| واشنطن - من حسين عبدالحسين |
يصنف علماء السياسة الأميركيون دورات الانتخابات الأميركية بدرجات متفاوتة من السهولة أو الصعوبة، بحسب موقع الحزب من الحكم والمعارضة. الانتخابات الأكثر سهولة ليكسبها الحزب المعارض هي التي تأتي في نهاية الولاية الثانية للرئيس الحاكم، إذ أن الملل يصيب الناخبين - من الحزبين - من المجموعة الحاكمة، ويمضي الناخبون في البحث عن مرشحي التغيير.
هكذا اكتسح الرئيس الديموقراطي الأسبق باراك أوباما وحزبه البيت الأبيض والكونغرس في العام 2008 بعد ثماني سنوات على حكم الرئيس الجمهوري السابق جورج بوش الابن.
انتخابات أي رئيس للفوز بولاية ثانية لا تكون عادة بسهولة دخوله الحكم في ولايته الأولى، لكن يصعب على أي منافس التغلب على رئيس حاكم، إذ أن اسمه وصورته وتصاريحه تملأ الأثير الواقعي والافتراضي. هكذا، فاز بوش بولاية ثانية في 2004، وفاز أوباما بولاية ثانية عام 2012. وهكذا، اعتبر علماء السياسة الأميركيون أن محافظة الديموقراطيين على البيت الأبيض لولاية ثالثة كان أصبح صعباً في 2016، في سنة يطلق عليها الأميركيون تقليدياً اسم «السنة التغييرية».
الجمهوري دونالد ترامب لم يشذ عن القاعدة بفوزه بالرئاسة في «سنة تغييرية»، وهو كوجه جديد في السياسة، ألحق هزيمة نكراء بعائلة كلينتون التي كانت أمضت قرابة العقدين في أرفع المناصب في واشنطن، من الرئاسة الى مجلس الشيوخ فوزارة الخارجية. لكن فوز ترامب لم يكن مقنعاً البتة، بل هو كان فوزاً ضعيفاً ومهزوزاً، حصل من قبيل الصدفة، واقتصر على فوزه على هيلاري كلينتون بإجمالي 77 ألف صوت في ست ولايات متأرجحة، من أصل 140 مليون أميركي أدلوا بأصواتهم حينها.
أما على الصعيد الشعبي، فبدا ضعف الحزب الجمهوري، اذ على الرغم من فوز الوجه الجديد ترامب على كلينتون التي كان سئم منها الأميركيون في سنة 2016 «التغييرية»، الا أن كلينتون تفوقت على ترامب بإجمالي الأصوات التي حصدتها في عموم البلاد بفارق ثلاثة ملايين صوت، ولولا «الكلية الانتخابية»، لحافظ الديموقراطيون على البيت الأبيض.
في الحقيقة، لم يفز الجمهوريون بالتصويت الشعبي منذ 1988... أي أنه لولا الكلية الانتخابية، لم يكن بوش الابن ليفوز بولايتين، ولم يكن ترامب ليفوز بولايته، ولكان البيت الأبيض في أيدي الديموقراطيين منذ 1992.
وكان الجمهوريون، على اثر خسارة مرشحهم ميت رومني أمام أوباما في 2012، باشروا في ورشة تقييم مشكلة تدهور شعبيتهم، وأصدروا دراسات متعددة أظهرت أن لا مناص من الانفتاح على الأقليات، والخروج من القوقعة بين الغالبية البيضاء، التي لم تعد تكفي للحفاظ على القدرة التنافسية للحزب الجمهوري، بكلام آخر، تظهر نتائج الانتخابات المتكررة أنه لولا التحايل على رسم الدوائر الانتخابية وعلى قوانين الانتخابات، لما نجح الجمهوريون في المنافسة على السلطة في واشنطن.
ثم جاء ترامب في سنة كانت شعبوية اليمين المتطرف تجتاح أوروبا والعالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، وهي الشعبوية المبنية على تحذير البيض من خطر المهاجرين وغير البيض وغير المسيحيين وما الى هنالك من عمليات تخويف من الآخر بهدف شد العصب ودفع البيض الى الاصطفاف خلف مرشحهم، بغض النظر عن نجاعة سياسته أو قدراته الإدارية. هكذا، بدا ترامب، «تاجر الشنطة» ونجم «تلفزيون الواقع»، مخلصا للبيض الجمهوريين من خطر الآخرين، وفاز بترشيح حزبه.
لكن القاعدة الشعبية للحزب لم تتوسع، بل ان الرئيس الأميركي فاز بقوة «الكلية الانتخابية»، وراح يطعن بكل تقاليد الديموقراطية الأميركية ومؤسسات الدولة، حتى أن أنصار ترامب تبنوا مقولات تعادي الديموقراطية، وتصرُّ على أن الولايات المتحدة «جمهورية» اتحادية فيديرالية، أي أنها ليست ديموقراطية متجانسة.
ومرّت أربع سنوات، ليستنتج البيض أن الخطر المحدِق بهم لا يأتي من غير السود أو الملونين، بل من عدم كفاءة الحكام البيض، وهو ما تجلّى في فشل ترامب في مكافحة فيروس كورونا المستجد. ولم تنفع محاولات ترامب تأليب الأميركيين ضد الصين، ولم تنفع مقولاته أن المرض «مزيف» وأن الإعلام يضخم المواضيع، اذ راح الفيروس يحصد البيض في مآوي الطاعنين في السن، فدخل الموت بيوت ربع مليون أميركي، من الجمهوريين منهم ممن صدقوا ترامب أكثر من الديموقراطيين، ممن التزموا تعاليم الخبراء والعلماء.
هكذا، فقد الرئيس الجمهوري أبرز قطاع سكاني كان انقلب من تأييده أوباما والديموقراطيين في 2012 الى تأييده ترامب في 2016، وهو قطاع البيض من المتعلمين وخريجي الكليات ممن يسكنون ضواحي كبرى المدن، ولم يبق مع ترامب والجمهوريين إلا فئة واحدة من السكان، وهي غالباً من الريفيين البيض من الأقل علماً وأقل دخلاً، وأغلبهم من الرجال الكهول.
وهكذا، تفوقت حملة المرشح الديموقراطي للرئاسة نائب الرئيس السابق جو بايدن على ترامب وحملته في كل الحقول. مثلاً، غالباً ما يتمتع الرئيس برصيد مالي من التبرعات الانتخابية أكبر من منافسه، اذ ان الرئاسة تمنح المرشح بريقا يدفع محبي الأضواء، خصوصاً من كبار المتمولين، للتبرع للرئيس وحضور المناسبات التي يشارك فيها.
لكن في دورة الانتخابات الرئاسية المقرّرة الثلاثاء المقبل، جمع بايدن من المال الانتخابي ثلاثة أضعاف ما جمعه ترامب، حتى ان الرئيس اضطر لوقف حملته الدعائية في ولاية فلوريدا المتأرجحة والحساسة قبل أسبوع من موعد الانتخابات، في وقت ضخت حملة بايدن ثمانية ملايين دولار لتمويل دعايتها في الولاية نفسها على مدى الأسبوع ذاته.
ويعزو الخبراء سبب تفوق بايدن مالياً الى أن قاعدته تتشكل من غالبية من الطبقة المتوسطة الأكثر ثراء، مقارنة بالريفيين المؤيدين لترامب، من ذوي القدرات المالية الأدنى من نظرائهم سكان المدن.
والأموال الانتخابية ليست للدعاية فحسب، بل هي تمول افتتاح مكاتب انتخابية في عموم البلاد، خصوصا الولايات المتأرجحة، والمكاتب تحتاج لموظفين لإدارتها، والموظفون يديرون «الحملة الأرضية»، ولكل هذه الدورة اقتصاد خاص ينعش البلدة التي يجري فيها، وهو ما فعلته حملة بايدن، في وقت كانت حملة ترامب توقف دعايته، وتغلق مكاتبها وتسرّح موظفيها.
حتى لو فاز ترامب، صار من شبه المؤكد أن التركيبة السكانية تتطور في مصلحة الديموقراطيين، وعلى حساب الجمهوريين، وهو ما سيدفع الحزب الجمهوري - عاجلاً أم آجلاً - الى الخروج من قوقعته بين اليمين الأبيض. أما في حال خسارة ترامب، فسيتأكد الجمهوريون أن الفوز الجمهوري «اليتيم» في 2016 كان فلتة شوط لا أكثر، وأن المطلوب المباشرة بالتغييرات في عقيدة الحزب وتوجهاته منذ اللحظة التي تلي إعلان فوز جو بايدن.
وفي وقت اقترع أكثر من 75 مليوناً من الناخبين في التصويت المبكر، يداهم الوقت مساعي المرشّح الجمهوري لقلب مسار الأمور.
وقد تعيد الأيام الأخيرة للحملة الانتخابية الى الواجهة قضايا تجيّش الشارع على غرار عنف الشرطة والعنصرية، التي أطلقت شرارة تحرّكات احتجاجية حاشدة على خلفية مقتل الأميركي الأسود جورج فلويد على يد شرطي أبيض في أواخر مايو في مينيابوليس.
وفرض حظر تجول الأربعاء في مدينة فيلادلفيا الواقعة في ولاية بنسلفانيا المتوقّع أن تشهد معركة انتخابية حامية، بعد مقتل الإفريقي الأميركي والتر والاس الذي كان يعاني من مشاكل نفسية برصاص الشرطة، ما تسبّب بتظاهرات وأعمال نهب.