الثلاثاء، 15 مارس 2016

ترامب وشعبوية اليمين الاميركي


في حزيران 2014، فجّر عضو "حزب الشاي" السياسي المغمور ديفيد برات مفاجأة في الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الجمهوري في ولاية فيرجينيا يوم اطاح منافسه المرشح زعيم الغالبية في الكونغرس اريك كانتور. كانت ارقام استطلاعات الرأي تشير، حتى عشية الانتخابات الحزبية، الى تقدم كانتور بثلاثين نقطة مئوية بعدما انفق 40 دولارا مقابل كل دولار انفقه برات على حملته. لكن برات فاز بفارق عشر نقاط مئوية على كانتور، احد اركان المؤسسة الحاكمة في الحزب والذي كان معروفا بانه من الصقور المتشددين يمينيا.
فوز برات على كانتور كان اول اشارة الى المواجهة التي يشهدها الحزب الجمهوري الاميركي اليوم، والتي تتمثل بانتفاضة شعبية ضد المؤسسة الحاكمة في الحزب والتي يفيد منها الشعبوي دونالد ترامب، متصدر المرشحين الجمهوريين لخوض الانتخابات الرئاسية المقررة في تشرين الثاني المقبل.
وقد تبدو اسباب الانشقاق داخل الحزب الجمهوري غامضة، فالقيادة توغل في تطرفها ويمينيتها لمسايرة القاعدة بشكل يكاد يعطّل مؤسسات الحكومة الفيديرالية بالكامل، وتجمع القيادة والقاعدة على الحب، الذي يقارب التأليه، للرئيس الراحل رونالد ريغان وسياساته اليمينية، التي يصر الحزب الجمهوري انها قادت اميركا الى فترة ذهبية تكللت بالقضاء على منافسها الاتحاد السوفياتي.
لكن القاعدة في الحزب الجمهوري اليوم تثور، ربما بدون وعي، على سياسات ريغان نفسه، فالرئيس الراحل تبنى التجارة الحرّة بالكامل، وحطم غالبية برامج الرعاية التي كانت تقدمها الحكومة الفيديرالية، وخفض الضرائب (اعتقادا من اليمين ان ذلك يحفز الاقتصاد). وأدت سياسات ريغان الى تنشيط التجارة الاميركية مع العالم، وتحفيز رأس المال على الاستثمار، وتشجيع الاستهلاك، ولكنها في الوقت نفسه قلصت دور الحكومة في اعادة توزيع الدخل، فازدادت الهوة الاقتصادية بين الطبقات الاجتماعية.
اما اهم ما انتجته سياسات انفتاح ريغان الاقتصادية، معطوفة على انفتاح سلفه ريتشارد نيسكون على الصين وسوقها المزعومة، فكانت هجرة الصناعة الاميركية الى شرق آسيا للانتاج باسعار أدنى وتحقيق ارباح اكثر. وبعد 28 عاما على خروج ريغان من الحكم، رحلت اكثرية المصانع الاميركية عن البلاد، وتحول الاقتصاد الى الخدمات، وهو ما قلّص عدد الوظائف، خصوصا بين الاقل تخصصا من العمال.
سياسة ثانية انتهجها ريغان، وكانت لمصلحة اصحاب رأس المال، قضت بتوطين العمالة الرخيصة والوافدة بصورة غير شرعية من اميركا الجنوبية. هؤلاء العمال الاجانب يعملون بأجور أقل وينافسون الاميركيين، وهو ما يناسب اصحاب الفنادق، مثلا، ولكنه لا يناسب العاملين الاميركيين في الفنادق.
وجاء ترامب ليقول انه على خطى ريغان، ويقدم — في تناقض واضح مع ريغان — وعودا باغلاق الحدود امام التجارة الحرة، واجبار شركة آبل على اعادة مصانعها الى أميركا تحت طائلة فرض حمايات جمركية كبيرة على منتوجاتها الصينية التي تبيعها في السوق الاميركية. كما وعد ترامب ببناء جدار يبقي العمالة الاجنبية خارج البلاد.
اذا، تعود المعامل الاميركية الى الداخل وتبقى العمالة الاجنبية (ولغتها وثقافتها ومآكلها واسلوب حياتها) في الخارج، وهي وعود يكررها ترامب وتنال اعجاب قاعدة الحزب الجمهوري، خصوصا لدى الاقل اطلاعا منهم على شؤون الاقتصاد في ما يعرف بـ"الحزام الانجيلي"، الذي والى ريغان في الغالب بسبب سياساته اليمينية الاجتماعية والمؤيدة لدور الدين في الدولة.
على ان الشعبوية لا تقتصر على ترامب واليمين. فالمرشح السناتور بيرني ساندرز، عضو الحزب "الديموقراطي الاشتراكي"، يتبنى سياسة اقتصادية تشبه ترامب من حيث معارضته التجارة الحرة مع العالم. ومع ان المتوقع من مرشح يساري ان يكون امميا طبقيا لا قوميا شوفينيا، لا يرى ساندرز مشكلة في القول انه لن يسمح لوظيفة اي عامل اميركي ان تذهب الى عامل فيتنامي، في تصريح قومي اميركي يتشابه مع ما يقوله ترامب.
كما يتشابه ترامب اليميني وساندرز اليساري في المطالبة بعزل اميركا عن العالم، فيقول ترامب انه سيجعل دول الخليج تسدد كلفة اقامة منطقة آمنة في سوريا تجمع المهجرين وتمنعهم من الرحيل الى الغرب، فيما يبدي الاشتراكي ساندرز اعجابه بملك الاردن، ويقول، بما يشبه البلاهة، انه سيطلب في حال توليه الرئاسة من ايران والسعودية ارسال قواتيهما لانهاء الأزمة في سوريا.
هذا ما يقوله المرشحان الشعبويان من اليمين واليسار، لكن الحزبين الديموقراطي اليساري والجمهوري اليميني يتصرفان في الحكم بواقعية اكبر، وان بتكلفة سياسية عالية. مثلا صادق الحزبان على اتفاقية "الشركة عبر الهادئ" التي تقيم منطقة اقتصادية تشكل 40 في المئة من اقتصاد العالم، في الغالب لاحتواء اي صعود كان متوقعا للصين. كذلك، حاول أوباما — بمساعدة كانتور — اقرار قانون لتنظيم العمالة الرخيصة الوافدة بما فيها مصلحة رأس المال والدولة التي تعاني من شيخوخة السكان وتاليا انحدار في حجم الضرائب.
على انه كسائر دول العالم، يبدو ان اميركا، بيمينها ويسارها، تعيش اليوم في زمن الشعبوية والشوفينية القومية، فأوباما لم يتخذ القرارات الاقل شعبية الا في ولايته الثانية، التي يخرج من السياسة بعد انتهائها. اما كانتور، فلم يكد يبدي تأييده لتنظيم الهجرة حتى خسر مستقبله السياسي الذي كان واعدا.
هكذا، فيما يتفق اليمين واليسار في الحكم الاميركي على اقرار قوانين لا تتمتع بشعبية، يتفق اليمين واليسار خارج الحكم على رفض هذه القوانين، ولكن كل حزب على طريقته وبشعبويته: ترامب يرافقها بطابع ديني مسيحي، وساندرز يربطها بتأييده حقوق الاقليات والمثليين. اما وعود ترامب باعادة كل الوظائف من الصين ووعود ساندرز بمنح طبابة وتعليم للجميع، فهي وعود اقتصادية غير واقعية، اما يتخلى عنها صاحبها بعد انتخابه، او يستمر في شعبويته على طريقة هتلر او ستالين مع ما يعني ذلك من تغيير طبيعة الحكم وربما تدمير الدولة بأكملها.
بين وسطية الحكم الاميركي بحزبيه وشعبوية مرشحيه الرئاسيين شرخ واضح بين النخبة، التي تتبنى سياسات لمصلحة الاقتصاد عموما، ورأس المال، وضبط موازنة الدولة بشكل معقول، وبين القواعد الشعبية، التي تريد كسبا سريعا، وان كان وهميا ومتناقضا في بنوده.
ترامب وساندرز لم يخلقا واقع اميركا الحالي، جلّ ما يفعلانه هو تأجيجه والاستفادة منه، واي خطأ من المؤسسة الحاكمة من اي من الحزبين قد يسمح بفوز اي منهما ويكلف تاليا الولايات المتحدة كثيرا. لذلك السبب نفسه رأينا يسار فرنسا ينسحب لمصلحة يمينها لوقف زحف اليمين المتطرف، وهو مشهد يصعب ان يتكرر في اميركا، لذا على كل من الحزبين الاميركيين، خصوصا الجمهوري، استنباط الحلول لمشكلة هي اصلا نتيجة الشعبوية المتراكمة منذ زمن ريغان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق