الثلاثاء، 11 ديسمبر 2018

هل من مانديلا الفلسطيني؟

حسين عبد الحسين

أعاد المهرجان الأممي الذي أقيم للاحتفال بالذكرى المئة لمولد الراحل نلسون مانديلا، أيقونة النضال السلمي ضد التفرقة والعنصرية، إلى الأضواء قصة حياة رجل مثيرة للإعجاب، لم تنجح ثلاثة عقود له في الزنزانة في تحويله إلى حاقد أو ناقم، بل زادته تمسكا بضرورة النضال السلمي، فخرج إلى الحرية، وأخرج جنوب إفريقيا من ظلام التمييز إلى رحابة المساواة، فازداد إعجاب العالم به إعجابا، وصارت أقواله كالنبوءات الصادرة عن الأتقياء والصالحين.

تحول نجاح مانديلا إلهاما لحركات نضالية حول العالم، منها عند الفلسطينيين، إذ رأت النخبة الفلسطينية تشابها في الظلم يتطلب تشابها في أساليب النضال. المشكلة تكمن في أن النخبة الفلسطينية هذه تبنت أسلوب مانديلا السلمي، ولكنها لم تتبن أهدافه.

"بي دي أس" هو اختصار الاسم الإنكليزي لمجموعة "قاطع، اسحب الاستثمارات من إسرائيل، وافرض عقوبات"، وهي من أبرز المجموعات الفلسطينية الناشطة في تنظيم حملات المقاطعة كوسيلة سلمية، ولكن وسيلة لماذا؟

يمكن لأي مطالع لموقع "بي دي أس" أن يرى أن الكلمة الوحيدة المفقودة من أدبيات هذه المجموعة هي كلمة "سلام" بين العرب والإسرائيليين، بل إن المجموعة تطالب بضغط دولي على إسرائيل يصل إلى حد طردها من الأمم المتحدة ومن فيفا، الاتحاد الدولي لكرة القدم.

ولأن السلام بين العرب والإسرائيليين ليس من أهداف "بي دي أس"، يصعب تحديد هدف واضح لهذه المجموعة؛ فهي تسعى أولا إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي "لكل الأراضي العربية". هذه الأراضي، حسب "بي دي أس"، هي الضفة الغربية، وهضبة الجولان السورية، والقدس الشرقية، وقطاع غزة. المطلب التالي لإنهاء "احتلال قطاع غزة" هو إنهاء ما تسميه المجموعة "الحصار القروسطي" للقطاع. لا يهم واقع أن الاحتلال والحصار فكرتان متناقضتان، إذ لا يبدو أن "بي دي أس" حريصة على الدقة في أهدافها.

اقرأ للكاتب أيضا: المؤامرة الأميركية الكبرى!

ثم تطلب "بي دي أس" هدم السور الإسرائيلي، وهو ما يدفع المرء إلى التساؤل: إذا كان هدف مجموعة المقاطعة الفلسطينية إقامة دولتين اسرائيلية وفلسطينية، فلا مبرر فلسطيني للإملاء على الإسرائيليين ما يبنونه على حدودهم. يمكن للفلسطينيين الطلب من الإسرائيليين تعديل مسار الحائط المذكور ليتطابق مع الحدود التي يعتبرها الفلسطينيون حدودهم، ولكن لا يمكن المطالبة بهدم أو تشييد أي سور بين الاثنين.

أما إذا كانت المطالبة الفلسطينية بهدم الحائط الإسرائيلي جزءا من السعي لإقامة دولة واحدة ثنائية القومية، إذ ذاك تنتفي صفة الاحتلال عن الإسرائيليين في أي أراض فلسطينية، وتصبح المشكلة مرتبطة بالمساواة في الحقوق بين المجموعتين السكانيتين.

من أهداف "بي دي أس" المساواة في الحقوق بين اليهود الإسرائيليين والعرب الإسرائيليين. هنا، لا بد من الإشارة إلى أنه لا يبدو أن عرب اسرائيل يرون المقاطعة سبيلهم لتحصيل حقوقهم في إسرائيل، بل الغالب إنهم يتمسكون بالتغيير من داخل المؤسسات الإسرائيلية، مثل إقبالهم على الترشح والانتخاب للكنيست.

ومن أهداف "بي دي أس" كذلك عودة كل الفلسطينيين ممن غادروا أراضيهم إبان حرب 1948، وتشير المجموعة إلى قرار أممي يطالب بذلك. على أن القرار المذكور صادر عن "الجمعية العامة"، ما يعني أنه على عكس قرارات "مجلس الأمن"، ليس قرارا ملزما. حتى بدون القرارات الدولية، تتطلب المطالبة بعودة اللاجئين إلى داخل اسرائيل تحديد رؤية المطالبين، فإن كانوا من المتمسكين بدولة ثنائية القومية، تصبح المطالبة مشروعة وتنتفي صفة احتلال عن الإسرائيليين في الضفة والقدس الشرقية. إما إن كان المطالبون من القائلين بحل الدولتين، يصبح الإصرار على عودة اللاجئين بمثابة المطالبة بحصول على دولتين فلسطينيتين متجاورتين، واحدة منهما مع أقلية عبرية عابرة.

لا تحتاج أدبيات الحملات الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل الكثير من التمحيص لاستنباط هدفها، وهو القضاء على دولة إسرائيل واستبدالها بدولة فلسطينية واحدة، من البحر إلى النهر، وهو ما يعني أن هدف سلمية "بي دي أس" ليس السلام، بل الانتصار سلميا في ما لم تقدر عليه الفصائل الفلسطينية المسلحة عسكريا، وهو هدف لا يسرّع الوصول إلى تسوية وسلام، بل يعيق ذلك.


من يعرف قصة مانديلا قد يعلم أنه اقتيد إلى السجن إبان إعداده ورفاقه عمليات تخريب في جنوب أفريقيا. في سجنه، تحول مانديلا إلى سلميته، وبرر تحوله بالقول إن على المرء أن "لا يخشى النمو". سلمية مانديلا لم تعن تخليه عن العنف للإطاحة بحكومة البيض فحسب، بل تبنيه خطابا يدعو إلى المصالحة، وعدم انتقام السود من البيض في حال إنهاء نظام أبرثايد، والمساواة بين السود والبيض.

هل من فلسطيني يدعو إلى نسيان التاريخ، والعفو عمّا مضى، وإقامة دولة ـ أو اثنتين ـ يعيش مواطنوها بسلام وينعمون بالمساواة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق