الثلاثاء، 29 سبتمبر 2020

يا رفيق لبنان… اشتاق لك اللبنانيون

واشنطن - من حسين عبدالحسين

يساور غالبية اللبنانيين ممن عاشوا في لبنان في زمن رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري شعورا أن البلاد لم تكن لتنهار كانهيارها المأساوي اليوم لو كان الحريري ما يزال حيا. ورفيق الحريري هذا كان من أذكى العاملين في الشأن العام في التاريخ العربي الحديث. لم يكن الرجل ملاكا ولا معصوما عن الخطأ، ولكنه كان يتمتع بحضور مهيب يمنح اللبنانيين والعالم ثقة بأنه قادر على قيادة البلاد في وجه أفدح المشاكل وأكبر الكوارث.

لم يتمكن الراحل الحريري من قيادة لبنان كما يشتهي تماما. في دمشق جلس حكام لبنان من آل الأسد وضباط استخباراتهم العاملة في لبنان، وفي بيروت اختبأ "حزب الله" ومغامراته العسكرية خلف حجم الحريري الدولي الضخم. لم يرسم الحريري قواعد اللعبة السياسية في لبنان، لكنه تعلمها بسرعة. في أولى أيامه ظنّ أن الاتفاقات الإقليمية والدولية كافية لتعطيه مساحة ليعيد تأهيل لبنان بين الأمم. مع الوقت، اكتشف الحريري أنه، فضلا عن علاقاته الدولية ـ كان لا بد له من الترشح للبرلمان وقيادة كتلة برلمانية تسمح له بالتصدي للمتطفلين على السياسة من المخبرين وكتبة التقارير ممن فرضتهم دمشق نوابا ووزراء.

ما أنجزه رفيق الحريري قارب المعجزة. في بلاد مرّت بحرب أهلية مدمرة على مدى 15 عاما، فيها طبقة فاسدة من الضباط السوريين وشركائهم السياسيين اللبنانيين، وميليشيا "حزب الله" التي رفضت أي تسوية مع إسرائيل كانت ستؤدي لانسحاب الإسرائيليين قبل سنوات من انسحابهم في العام 2000. مع ذلك، انقلب لبنان ـ من شماله إلى جنوبه ـ إلى ورشة إعمار كبيرة، وظهرت الطرقات السريعة والواسعة، وظهر مطار عصري حديث، وعادت التغذية الكهربائية على مدار الساعة، واختفت القمامة من قارعات الطرق، وعادت المؤسسات والشركات الدولية والإقليمية إلى بيروت.

رؤية الحريري للبنان كانت بسيطة وقضت بتحويل لبنان إلى مركز مالي واستشفائي وتعليمي وسياحي لدول الإقليم والعالم، وهي نفس الفكرة التي طبقتها الإمارات بنجاح. وكانت كلّما عكّرت مغامرات "حزب الله" العسكرية خطة الحريري، وظّف حجمه الدولي والمحلي لوقف المغامرة، بالتي هي أحسن، إلى أن انسحبت إسرائيل ولم يعد للحزب اللبناني الموالي لإيران وظيفة، فراح الحريري يعقد لقاءات حوار دورية مع زعيم الحزب حسن نصرالله لإقناعه بإنهاء العمل المسلح والانضواء تحت سلطة الدولة.

رأى الحريري في حرب العراق ومشروع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش نشر الديمقراطية فرصة للتخلص من وصاية آل الأسد على لبنان وإقناع "حزب الله" بضرورة لبننته. لكن طغاة إيران وسوريا ولبنان لا يستسيغون الناس من أصحاب الرؤى والآراء المختلفة، فأجمعوا على التخلص منه، وزرع كل منهم خنجره في صدر الحريري، حسب التقليد القبلي القائل بضرورة توزيع الدم لتفادي الثأر.

حتى يوم اغتياله في 14 فبراير 2005، قلّما بادل الحريري من افتروا عليه عداونهم، بل كان يعتقد أنه كبير، وأن الكبار يحتملون الصغار في سبيل تسيير الأعمال والوصول بلبنان إلى مواقع أفضل واقتصاد أكبر. الجيل السوري واللبناني الأول لم يكن يشعر بضعف أمام الحريري، حافظ الأسد وممثله في لبنان غازي كنعان، ورئيس لبنان الراحل الياس الهراوي، كلهم كانوا يتعاملون والحريري كالدجاجة التي تبيض لهم ذهبا، ينتزعون منها بيضها من دون أن يقتلوها لعلمهم أن ذبحها يعني نهاية البحبوحة للجميع.

ابن الأسد بشار لم يكن كوالده. شعر بالغيرة من مكانة الحريري ونفوذه الدولي والمحلي، ومثل بشّار شعر ممثله رستم غزالة بحقد على الحريري، ومثلهما شعر قائد الجيش المفروض رئيسا للبنان إميل لحود. كان نظام الأسد وأزلامه من السياسيين اللبنانيين كلّما هاجموا الحريري، خسروا من رصيدهم الشعبي وارتفعت شعبية الحريري.

اللبنانيون لم يكونوا ساذجين. كانوا يرون عسس الاستخبارات والعسكر في الأسد ولحود وطبقتهما السياسية اللبنانية، وكانوا يرون في الحريري نموا اقتصاديا ووظائف وبحبوحة ومكانة للبنان بين الأمم. مكانة الحريري أثارت كذلك غيرة من أطلقوا على أنفسهم اسم "المحبطين المسيحيين"، خصوصا قائد الجيش المهزوم والمنفي في حينه ميشال عون، الذي راح ومناصروه يهاجمون الحريري على أسس عقائدية، واتهموه بمماشاة الاحتلال السوري، فيما هم يناضلون ضد هذا الاحتلال وضد سلاح "حزب الله". طبعا عرفنا فيما بعد أن معارضة عون لم تكن وطنية ولا عقائدية، بل على الطريقة التي يسميها اللبنانيون "قوم لاقعد (اجلس) مكانك"، إذ بين الخطاب الذي أدلى به عون في نادي الصحافة في واشنطن واتهم فيه "حزب الله" أنه إرهابي، وجلوس عون مع نصرالله للتوقيع على تحالف مع الحزب نفسه، لم تكن إلا أسابيع قليلة. لم يكن عون حريصا على "السيادة والاستقلال" كما كان يدّعي، بل كان يعاني من عقدة نقص تجاه الحريري الذي أعاد إحياء لبنان وتصدّر قيادته. وفي تحريضه ضد الحريري، استخدم عون كل الوسائل الغرائزية، مثل اعتبار أن الحريري كان سعوديا يتماهى مع حضارة بدوية إسلامية لا تتناسب وحضارة لبنان غير الإسلامية العريقة.

على أن رفيق الحريري كان صبره طويلا، ولم ينفد إلا قبيل اغتياله بقليل، وفي مقابلة تم نشرها معه بعد مماته، قال الحريري إنه لطالما تحمّل تحريض الآخرين ضده، ولكنه قرر أنه لن يسمح بالاعتداء على كرامته بعد ذلك الوقت. قتلوه.

لو كان رفيق الحريري حيا اليوم لكان منع انهيار الليرة اللبنانية والاقتصاد. لا نعرف كيف، لكن الرجل كان ساحرا، يسحب الأرانب من قبعته كل يوم.

لو كان رفيق الحريري حيا اليوم لتوصل لتسوية بين المجتمع الدولي وإيران لتحييد لبنان، وحفظ ماء وجه "حزب الله"، ولتوصل لاتفاقيات ضمنية مع إسرائيل تضمن عدم اعتداء الحزب عليها، ولأبقى ثقة العالم والمستثمرين بلبنان عالية، ولأبقى السياحة مزدهرة، ولأبقى اللبنانيين ينعمون بشعور أن "الحريري بيحلها".

لم يعرف بعض اللبنانيين قيمة الحريري حتى فقدوه. أهانوه، ظلموه، قتلوه، وجعلوا من لبنانه الآمن الجميل البرّاق لبنانا استخباراتيا ميليشياويا فاشلا بلا اقتصاد ولا أمل. يا رفيق الحريري، يا رفيق لبنان، اشتاق لك اللبنانيون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق