حسين عبدالحسين
على مدى العقدين الماضيين، هلّل العالم للانهيار المرتقب للغرب وديمقراطيته. سال حبر كثير في تحليل "انحدار الغرب وصعود الباقين". وبدا وكأن في العالم قوة تضاهي الغرب وتهدد سطوته، أطلق عليها الغرب تسمية "دول بريكس"، وهي مجموعة دول في طليعتها الصين، واقتصادها الصاعد حينها بشكل صاروخي، ومعها روسيا، القوة العظمى سابقا، فضلا عن الهند، والبرازيل وجنوب أفريقيا.
وفي وقت كان "الباقون" يتمتعون بفوائض في موازناتهم، غالبا بسبب صادراتهم من المواد الأولية (باستثناء الصين)، أطلقت الصين مشروعها "الحزام والطريق"، في العام 2013، وسط تباهيها ببنائها أطول جسر في العالم، وأسرع قطار، وغيرها. بعد ذلك بعام، أعلن رئيس روسيا فلاديمير بوتين إطلاق مصرف "بريكس"، برأسمال قدره 100 مليار دولار، لمنافسة صندوق النقد والبنك الدوليين.
وراحت الدول ذات الاقتصادات الأصغر والنفوذ الأضعف تعلن تمردها على النظام العالمي الذي يقوده الغرب. فأعلن رئيس مصر الراحل محمد مرسي نيته إبعاد بلاده عن أميركا وانضمامها إلى "بريكس"؛ ومثله يردد رئيس تركيا رجب طيب أردوغان الموقف نفسه، الذي تطور ليصل إلى حد إمكانية خروج أنقرة من "تحالف الأطلسي" برمته، على خلفية إصرار تركيا شراء منظومة دفاع جوي روسية تتعارض وبقائها في التحالف. ولم تفوت إيران فرصة إعلان انخراطها في المنظومة العالمية المناهضة للغرب "المستكبر الكافر"، وراحت إيران، ومعها روسيا وتركيا والصين، تعلن ـ بشكل متكرر ـ تحالفها اقتصاديا لدحر التفوق الغربي، وتجاهل النظام العالمي، وحقوق الإنسان، والديمقراطية.
أمام الكونغرس الأميركي، الشهر الماضي، لفت ديريك سزرز، وهو خبير أميركي متخصص بالصين في معهد "أميركان إنتربرايز"، إلى أن حجم الاستثمارات الصينية في الدول المنخرط في مشروع "الحزام والطريق" انخفضت إلى أربعة مليارات دولار ونصف في أبريل، وأنها توزعت على 50 دولة فقط، من الدول الـ 137 التي يفترض أنها منخرطة في المشروع الصيني. وقال سزرز إن بكين لم تقدم نسب نمو استثماراتها، وهي الطريقة الصينية للقول إنها لم تحقق نموا، بل ضمرت. ويعتقد الخبير الأميركي أنه حتى تصل الصين إلى استثمار مبلغ ترليون دولار المعلن عنها، سيستغرقها حتى العام 2040، وهو ما يعني أنه إن كان المشروع "خطة مارشال" صينية، فهي خطة بطيئة جدا.
ومثل تعثر استثمارات الصين في دول المشروع، تعثر إنفاقها على البنية التحتية المرافقة له. وفي حال بقي الإنفاق الصيني على وتيرته، يتحقق المشروع في العام 2069 بدلا من 2049 المعلنة. ويعزو سزرز ضمور مشروع "الحزام والطريق" إلى انخفاض في احتياطي الصين من أربعة إلى ثلاثة ترليون دولار، بالتزامن مع ارتفاع الدين الصيني من 6.5 ترليون دولار في العام 2008، إلى 33 ترليونا اليوم، وهو ما يعني أن النمو الاقتصادي الصيني، الذي انخفض من أكثر من عشرة في المئة إلى حوالي ستة في المئة في السنوات الأخيرة، هو نمو ممول بدين يبلغ 150 في المئة حجم الدين العام الأميركي، وأن الاحتياطي الصيني قد لا يعود للنمو بنفس الوتيرة، بل ربما يتقلص، وهو ما يهدد مشروع "الحزام والطريق" برمته. ولم تمر أسابيع على شهادة سزرز حتى أعلنت الصين، منتصف هذا الشهر، أنها حققت أدنى نمو اقتصادي لها في 30 عاما.
أما روسيا، فهي بعد احتلالها شبه جزيرة القرم، تعرضت لعقوبات أميركية قاسية، فراح اقتصادها يضمر، وعديد سكانها يتناقص، ومبيعات أسلحتها تتراجع حول العالم. هكذا وقف بوتين، في قمة بريكس العام الماضي، وبدلا من تقديم منجزات مصرف بريكس والنظام العالمي الجديد الذي يشيده مع الصين وغيرها، قدم مطالب كان أقصاها حثّ الدول الحاضرة على "تقليص" اعتمادها على الدولار الأميركي كعملة احتياط العالم.
ومع اهتزاز اقتصاد الصين وروسيا، ظهرت قوة أميركا في عقوباتها الأحادية على إيران. ويبدو أن طهران صدّقت، بادئ الأمر، الدعاية الكاذبة التي تبثها عن انحدار الغرب وتقهقره وصعود "الباقين". لكن عقوبات أميركا الأحادية شلّت اقتصاد إيران أكثر من تلك الدولية التي كانت مفروضة على طهران قبل التوصل للاتفاقية النووية معها. حتى الصين، التي تتناوش مع أميركا وتتعرض صادراتها إلى السوق الأميركية لزيادات جمركية، امتثلت للطلب الأميركي بوقف شراء الطاقة من إيران.
لم ينحدر الغرب، ولم يصعد الشرق، ولن يكون القرن الحالي قرنا صينيا يلي القرن الأميركي الماضي، وها قد انقضى عقدان من القرن الحالي، وما زالت أميركا والغرب في صدارة العالم.
لم يأت التفوق الأميركي والغربي بسبب الكولونيالية أو استغلال الشعوب، فهذه أميركا توقف صادرات إيران النفطية، بدلا من السعي لزيادتها والاستيلاء عليها، حسب نظريات المؤامرة السائدة.
بقاء أميركا والغرب في القمة، وتعثر "الباقين" في اللحاق هو لنفس سبب تفوق الغرب أصلا، وهي حرية شعوب هذه الدول، والديمقراطية، فالحرية تطلق عنان مخيلة الناس، وتدفعهم للمبادرة، فتأتي أبرز عشر اختراعات في العقدين الماضيين من أميركا، والغالب أن تأتي أبرز عشر اختراعات في العقدين المقبلين من أميركا كذلك.
أما المفارقة، فتكمن في أن أحد من يقفون خلف أبرز اختراعات هذا العصر، محرك بحث غوغل، هو الروسي سيرجي برين، الذي هاجرت عائلته إلى الولايات المتحدة وهو في عمر السادسة. يبلغ برين 45 عاما من العمر، وتبلغ ثروته حوالي 50 مليار دولار، أو ما يوازي عشرين في المئة من احتياطي روسيا بأكمله.
لم يتدرج برين في الاستخبارات، لم يسرق، لم يقتل، لم يرتق مناصب الدولة بوساطة أقرباء، ولم يكتب تقارير بحق زملائه ليتسلق إلى القيادة على ظهورهم، بل تنعّم برين بالحرية، وأطلق عنان مخيلته، غامر، استدان، بنى واحدة من أكبر الشركات في العالم، ولم يخش أن يطرق بابه أزلام القيصر ليبتزونه ويفرضون أن يشاركهم في رزقه. تحول برين من ابن مهاجرين إلى واحد من أغنى 15 شخصا في العالم. لهذا ستبقى الدول الديمقراطية فوق، وسيبقى "الباقون" تحت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق