حسين عبدالحسين
قد يكون مسجد "قبة الصخرة" في القدس من أشهر المباني العالمية، وهو عبارة عن بناء مثمّن الأضلاع، على رأسه قبّة تظلل بدورها صخرة، يسميها المسلمون صخرة المعراج، ويعتقدون ان فيها أثر قدم الرسول في آخر خطوة له قبل عروجه الى السماء. المسيحيون، بدورهم، يعتقدون أن الأثر نفسه هو أثر القدم اليسرى للسيد المسيح، قبيل ارتقائه الى السماء، بعد 40 يوماً من قيامه بعد الصلب. ومسجد قبة الصخرة بناه الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان في العام 695 للميلاد.
لكن إذا كانت الصخرة تحت "قبة الصخرة" هي قدم المسيح اليُسرى، فأين اليُمنى؟ بحسب التقليد المسيحي، فإن أثر القدم اليمنى ما زال في موضع صعود المسيح الى السماء، أي تحت قبة "كنيسة الصعود"، وهذا بناء مثمّن الأضلاع أيضاً، يشبه في تصميمه مسجد "قبة الصخرة" الى حد بعيد، لكنه أكثر تواضعاً، وأصغر حجماً.
وتقول الروايات المتواترة ان والدة الامبراطور البيزنطي، قسطنطين الكبير، الذي أعلن المسيحية ديناً للامبراطورية ونقل عاصمتها من روما الى القسطنطينية - اسطنبول، هي التي بنت "كنيسة الصعود" في العام 392 ميلادية، ثم رممها الصليبيون في القرن الثاني عشر للميلاد.
ما يهمنا في تشابه تصميم المبنَيين وتشابه الأسطورة المرافقة لهما، قدَم محمد ومعراجه الى السماء من مسجد "قبة الصخرة"، وقدم المسيح وصعوده الى السماء من كنيسة فيها قبة تظلل صخرة كذلك، هو عدد الأضلاع لكل منهما: ثمانية.
ومثمّن الأضلاع هو شكل أحد أشهر المباني الأثرية في كرخ بغداد، في مقبرة السيدة زبيدة أو السيدة زمرد خاتون. ويختلف المؤرخون على هوية صاحبة الضريح، فيعتبر البعض انه يعود الى زبيدة، زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد. ويرى البعض الآخر أنه قبر زمرد خاتون، والدة الخليفة الناصر لدين الله. وتعلو القبر العراقي، قبة تشبه البرج، وتشبه البرج الذي يعلو قبر النبي دانيال جنوبي إيران. ودانيال من أنبياء اليهود، حسب العهد القديم، وهو عاش في بابل في القرن السادس قبل الميلاد، وتنبأ بسقوط نبونعيد، آخر ملوك ما بين النهرين.
ولبرج قبر زبيدة قصة ترتبط ببابل وبرجها، لكن ما يهمنا هنا هو القاعدة المثمّنة. أما أهم ما اشتهرت به زبيدة، فكان قيامها برعاية طريق الحج العراقي بنصبها محطات استراحة فيها مياه، لذا تم إطلاق اسم "درب زبيدة" على هذا الطريق.
واسم زبيدة في العراق يساوي اسم زنوبيا او زينب في بلاد الشام، وهو ما قد يفسر كيف تحولت عين الماء في قرية راوية، جنوبي دمشق، الى ضريح السيدة زينب اليوم، أي ارتباط زبيدة وزينب بعملية الري ومنح الحياة. وفي الآية 30 من سورة الانبياء "وجعلنا من الماء كل شيء حي".
هذه المقدمة الطويلة لربط عملية منح الحياة بالري، كما في بغداد ودمشق، والقيامة من الموت والصعود الى السماء، كما في القدس، القاسم المشترك الأبرز بين عناصرها هو الرقم ثمانية.
والرقم ثمانية لا يرمز الى الميلاد الأول، بل الى الميلاد الثاني بعد القيام من الموت. ولأن الله خلق الكون في ستة أيام، واستوى على العرش في اليوم السابع، يصبح اليوم الثامن رمز بداية الحياة الجديدة، حياة القيامة ما بعد الموت، ومعها الصعود الى السماء أو المعراج. ولأن المسيحية تتمحور حول القيامة والعودة الى الحياة بعد الصلب، يقدّس المسيحيون اسم الرب في "اليوم الثامن"، اي اليوم الأول من الأسبوع التالي، أو يوم الأحد.
وكان الرومان لا يهنأون بميلاد طفل إلا في اليوم الثامن لميلاده، الذي كان يعتبرونه يوم ميلاده الفعلي. وثمانية أيام تفصل يوم ميلاد المسيح عن ميلاد الشمس في سنة جديدة، اي رأس السنة. ويحتفل اليهود بعيد هانوكه (ضاع اللفظ السامي الفعلي وقد يكون حانقوه او غير ذلك) باضاءتهم ثماني شُموع، واحدة كل يوم. على ان التقليد اليهودي لم يُضِع لفظ اسم التقليد فحسب، بل اضاع كذلك الأسطورة الأصلية التي يرجح أنها كانت مرافقة له. يهود اليوم، يحتفلون بمعجزة بقاء زيت الإنارة يشتعل لثمانية ايام، ليسمح لجيش اسرائيلي بالتغلب على خصومه، لكن الأرجح أن هذه أسطورة تمت صناعتها لاحقاً، واستبدلت سابقة متعلقة بالحياة بعد الموت. ويصادف هانوكه غالباً في فترة الميلاد المسيحي.
لماذا اختار الأقدمون، الرقم ثمانية للرمز الى الحياة الثانية والصعود الى السماء؟ لا يمكن الإجابة الا بالتكهن. اما ابرز ما يتبادر الى ذهن الباحث، عند دراسة رمزية الأرقام لدى القدماء، فهو النظر الى الكواكب ومجموعات النجوم. فقد ربطوا الرقم خمسة بكوكب الزهرة ومفهوم القوة، وربطوا عُطارد الأقرب الى الشمس بأسطورة الإله الأقرب الى الإله الأعلى، وهو ما يعطي الكوكب ورقمه، أي ستة، رمزاً رسولياً.
والخوض في كيفية ربط الأرقام بالكواكب، يحتاج الى تفصيل لا مجال للتوسع فيه هنا، لكن من نافل القول أنه يمكن ترجيح ارتباط الرقم ثمانية بالكوكبة المعروفة بـ"الجبّار" عند العرب، وبـ"أوريون" لدى اليونان، وهي مؤلفة من ثماني نجوم، مرتبة على شكل الرقم 8.
هذه الكوكبة هي من الكواكب شبه دائمة الحضور في السماء، بسبب البُعد الهائل لنجومها عن الأرض، ما يقلص تأثير حركة الأرض في رؤيتها ويجعلها أكثر حضوراً، على غرار "الدب الأصغر" و"الدب الأكبر"، الحاضرَين دائماً بسبب تمركزهما فوق القطب الشمالي، ما يعني انه كيفما تحركت الأرض، يمكن لسكان النصف الشمالي رؤية هذه الكوكبة، وتالياً الاسترشاد بها اثناء السفر بسبب حضورها الدائم.
و"الجبّار" هذا على حضوره شبه الدائم، يغيب احياناً، ويعود، وهو ما دفع الأقدمين الى ربطه بقصص الإله الذي يعود من الموت، على غرار دموزي البابلي وأدونيس الفينيقي.
والمعلومات عن "الجبّار" شحيحة، وتأتي من مصادر غير إسلامية، مثل القديس يوحنا الدمشقي، العامل في بلاط الأمويين، الذي كتب أن العرب كانوا يعبدون إلهاً اسمه "جبّار". وهو كلام، إن صحّ، قد يفسر الهندسة الأموية المثمنة في "قبة الصخرة". ولا شك أن الصخرة سابقة للبناء والقبة، ويمكن ان تكون حازت اهتماماً كصخرة صعود الى السماء قبل بناء المسجد، وأن المسجد شُيد أصلاً لتكريس اهميتها، ثم تغيرت الأسطورة المرافقة الى حكاية المعراج المذكور في الحديث حصراً دون القرآن. ومن غير المستبعد لدى الأقدمين تشييد بناء ديني متمحور حول صخرة، مثل حالة الكعبة والحجر الأسود.
والرقم ثمانية يرد في القرآن في الآية 17 من سورة الحاقة: "والملك على ارجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية". والصورة القرآنية، لناحية قيام العرش فوق ثمانية، ليست بعيدة من صورة الإضلاع الثمانية التي تحمل قبة الصخرة أو برج قبر زبيدة.
الرقم ثمانية هو رمز تجدد الحياة. نراه في "قبة الصخرة" و"كنيسة الصعود" و"قبر زبيدة"، كما نراه في السماء في كوكبة "الجبّار - أوريون"، وفي الأيام الفاصلة بين الميلاد ورأس السنة، وفي عدد أيام عيد هانوكه اليهودي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق