجيح كفة على اخرى. هنا اشكالية الدور الاميركي حسب النظرية الكيسنجرية: “هل تعتبر اميركا نفسها مجبرة على دعم كل انتفاضة شعبية ضد اي حكومة غير ديمقراطية، بما فيها الحكومات التي ينظر العالم الى وجودها كضرورة لحفظ النظام العالمي؟” ويجيب: “فجوات سود تمثل انعدام القانون صارت تتكاثر على خريطة العالم كما في اليمن، والصومال، وشمال مالي، وليبيا، وشمال غربي باكستان، وقد يحصل ذلك في سوريا ايضا”.
لا شك ان مطالعة الدكتور كيسنجر شيقة وتستحق النقاش، ولكن لا شك ايضا ان فجوات عديدة تشوبها، فهي مبنية على اعتبار ان الدول التي اندلعت فيها انتفاضات شعبية ضد الحكام هي دول منقسمة الى فرق، غالبا مذهبية، وهذا صحيح في المشرق العربي كما في الحالات العراقية والسورية واللبنانية، او قبلية وعشائرية كما في اليمن وليبيا. ولكن في تونس، كما في مصر، لا تبرز انقسامات مذهبية او قبلية واضحة، بل ان غالب النزاع اللاحق لانهيار نظامي هذين البلدين، يتعلق بشؤون فلسفة الحكم ما بعد الثورة، فضلا عن الفوضى التي ترافق عادة المراحل الانتقالية، والتي تتراوح في شدتها بحسب الثقافات الشعبية للدول المعنية.
لكن اسقاط كيسنجر لنموذج الانقسام العشائري – المذهبي على جميع دول الربيع العربي تبدو ضربا من التعميم غير المبرر. صحيح ان في مصر وتونس مشاكل لا تعد ولا تصحى، ولكن تفضيل الابقاء على مبدأ السيادة من اجل الاستقرار، حسب معاهدة وستفاليا، والتضحية بالاعتبارات الانسانية، والمطالبة بعدم التدخل العسكري الخارجي حتى عندما تشكل بعض الدول ذات السيادة خطرا على الاستقرار الدولي نفسه، مثل باكستان التي يذكرها كيسنجر والتي لم تشهد تدخلا عسكريا خارجيا، او حتى لبنان او سوريا، اللتين تشكلان خطرا على المنظومة الدولية اليوم حتى من دون التدخل العسكري فيها، كل هذه الاسباب تجعل من حجج كيسنجر تبدو غير مقنعة، وتجعل من شيخ الديبلوماسيين الاميركيين يبدو انه – كعادته – يكتب شيئا، ولكنه في الواقع يضمر شيئا آخر.
موفقين .. وعايزيين نشوف الجديد !؟
ردحذفAllah help you .. I hope Reload topics ...
ردحذف