الثلاثاء، 30 نوفمبر 2021

حرب غزة في كتاب يضعها في سياقها

حسين عبدالحسين

الحرب التي شنتها، في مايو الماضي، حركة حماس الفلسطينية على إسرائيل لم تكن تتمة للصراع العربي الإسرائيلي المنحسر، على ما دأب الإعلام العالمي على تصويرها، بل هي شكّلت حلقة من حلقات الصراع المندلع بين إيران وإسرائيل، حسب الزميل في "مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات" جوناثان شانزر، في كتابه "صراع غزة 2021"، الصادر هذا الشهر. 

يقدم الكتاب خلفية تاريخية موجزة حول تاريخ الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ويشير إلى أن حماس نجحت في القضاء على عملية السلام، التي كانت بدأت في العام 1993، بين اسرائيل و"حركة التحرير" الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات، وهي عملية كانت تهدف إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل. وأفضت المفاوضات إلى تسليم الإسرائيليين الفلسطينيين أراض كانوا سيطروا عليها في حرب 1967. 

لكن حماس، المنبثقة عن التنظيم العالمي لـ "الإخوان المسلمين"، كان لها رأي آخر، إذ شنت حملة هجمات انتحارية أوقفت العملية السلمية بالكامل، وأفضت في نهاية المطاف إلى "الانتفاضة الثانية" في العام 2000. على أنه في 2005، قام رئيس حكومة إسرائيل الراحل، آرييل شارون، بتجربة قضت بالانسحاب من قطاع غزة، وتفكيك المستوطنات الإسرائيلية فيه، وتسليمه للسلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس. اعتقد شارون أنه يمكن لحكومة فلسطينية الإمساك أمنيا بأي أراض تنسحب منها إسرائيل، وأن تقوم السلطة بحكم هذه الأراضي. 

لكن الفساد المدقع الذي تغرق به السلطة كلّفها سيطرتها على القطاع، الذي نفّذت فيه حماس انقلابا عسكريا تضمّن إعدام مئات مسؤولي السلطة العسكريين والمدنيين. ومنذ العام 2007، والقطاع تحت سيطرة حركة تعلن أن القضاء الكامل على إسرائيل هو هدفها، وتتسلح بعتاد إيراني وأموال، وهو ما يجعلها رهينة سياسة طهران تجاه إسرائيل. 

التجربة الإسرائيلية لإقامة دولة فلسطينية من جانب واحد فشلت بعد فشلها في غزة، وانتهت العملية السلمية، ولم يعد واردا أي انسحاب إسرائيلي من أي أراض في الضفة الغربية، لأن الانسحاب صار يعيد إلى الأذهان اكتساح حماس لأي أراض تتركها إسرائيل وتحولها إلى بؤرة عسكرية تهدد الاستقرار في إسرائيل بشكل متواصل. 

ويشير شانزر إلى أنه في ظل العداء القائم بين السلطة الفلسطينية وحماس، وسيطرة الأولى على الضفة الغربية والثانية على قطاع غزة، لم يعد ممكنا البحث في التوصل إلى حل الدولتين بين ثلاثة أطراف، هي: اسرائيل والسلطة وحماس، وهو ما يعني أن الأمور ستستمر على ما هي عليه حتى إشعار آخر.

في ظل الجمود القائم بين إسرائيل والفلسطينيين، ينقل شانزر عن المسؤولين الإسرائيليين اعتقادهم أن الوضع حاليا يمكن الإشارة إليه على أنه "الحرب بين الحروب"، أي حرب شبه باردة بين إسرائيل وايران تمتد على رقعة الشرق الأوسط والبحرين المتوسط والأحمر، وتقوم أثناءها إيران بمحاولة توسيع رقعة نفوذها وإقامة قواعد متقدمة داخل سوريا حتى تهدد أمن إسرائيل بشكل أكبر.

إسرائيل، بدورها، تخوض حربا سرية، استخباراتية وعسكرية وإلكترونية، تقوم خلالها باستهداف مواقع استراتيجية داخل إيران، كما داخل سوريا وفي عموم المنطقة. 

أما الرد الإيراني، فيأتي غالبا بمضاعفة رهانها على الميليشيات التي يمكنها تهديد إسرائيل، "حزب الله" شمالا وحماس جنوبا. وتسعى إيران دائما إلى تزويد هاتين المجموعتين، اللتين تصنفهما الولايات المتحدة وعدد كبير من دول العالم إرهابيتين، بأحدث الأسلحة والتقنيات الإيرانية، والتي يبدو أخطرها اليوم المسيرات (درون) المفخخة، والتي يمكن استخدامها في الجو وكذلك تحت الماء. 

ويشير شانزر إلى أن إسرائيل نجحت، أثناء حرب غزة في مايو، بتدمير عدد من مفخخات حماس البحرية التي كانت تستهدف منشآت إسرائيلية للطاقة في عرض المتوسط. كذلك، يقول الباحث الأميركي إن إسرائيل طورت أحدث التقنيات، بالاشتراك مع الولايات المتحدة، من قبيل أنظمة الدفاع الجوي للتصدي للصواريخ والمسيرات، والتي أبلت بلاء حسنا في حرب غزة الأخيرة، وكذلك بناء سور تحت الأرض لمنع حماس من بناء أنفاق قامت في الماضي باستخدامها لشن هجمات داخل الأراضي الإسرائيلية. 

ولا ينسى الكاتب التطرق إلى أحداث العنف داخل إسرائيل التي رافقت حرب غزة، والتي بادر إلى القيام بها عدد من عرب إسرائيل، فواجهوا عنفا مضادا من يهود إسرائيل. ويعتبر شانزر أن مما لا شك فيه أن عرب إسرائيل يعانون من فقر وإهمال، ولكنه يعزو وضعهم هذا إلى رفضهم المشاركة في منظومة الحكم الإسرائيلية. وإلى أن شاركت كتلة "رعم" التي يقودها، منصور عباس، في الائتلاف الحاكم في إسرائيل اليوم، اقتصرت مشاركة العرب في الحياة السياسية في إسرائيل على انتخاب نواب ممن يرفضون المشاركة في أي ائتلافات حكومية، ويستخدمون مواقعهم في الكنيست الإسرائيلي غالبا لبث مواقف شعبوية معارضة لوجود إسرائيل برمتها. 

ختاما، يدعو شانزر الأميركيين، وخصوصا الإعلام الأميركي، إلى التحري بشكل أعمق حول خلفية الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، وعدم الاكتفاء بالكتابة عن الأمور بشكل سطحي كالسائد. كما يدعو الأميركيين، وخصوصا الكونغرس، إلى مضاعفة مراهنتهم على إسرائيل، في ظل الحديث عن انسحاب الولايات المتحدة بالكامل من منطقة الشرق الأوسط. 

ويختم شانزر القول إن قدرات إسرائيل العسكرية والتكنولوجية تسمح لها بأن تواصل حماية المصالح القومية للولايات المتحدة في المنطقة حتى بعد الانسحاب الأميركي، وهو ما يتطلب دعما متواصلا من الكونغرس والبيت الأبيض والأميركيين بشكل عام لإسرائيل ولتسليحها ودعمها ماليا ودبلوماسيا بشكل عام.

الثلاثاء، 23 نوفمبر 2021

مهزلة الانتخابات اللبنانية

حسين عبدالحسين

لم أسجّل نفسي كلبناني مغترب للاقتراع في الانتخابات اللبنانية المقررة في 27 آذار - مارس، ولن أزور لبنان للإدلاء بصوتي. أما هذه المقالة، فتعمدت أن أكتبها بعد مرور موعد تسجيل المقترعين اللبنانيين المغتربين حتى لا أؤثر في آراء أي مغترب لبناني قد يقرأ هذه السطور، فيمتنع عن التسجيل، مع أن أرقام تسجيل المغتربين جاءت متدنية أصلا. المغتربون اللبنانيون لا يرون التغيير ممكنا، وهم لو اعتقدوه كذلك، لكانوا على الأرجح عادوا إلى وطنهم الأم. 

الانتخابات أداة تغيير في الدول التي تستجيب أنظمتها للتغيير، ولبنان ليس منها، ما يعني أن الانتخابات اللبنانية ستلعب دورا معاكسا للذي يريده المطالبون بالتغيير، فتمنح المستبدين من حكام لبنان غطاء تبريريا لحكمهم، وتسمح لميليشيا "حزب الله" الشيعية الموالية لمرشد إيران، علي خامنئي، أن تشير إلى الانتخابات لتؤكد أن في لبنان حرية واختيار.

يأس اللبنانيين دفعهم إلى التنادي للاقتراع بكثافة لاعتقادهم أنه الخيار الوحيد المتاح للتغيير فيما الواقع هو أنه، في الوضع القائم، لا تغيير في لبنان، لا في انتخابات ولا في ثورات، بل إن التغيير الوحيد الممكن هو في أن يضعف نظام إيران – ربما في حال وفاة خامنئي والاضطرابات الممكنة التي سترافق عملية خلافته – وهو ما يؤدي لاهتزاز "حزب الله" وضعف قبضته الممسكة بلبنان.

بدون ضعف نظام إيران، لا تغيير يلوح في الأفق اللبناني، حتى لو افترضنا أن جبهة من الشباب المستقلين المعارضين للحزب وسلاحه فازت في الانتخابات، لا علاقة واضحة بين الحاق هزيمة بـ "حزب الله" انتخابيا وإضعاف قبضته كمقدمة للتغيير.

يعني حتى لو فاز أصدقاء من خيرة الناشطين في العمل السياسي، من أمثال، ميشال دويهي ومارك ضو وماريا مانوك ورنا خوري ونزار غانم ومصطفى فحص وأمل شريف، حتى لو فاز هؤلاء وأمثالهم وأصدقاؤهم بكتلة من 86 مقعدا، أي ثلثي "مجلس النواب" اللبناني، وهو ما يسمح لهم بانتخاب رئيسي جمهورية وبرلمان وتشكيل حكومة تفرض تصنيف "حزب الله" ميليشيا غير دستورية، لن يسمح "حزب الله" لهذه الكتلة أن ترى النور، أو أن تصل مبنى البرلمان، أو أن تقسم اليمين، أو أن تجتمع. ولن يتأخر الحزب المذكور عن تصفية أعضاء منها، ونشر مقاتليه في مناطق معارضيه لترهيبهم، وكلها نشاطات سبق للميليشيا الموالية لإيران أن قامت بها منذ مقتل رئيس الحكومة السابق، رفيق الحريري، في 2005، حيث اتهمت محكمة الأمم المتحدة قادة في "حزب الله" بارتكاب الجريمة.

في 2005، لم يفز تحالف "حزب الله" بغالبية برلمانية، ثم بعدما انتهت ولاية، أميل لحود، الرئاسية، أغلق الحزب البرلمان ليمنع الغالبية من انتخاب رئيس منها، وطارد النواب الذين اختبأوا في فندق تحت حماية مشددة. وعندما أصدرت حكومة لبنان قرارا بتفكيك شبكة الاتصالات الأرضية الخاصة بالحزب، شنت الميليشيا حربا أهلية في 7 أيار 2008، فسارع المجتمع الدولي لإعادة الاستقرار باجباره الغالبية على قبول مطالب الحزب ومشاركته في حكومة "وحدة وطنية" وانتخاب رئيس توافقي. حتى في "الوحدة الوطنية"، استبعد "حزب الله" رئيس الحكومة، فؤاد السنيورة، عن تشكيل حكومة ثانية، فالوحدة الوطنية لدى "حزب الله" يعني أن يسود رأيه وحده.

وعشية انتخابات 2009، كان الحزب واثقا من حتمية فوزه، فأدلى زعيمه، حسن نصرالله، بخطاب قال فيه أنه بموجب نتائج الانتخابات، ستحكم الغالبية وستعارض الأقلية. لكن تحالف "حزب الله" خسر الانتخابات، فتراجع نصرالله، وعاد إلى المطالبة بحكومة توافقية، وأقفل البرلمان في 2014 عامين، ليفرض انتخاب، ميشال عون، رئيسا، وهو ما يطرح السؤال التالي: ما قيمة الانتخابات اللبنانية، أو أي من المؤسسات، إن كان التوافق السياسي شرطا لعملها فيما غيابه يعطّلها؟ وإن لم يتم النقاش، وحسم رأي ضد آخر داخل المؤسسات، فأين يكون؟ عبر العنف في الشارع، وربما الحرب الأهلية؟ 

هذا هو تاريخ "حزب الله" منذ تسلمه الحكم في لبنان خلفا لنظام آل الأسد الذي كان يمسك بالبلاد منذ 1991، يطلّ نصرالله في خطابات يتمسكن فيها، ويعلن فيها أن حزبه لا يحكم، وأنه يتشاور ويتشارك، لكن الواقع هو أنه لا يمكن لأي شيعي أن يترشح في مناطق "حزب الله" ويقدم خطابا انتخابيا لا يوافق عليه الحزب، مثل المطالبة بنزع سلاح الميليشيا والتزام الحياد الإقليمي الذي ينادي به بطريرك المسيحيين الموارنة، بشارة الراعي. ومن نافل القول أنه لا يمكن لأي مرشح شيعي، تحت طائلة الإيذاء الجسدي، أن يترشح في دوائر يسيطر عليها "حزب الله" ويطالب بسلام إقليمي، بما في ذلك مع إسرائيل.

هذا هو شكل الانتخابات في لبنان، النقاش ينحصر في مواضيع يوافق عليها "حزب الله" سلفا. مع ذلك، يتظاهر المرشحون أنهم يقدمون برامج انتخابية وأفكارا خلاقة. ثم يقولون لك اقترع حتى تغيّر فيما المرشحون أنفسهم غير قادرين على قول كل ما في بالهم أو في بال ناخبيهم، خشية الإيذاء الجسدي الذي قد يلحقهم بسبب عنف "حزب الله".

اللبنانيون ممن يرون أن الانتخابات هي السبيل الوحيد للتغيير هم كمن يرى لبنان جثة ويعتقد أنه لو عانقها فستفتح عيونها. لبنان مات ولا خلاص للبنانيين إلا بإعادة تشكيل جمهوريتهم من جديد، وتشكيلها متعذر بدون تساوي المشاركين، والمساواة متعذرة بدون نزع السلاح الذي يفرض شكل أي حوار وطني ونتائجه.

الثلاثاء، 16 نوفمبر 2021

للأسياد مصلحتهم وللمرتزقة بئس المصير

حسين عبدالحسين

مفارقة الأسبوع الماضي ظهرت في قيام الإمارات بقطع علاقاتها الديبلوماسية مع لبنان، بسبب تصريحات وزير الإعلام اللبناني، جورج قرداحي، وهو أحد رجال الرئيس السوري، بشار الأسد، في لبنان، وفي نفس الوقت قيام الإمارات نفسها بالانفتاح على الأسد بزيارة قام بها وزير خارجيتها، عبدالله بن زايد، إلى دمشق. لم يتواسط الأسد لقرداحي ولا لبنان، إذ إن الرئيس السوري يستميت على تحسين صورته واستعادة عضويته في جامعة الدول العربية، أما لبنان، فأداة لا بأس من استخدامها ثم رميها.

ومثل علاقة الأسد بأزلامه اللبنانيين كذلك علاقة نظام ايران بمرتزقتها العراقيين. في بغداد، سرّبت الميليشيات الموالية لإيران إلى وكالة رويترز تبنيها عملية إطلاق مسيّرات مفخخة على منزل رئيس حكومة العراق، مصطفى الكاظمي، في محاولة لاغتياله. لكن الميليشيات نفسها أصرّت أنها قامت بالعملية من تلقاء نفسها وبدون علم طهران. على أن هذا الادعاء، الذي يهدف إلى تلميع صورة إيران الدولية على حساب صورة ميليشياتها، لا يتوافق وبنية الميليشيات الشديدة الانضباط، ولا يتوافق مع علاقة الميلشيات "الولائية" مع أسيادها في "الحرس الثوري الإيراني".

أسباب محاولة اغتيال الكاظمي بسيطة. اكتسب الرجل مصداقية وسمعة حيادية لأنه لم يترشح للانتخابات العراقية التي أقيمت الشهر الماضي. هذه الحيادية رفعت من مصداقية الانتخابات وحرمت الميلشيات العراقية "الولائية" إمكانية الطعن بالنتائج بعدما تكبدت هزيمة نكراء شهدت تقلّص عدد مقاعدها من 48 إلى 15 مقعدا في "مجلس النوّاب" العراقي. 

مصداقية الكاظمي وقفت حجر عثرة أمام تقويض النتائج، ما دفع إيران إلى محاولة التخلص منه، لكن نجاته من الاغتيال أكسبته تعاطفا دوليا ونقمة على الإيرانيين، ما دفع بطهران إلى محاولة التنصل من مسؤوليتها وإلقائها على مرتزقتها العراقيين. 

على أن إيران حرصت على توجيه تحذير مبطن للغالبية العراقية البرلمانية الجديدة التي جعلت من حلّ الميليشيات هدفها، فردد المسؤولون الإيرانيون ومثلهم أزلامهم في العراق من أمثال، نوري المالكي، وقيس الخزعلي، في معرض إدانتهم محاولة الاغتيال، أن تشكيل غالبية بدون أزلام إيران ثم حلّ الميلشيات سيؤديان إلى حرب أهلية عراقية، وهي حرب يعتقد جماعة إيران أنهم سيفوزون بها، وأن التسوية التي ترافق إيقافها هي التي تمنح أزلام إيران نصف الدولة، التي يمكنهم استخدامها للسيطرة على النصف الآخر مستقبلا.

نموذج أزلام إيران في العراق مطابق لنموذج "حزب الله" اللبناني، الذي خسر الانتخابات البرلمانية أمام غالبية معارضة لسلاحه في 2005 و2009، لكن بعد الهزيمتين، عمد الحزب إلى الأسلوب نفسه الذي تحاول الميلشيات "الولائية" في العراق تنفيذه عن طريق الاعتصام المفتوح والتظاهر وفرض إغلاق مؤسسات الدولة، وإن لم تنفع كل هذه الأساليب، يتم استخدام العنف ضد الخصوم. 

هكذا، أغلق "حزب الله" مجلس النواب اللبناني، ومنع انتخاب رئيس للجمهورية، وعندما تحركت حكومة الغالبية لتفكيك شبكة اتصالات الحزب، شن الأخير "حربا أهلية" في 7 أيار - مايو 2008، وتسبب العنف بمجهود دولي للتسوية نجمت عنه "اتفاقية الدوحة"، التي حرمت الغالبية اللبنانية الحكم وأجبرتها على مشاركته في إطار "وحدة وطنية".

وفي العام 2009، كان "حزب الله" واثقا من الفوز في الانتخابات إلى حد دفع زعيمه، حسن نصرالله، إلى التوجه إلى منافسيه بالقول إن الحكومة المقبلة ستتألف من الغالبية، وإن الأقلية ستعارض. ثم لقي الحزب هزيمة انتخابية فتراجع نصرالله عن وعده، وأصرّ على "حكومة وحدة وطنية"، معتبرا أن لبنان "ليس ديموقراطية، بل ديموقراطية توافقية". ثم أغلق "حزب الله" البرلمان اللبناني مجددا في 2014، ولمدة عامين، عندما فشل في فرض مرشحه، ميشال عون، للرئاسة، إلى أن أذعن معارضوه ووافقوا على انتخاب عون. منذ 2016 ولبنان تحت سيطرة "حزب الله" الكاملة.

السلطة القضائية أفلتت من أيدي "حزب الله". ربما هو لم يعتقد أنه سيحتاجها يوما. لكن بعد انفجار مرفأ بيروت العام الماضي، قام القضاء اللبناني بتحقيقات قد تكشف نشاطات غير قانونية للحزب، فعمد "حزب الله" أولا إلى ترهيب القضاة، ثم ترهيب أنصار حكم الدولة في "غزوة الطيونة"، ثم إلى منع الحكومة من الانعقاد إلى أن ينال مناله بنسف العدالة في موضوع المرفأ.

كل التزوير الانتخابي وتعطيل الحكومات والعنف والاغتيالات والحروب الأهلية، في العراق ولبنان واليمن، كلها بهدف السيطرة على دول وتحويلها إلى قواعد صواريخ ومسيّرات مفخخة تعتقد طهران أنها في أي مواجهة عسكرية مع الغرب أو أميركا يمكنها إطلاق آلاف الصواريخ والمسيرات ضد أهداف تابعة لأميركا وحلفائها، وبذلك تعيق أي تحرك عسكري ضد النظام الإسلامي في إيران. هذا هو السبب الرئيس الذي يدفع إيران لتمويل وإقامة ميليشيات تابعة لها في العراق وسوريا ولبنان واليمن.

لكن إقامة إيران لميليشيات بهدف تحقيق أهداف طهران في السياسة الدولية لا يعني أن النظام الإسلامي حريص على سمعة أو مصلحة هذه الميلشيات.

في العراق، لم تتوانى إيران عن توجيه أصابع الاتهام لميليشياتها في محاولة اغتيال الكاظمي للحفاظ على صورتها دوليا. وفي اليمن، لم تتوانى إيران عن قتل، علي عبدالله صالح، يوم لم يعد مفيدا لها.

حتى في لبنان، حيث حليف إيران الأقدم والأقوى "حزب الله"، لم تتوانى إيران عن تركه عرضة للعقوبات الأميركية في نفس الوقت الذي كانت إيران تتفق مع أميركا على رفع العقوبات عنها. ففي تشرين الأول أكتوبر 2015، توصّلت أميركا لاتفاقية نووية مع إيران قضت برفع عقوبات أساسية عن طهران مقابل تجميد النووي الإيراني ووضعه تحت مراقبة دولية. وجاء في الاتفاق أنه في حال فرضت أميركا عقوبات على إيران، يعتبر الاتفاق بحكم المنتهي.

بعد شهرين، أي في كانون الأول ديسمبر 2015، وافق الكونغرس بالاجماع على قانون عقوبات على "حزب الله" وقعه الرئيس السابق، باراك أوباما. لم تحرك طهران ساكنا ولا هي اعتبرت العقوبات على لبنان كافية لتعطيل الاتفاق النووي. طهران لا تتوانى عن توريط مرتزقتها العرب في حروب وتلطيخ سمعتهم ثم التخلي عنهم كيفما يتفق مع مصالحها.

هكذا هم المرتزقة، يعتقدون أنفسهم شركاء. أما أسيادهم، فلا يرونهم إلا أدوات يستخدمونها ويرمونها كيفما تقتضي مصلحة الأسياد.

الثلاثاء، 9 نوفمبر 2021

الأردن بارقة أمل في المشرق العربي المظلم

حسين عبدالحسين

ما الذي يجعل المملكة الهاشمية في الأردن واحة استقرار ونمو اقتصادي يخالف الانهيار الأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي السائد في باقي دول المشرق العربي- سوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية- فضلا عن العراق؟ 

الإجابة معقدة، ولكن يمكن تبسيطها بالإشارة إلى أن الأردن هو الدولة الوحيدة التي هزمت "الفوضى الثورية" التي تجتاح المشرق والعراق منذ منتصف القرن الماضي، وهي الموجة التي اتخذت لنفسها وجها عروبيا علمانيا ناصريا في العقود الأولى، ما لبث أن انقلب إلى وجه إسلاموي يطلق على نفسه تسمية "محور الممانعة" أو "المقاومة" أو غير ذلك من التسميات الشعبوية المراهقة.

أثمر تفوق الملكية الهاشمية على الفوضويين الثورويين — عروبيين وإسلامويين — استقرارا انعكس إيجابا على الاقتصاد الأردني. وكان الأردن أول من رفع الشعار الوطني "الأردن أولا" يوم قام ملكه الراحل الحسين بحسم المواجهة ضد الفصائل الفلسطينية التي استباحت الدولة باسم "تحرير فلسطين". واستكمل الملك الحسين تقديمه المصلحة الأردنية على مصالح "الأشقاء العرب" بتوقيعه اتفاقية سلام مع إسرائيل، وهي اتفاقية عززت ثقة العالم ومستثمريه بالأردن، الذي نما اقتصاده بسرعة كبيرة على مدى العقد الأول من هذا القرن. 

وبسبب استقراره الأمني ونموه الاقتصادي، تحوّل الأردن وطنا بديلا، لا للاجئين العراقيين (منذ زمن الراحل صدام حسين) فحسب، بل للاجئين السوريين بعد ذلك، واليوم يفتح أبوابه للاجئين اللبنانيين. واللاجئون لا يسكنون جميعهم مخيمات الأمم المتحدة، بل منهم كثيرون من المتموّلين والتجار وحاملي الشهادات العليا. هكذا تضاعف عدد سكان الأردن من خمسة ملايين في العام 2000 الى 10 ملايين اليوم. 

هذا النوع من الزيادة السكانية السريعة غالبا ما يؤدي إلى اهتزاز الدول المضيفة، وأحيانا لانهيارها، والأردن ليس استثناء، بل هو يعاني من صعوبات، لكن اقتصاده ينمو بشكل يعكس قدرة التغلب على الأزمات، في وقت تستعين عمّان بشبكة صداقات دولية متينة سببها سياسة عدم الانحياز التي تتبناها المملكة منذ عقود. 

مثلا، يوم وقعت قطيعة بين قطر وباقي دول الخليج، سحب الأردن سفيره من الدوحة في خطوة حظيت بتغطية إعلامية، لكنه لم يقم بقطع العلاقات الديبلوماسية مع قطر.

وعلى طراز سياسة الكويت الخارجية، المعروفة بالإنكليزية بسياسة "السير على السور"، دأبت عمّان على الحفاظ على أكبر عدد من الصداقات، حتى بين الدول المتنافسة. ومن صداقات الأردن علاقة مع دولة إسرائيل تعود على الأردنيين بفوائد اقتصادية جمّة. 

وسياسة الحياد التي يتبناها الأردن والكويت هي التي ينادي بها بطريرك الموارنة كسياسة دولة لبنان، لكن لبنان يقع تحت لعنة "محور المقاومة"، وتتسبب له الحروب والانحيازات الإقليمية المتواصلة بانهيار اقتصادي مؤلم.

لكن على خلاف الكويت، الدولة الصغيرة صاحبة الاحتياط النفطي الضخم وصاحبة أكبر صندوق سيادي في العالم، لا يتمتع الأردن بطاقة للتصدير أو بمواد أولية يمكنها اثراء سكانه. مع ذلك، نجحت سياسات الأردن في التخفيف من قسوة الطبيعة الصحرواية القاحلة للبلاد على معيشة السكان، وهو ما أدى إلى نمو اقتصاد الأردن حتى صار حجمه أكبر من حجم اقتصاد سوريا ولبنان.

وفي وقت يعاني لبنان- بسبب انحيازه لإيران ضد دول الخليج- من إقفال دول الخليج والعالم أسواقها في وجه صادراته، التي بلغت بالكاد أربعة مليارات دولار في العام 2020، تعدت صادرات الأردن للعام نفسه عتبة الثمانية مليارات دولار. 

ويصدّر الأردن ربع صادراته إلى الولايات المتحدة، و10 في المئة منها إلى الهند، وتتضمن هذه الصادرات صناعات نسيجية، في دولة لا قطن فيها ومياهها شحيحة، وتبلغ قيمة الصادرات النسيجية أكثر من مليار ونصف المليار دولار، فيما تبلغ قيمة صادرات الأدوية المصنّعة في الأردن 700 مليونا. 

وإلى الصادرات الصناعية، نجح الأردن في تصدير الخدمات، إذ يحصد القطاع الصحي الأردني مليار دولار من 10 مليارات ينفقها عرب الخليج والعراق على "السياحة الاستشفائية"، كما حققت الخطوط الملكية الأردنية أرباحا سنويا بقيمة 160 مليون دولار في العام 2019، وذلك غالبا بسبب الرحلات المباشرة بين الأردن والولايات المتحدة وكندا (والمتعذرة على خطوط جو العراق وسوريا ولبنان لأسباب أمنية). وللمقارنة، تبلغ قيمة المساعدة التي سيقدمها المجتمع الدولي لشراء غاز مصري لتزويد لبنان بساعات قليلة من الكهرباء 200 مليون دولار سنويا.

ومن المشاريع الدولية كذلك إمكانية شراء العالم كهرباء أردنية للبنان لأن الأردن يتمتع بفائض، وهو ما يُظهِر الفارق بين عمّان، التي بنت بنى تحتية تنتج فوائض، مقارنة بالعراق وسوريا ولبنان، التي أنفقت أموالا طائلة لم ينجم عنها معامل إنتاج كهرباء تعمل بسبب الفساد المدقع.

ولأن الأردن يعاني شحّا في المياه وبعض التباطؤ الاقتصادي، أعلن وزيرا اقتصاد الأردن وإسرائيل توقيع اتفاقيات قضت بمضاعفة إسرائيل كمية المياه التي تزودها للأردن حتى تبلغ 50 مليون مترا مكعبا سنويا، كما قضت بزيادة صادرات الأردن إلى الضفة الغربية من 160 مليون دولار حاليا إلى 700 مليونا، وهو ما يعني زيادة نصف مليار دولار سنوية في إجمالي صادرات الأردن، أي نمو بنسبة ستة في المئة.

ومن شأن توقيع اتفاقيات السلام بين الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، من ناحية، وإسرائيل، من ناحية ثانية، أن يمنح الأردن فرصا اقتصادية أكبر كبوابة للتجارة والاستثمار بين إسرائيل وباقي الدول العربية. ولو أن العراق وقّع اتفاقية سلام مع إسرائيل، لارتفع الناتج المحلي للفرد لكل من العراق والأردن وإسرائيل بنسب كبيرة. لكن العراق مشغول بالأساطير الثورية التي تُغرِقُه في الفقر والبؤس.

الأردن من الدول النامية اقتصاديا، وما زال يعاني من نسبة بطالة مرتفعة. لكن بالمقارنة بالدول الفاشلة المحيطة به- العراق وسوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية- يبدو الأردن واحة استقرار ونمو وبحبوحة، ويبدو بارقة أمل في منطقة مستقبلها قاتم أكثر من حاضرها. 

أما الدول الثورية في العراق ولبنان وسوريا، فما عليها إلا التشبه بالأردن وحذو حذوه، والتركيز على السلام والحياد والنمو الاقتصادي والمعرفي والاجتماعي، بدلا من حالات الانهيار واليأس التي تعيشها.

الثلاثاء، 2 نوفمبر 2021

اقتصاد السوق سيدفع السعودية لسلام مع اسرائيل

حسين عبدالحسين

أعلنت وزارة الاستثمارات السعودية، الأسبوع الماضي، موافقتها على افتتاح مقرات إقليمية لـ 44 من كبرى شركات العالم في المملكة. وأضافت الوزارة أن الهدف هو استقطاب مقرات مشابهة لـ 380 شركة عالمية مع نهاية العقد الحالي. وتسير السعودية على خطى الإمارات، وتتبنى اقتصاد السوق، وهو ما سيسمح لها دخول القرن الحالي، لا كصاحبة عائدات نفطية ضخمة، بل كإحدى أكثر الاقتصادات ديناميكية وإنتاجية وجاذبية للمستثمرين والمهاجرين.

والتحول الاقتصادي السعودي سيفرض تحولا فكريا، بما في ذلك في رؤية الرياض والسعوديين عموما للعلاقات الدولية وما يحركها، وسيتخلى السعوديون عن الرؤية القبلية العاطفية في اتخاذ مواقفهم السياسة المحلية والإقليمية، وسيستبدلونها برؤية واقعية تعلي المصالح على المشاعر، وهي نظرة تشبه نظرة شعوب دول العالم المتطور، كما في أميركا الشمالية وأوروبا وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية. 

وسيفرض اقتصاد السوق على السعوديين النظر إلى الصراعات الإقليمية من وجهة نظر "المصالح القومية للمملكة العربية السعودية"، وهو ما يعني أن الرياض ستتبنى سياسات تخدم اقتصادها ونموه ونمو مداخيل السعوديين، وهو ما يعني حتما الانخراط مع إسرائيل، صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في منطقة الشرق الأوسط، بالتساوي مع الإمارات، وخلف السعودية وتركيا.

هذا لا يعني بالضرورة أن الرياض ستسارع لتبادل السفارات مع إسرائيل، ولكن هذا يعني أن الشركات الدولية، التي تفتتح مقراتها الإقليمية في المملكة، ستحتاج إلى علاقات بين السعودية وكل القوى الاقتصادية الإقليمية، منها إسرائيل، وحتى مع إيران لو قررت الأخيرة أن تتحول من ميليشيا وعصابات إلى دولة ومصالح. 

مثلا، من الشركات الـ 44 التي افتتحت مقراتها في السعودية الأسبوع الماضي، كانت شركة سيمنز العملاقة، صاحبة الاستثمارات الضخمة في إسرائيل، حيث تموّل الشركة مراكز أبحاث وتجارب، وتستفيد من تفوق اليد العاملة الإسرائيلية في شؤون التكنولوجيا للتوصل لابتكارات جديدة وتحويلها إلى سلع تجارية ربحية. 

هذا يعني أن المقرّ الاقليمي لسيمنز في السعودية سيكون مضطرا للتواصل مع مركز أبحاث الشركة في إسرائيل، وسيقوم سعوديون ومقيمون يعملون في سيمنز السعودية بزيارات إلى مراكزهم في إسرائيل، وسيقوم الإسرائيليون — اليهود والعرب — من العاملين في مراكز سيمنز في إسرائيل بزيارة مقرّ الشركة الإقليمي في السعودية. 

ومثل سيمنز ستحتاج كبرى شركات العالم من التي تفتتح مقراتها الإقليمية في السعودية، فيما مراكز أبحاثها في إسرائيل — من أمازون الأميركية وعلي بابا الصينية، إلى مرسيدس الألمانية وسامسونج الكورية — إلى التواصل بين ذراعيها الإقليميين، وهو ما سيحتّم قيام علاقات تجارية ومالية واقتصادية بين السعودية وإسرائيل، حتى بدون علاقات دبلوماسية رسمية بينهما.

ومع مرور الوقت، ستجد كل من السعودية وإسرائيل نفسيهما بحاجة لافتتاح مكاتب رعاية مصالح لدى الطرف الآخر، وربما تتطور المكاتب إلى قنصليات وسفارات، ويتفرع منها علاقات سياحية مربحة، وربما ثقافية وتعليمية وغيرها.

النظام العالمي الحديث حوّل المعمورة إلى قرية صغيرة، تتسابق فيها الدول بحسب قوة اقتصادات المعرفة التي تبنيها. وتتضمن قائمة الدول المنخرطة في السباق، دولا اشتراكية، مثل الاسكندنافية، وشيوعية، مثل الصين. 

في الماضي القريب، دخلت الإمارات هذا العالم الحديث، وانعكس ذلك إلى نتائج باهرة على اقتصادها وعلى مستوى معيشة الناس فيها، واليوم تلحق السعودية بالإمارات في الانضمام لنادي الدول المتقدمة، حيث التنافس ليس حول الأرض أو الموارد الأولية، ولا عسكريا، بل التنافس معرفي لا حدود فيه للدول بالمعنى الذي اكتسبته على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين.

لكن ولوج نادي الاقتصادات التي تتنافس معرفيا ليس أمرا يسيرا، إذ ما تزال بعض أكبر دول العالم، بما فيها صاحبة أكبر احتياطات نفط مثل روسيا وإيران، خارج هذا النادي ويتعذر عليها دخوله. وبسبب بقائها خارجه، تواصل هذه الدول العمل بموجب القوانين البائدة بين الأمم، مثل التنافس الإمبريالي للسيطرة على دول أخرى، وعلى اقتصاداتها وناسها. 

لكن الدول المتقدمة لم تعد مهتمة بالسباق بشكله القديم المتخلف. لا يهم الولايات المتحدة إن سيطرت روسيا على سوريا أو ليبيا، فليس في سوريا أو ليبيا شراكات مالية أو اقتصادية ممكنة، ولا أسواق، ولا كفاءات عاملة للانخراط في سباق الابتكارات. كل ما في سوريا أرض شبه قاحلة فيها ملايين يتحاربون أو يعيشون في طغيان، وهو ما يجعل أولوية أميركا إبقاء حروب وفوضى السوريين داخل بلادهم، وكذلك في ليبيا أو أفغانستان أو لبنان أو أي من الدول الفاشلة حول العالم.

يوم أصدرت جامعة الدول العربية قرارات مقاطعة إسرائيل، ويوم أعلن العرب لاءاتهم الثلاثة من الخرطوم، كان عديد الناس ومواردهم الطبيعية ومساحة أراضيهم تؤثر في السياسة الدولية. اليوم، لم تعد المساحة ولا الموارد ولا عديد الناس عوامل ذات تأثير في العلاقات الدولية، وصار يمكن لدول صغيرة بمساحتها وعدد سكانها، لكنها متقدمة في علومها وتنظيمها وتجارتها — مثل سنغافورة الآسيوية أو سويسرا الأوروبية أو موريشيوس الأفريقية — أن تتصدر الاقتصاد العالمي وتقدم لناسها حياة تبقيهم في أراضيهم، بدلا من تدفق المهاجرين على الغرب من الصين وروسيا وإيران وسوريا ولبنان. 

ومن الدول الصغيرة، وإنما الناجحة، إسرائيل والإمارات. وتسعى السعودية للانضمام لهما ولعالم لا ينظر إلى الوراء لمواصلة حروب الماضي، بل يسعى لمستقبل زاهر ويعقد السلام لأجله. 

قد تبدو السعودية صحراء قاحلة ودولة جامدة، لكنها فعليا تصدرت التغيير بمراحله المتعددة، فيما فشلت نظيراتها في الاحتياطات النفطية في ذلك. السعودية، منذ انهمرت عليها عائدات النفط الضخمة قبل سبعين عاما، مرّت بمراحل تنمية اقتصادية متعددة سعت فيها جميعها للتحديث. في باكورة العهد النفطي، استخدم حكام السعودية عائداتهم لتمويل برامج اجتماعية ضخمة حوّلت البلاد الى أكبر مجتمع استهلاكي في العالم، مجتمع يستهلك فيه السعوديون من دون الحاجة للعمل والكسب. بعد ذلك، عكف السعوديون على إقامة مدن صناعية على شكل جزر نموذجية، وتمويل مشاريع تنموية، ومارسوا حمايات اقتصادية، مثل السعودة وغيرها.

اليوم، تسعى السعودية لدخول العصر القائم على المعرفة والتجارة والسلام. هي سياسة تبدو تخليا عن شعارات الماضي، لكن من لا يتغير يموت.