واشنطن: حسين عبد الحسين
في وقت انصب فيه اهتمام غالبية المراقبين على انسحاب الرئيس دونالد ترمب من الاتفاقية النووية مع إيران في الثامن من مايو (أيار) الماضي، قلة منهم أعارت بنود المذكرة، التي وقعها يومذاك، الكثير من الاهتمام.
في البند الرابع من تلك المذكرة، التي أوعز فيها الرئيس الأميركي للوزارات والوكالات الفيدرالية بإعادة العمل بالعقوبات التي كانت مفروضة على إيران قبل دخول الاتفاقية النووية معها حيز التنفيذ، وتحت عنوان «الاستعداد لحالات الطوارئ الإقليمية»، أورد ترمب التالي: «على وزير الدفاع ورؤساء الوكالات المعنية الإعداد للتعامل، بسرعة وحسم، مع أي شكل من أشكال الاعتداءات الإيرانية الممكنة على الولايات المتحدة، أو على حلفائنا وأصدقائنا». وأضاف البند المذكور أن «على وزارة الدفاع أن تضمن تطوير الولايات المتحدة لوسائل لوقف إيران من تطوير أو حيازة سلاح نووي»، أو «أي أنظمة مرتبطة به»، أي الصواريخ البالستية.
على أثر تعليمات ترمب إلى وزارة الدفاع بالاستعداد لاحتمال اندلاع مواجهة عسكرية بين أميركا وإيران، زارت وفود أميركية عواصم حليفة في الخليج والشرق الأوسط، وعقدت لقاءات رفيعة المستوى هدفها إعداد سيناريوهات أي مواجهة ممكنة مع الإيرانيين، والقيام بالاستعدادات المطلوبة للتعامل مع هذه السيناريوات المختلفة. بكلام آخر، حرصت القيادة العسكرية الأميركية على تأكيد أن خيار المواجهة العسكرية الأميركي ضد إيران أصبح متوفراً، في حال قرر الرئيس الأميركي استخدامه.
منذ ذلك التاريخ أيضاً، دفعت عدد من التطورات الولايات المتحدة وإيران إلى مواقع أقرب إلى الحرب منها إلى الدبلوماسية، ووفقا لمصدر مطلع، فالقمة التي سيلتقي فيها ترمب نظيره الروسي فلاديمير بوتين، في هلسنكي في السادس عشر من الشهر الحالي، سيقدم بموجبها الرئيس الأميركي سلسلة من التنازلات لروسيا، بما في ذلك التغاضي عن ضمها شبه جزيرة القرم الأوكرانية، وإعادة إدخال روسيا إلى «مجموعة الدول الثماني»، التي كانت موسكو أخرجت منها على أثر استيلائها على القرم. كما سيؤكد ترمب الموقف الأميركي الموافق على سيطرة الروس على سوريا، شرط أن تكون سيطرة روسية خالصة وخالية من أي مشاركة لإيران وميليشياتها.
أما الطلب الوحيد الذي سيطلبه ترمب من بوتين، فهو انضمام روسيا إلى أميركا في الحملة التي تشنها واشنطن ضد النظام الإيراني، بهدف زعزعته ثم إسقاطه.
وكان محامي الرئيس وعمدة نيويورك السابق رودي جولياني أبلغ مجموعة من «منظمة مجاهدي خلق» الإيرانية المعارضة، أنه يتوقع انهيار النظام الإيراني في غضون عام.
وفيما راحت إيران تسعى لدى الأوروبيين للتخفيف من نتائج العودة المقررة للعقوبات الاقتصادية الأميركية عليها، سبقت مشاغبات طهران رئيسها إلى أوروبا، فقبل أن يصل حسن روحاني العواصم الأوروبية ليبدأ فيها جولة إقناع هذه العواصم بتجاهل العقوبات الأميركية، ذاعت أنباء عن محاولة دبلوماسي إيراني تفجير مجموعة إيرانية معارضة تقيم في فرنسا، وهو ما أثار حنق الأوروبيين، وقدم فرصة للأميركيين ليذكروا حلفاءهم عبر الأطلسي أن إيران «دولة راعية للإرهاب»، مع أو من دون اتفاقية نووية، وأنه في مصلحة أميركا وأوروبا نقض الاتفاقية والانخراط في مواجهة جدية وقاسية تؤدي إلى الإطاحة بالنظام الإيراني.
وربما أدرك روحاني صعوبة المهمة التي تنتظره مع انكشاف أمر الدبلوماسي المزعوم، فبادر إلى توجيه تهديد إلى الغرب بأنه في حال نجحت الولايات المتحدة في تحقيق هدفها، أي فرض الوقف التام على صادرات إيران النفطية، فإن طهران لن تسكت، بل إنها ستعطل الممرات المائية التي تمر بها ناقلات الطاقة في مضيقي هرمز وباب المندب.
الولايات المتحدة تنتظر فرصة من هذا النوع، فالمزاج الأميركي بعد الحرب في العراق، وحرب أفغانستان المستمرة منذ عام 2001. لا يزال معارضاً للحروب. إلا أن قيام إيران بشن هجمات ضد ناقلات طاقة، ما قد يؤدي إلى رفع أسعار النفط والمواد الاستهلاكية الأخرى بشكل يؤذي المستهلكين الأميركيين، يجعل العمل العسكري ضد إيران مبررا أمام الرأي العام الأميركي.
ويبدو أن الردود الإيرانية على أي ضربة عسكرية أميركية ستأتي بشكل هجوم تنفذه الميليشيات الموالية لها في عموم المنطقة، خصوصا من سوريا باتجاه إسرائيل ومن اليمن باتجاه المملكة العربية السعودية، حسب تقديرات الاستخبارات الغربية. كما يتوقع الأميركيون أن تشن الميليشيات الموالية لإيران هجمات ضد جنودهم في العراق وسوريا.
لكن هذه الميليشيات، التي يمكنها خوض حروب استنزاف على المدى الطويل، لا تبدو قادرة على إيقاع ضرر كبير في مواجهة قصيرة، إلا إذا أوعزت إيران لـ«حزب الله» بشن هجمات صاروخية من لبنان ضد إسرائيل. على أن سيناريو من هذا النوع مستبعد بسبب الأضرار المتوقع أن يحدثها الإسرائيليون ضد دولة لبنان بأكملها عقابا لأي هجوم قد يشنه الحزب المذكور من الأراضي اللبنانية.
الحسابات الإيرانية يبدو أنها تتشابه مع حسابات الغرب، ومفادها أنه في حال وقوع مواجهة عسكرية مباشرة، يمكن للولايات المتحدة إيقاع أذى وضرر بإيران، بما في ذلك بنيتها التحتية، ومقرات «الحرس الثوري» والحكومة والجيش، بشكل غير مسبوق. وقد تكون هذه الحسابات هي التي دفعت المسؤولين الإيرانيين إلى إصدار توضيحات، كانت بمثابة تراجع، حول تهديدات روحاني للممرات المائية.
هكذا، لن تبادر الولايات المتحدة إلى شن الضربة الأولى ضد إيران، لكنها ستعمل على مدى الأشهر المقبلة على محاصرة إيران دبلوماسيا، وخنقها اقتصاديا إلى أقصى حدود، بشكل يجبر الإيرانيين على التسرع والقيام بهجوم عسكري ضد أميركا أو أي من حلفائها بشكل يقدم لإدارة ترمب العذر الذي تنتظره.
هذا يعني أن الجبهة الأميركية ضد إيران تتحرك على جهتين: اقتصادية دبلوماسية وعسكرية؟ في الشق الاقتصادي، تعمل وكالات الحكومة الفيدرالية الأميركية على تأكيد أن عقوباتها الأحادية، وبالاشتراك مع بعض الحلفاء، ستؤذي الاقتصاد الإيراني وتؤدي إلى هزه. هذه المرة، تبدو واشنطن مصممة على معاقبة من يتعامل مع إيران ماليا، بما في ذلك الحلفاء الأوروبيون والعرب.
وكان الاتحاد الأوروبي حاول امتصاص العقوبات الأميركية على إيران، إلا أنه وجد نفسه أمام معضلة، فالشركات الكبرى، مثل شركة الطاقة الفرنسية توتال، هي شركات عابرة للقارات، ولا يناسبها إغلاق السوق الأميركية والقطاع المصرفي الأميركي، الأكبر في العالم في وجهها. لذلك، أصدرت توتال بيانا، على أثر إعلان ترمب نيته إعادة فرض العقوبات الأميركية، أعلنت فيه انسحابها من عقود كانت وقعتها مع طهران لتطوير حقل نفط «بارس 11» الإيراني. أما الشركات الأوروبية الصغيرة غير العابرة للقارات، والتي لا تؤذيها خسارة السوق أو البنوك الأميركية، فهذه لا إمكانيات لديها للقيام بما كانت ستقوم به توتال، لناحية تطوير قطاع الطاقة الإيراني.
هكذا، بدأت كبرى الشركات الأوروبية تنسحب ذاتيا من عقودها مع إيران، على الرغم من محاولات أوروبا تقديم ضمانات لحماية شركاتها من العقوبات الأميركية الممكنة عليها في حال بقائها في السوق الإيرانية. وانسحاب الشركات الأوروبية من إيران، حتى لو واصلت حكوماتها مماشاة طهران وتمسكها بالاتفاقية النووية، سيؤدي إلى اهتزاز الاقتصاد الإيراني، وهو ما أدركه كبار قادة النظام الإيراني، فراحوا يتسابقون لتهريب ثرواتهم خارج البلاد.
وفي هذا السياق، رصد الخبراء الأميركيون تواصل النزيف في رؤوس الأموال التي تسارع للهروب من إيران منذ وصول ترمب إلى الحكم في يناير (كانون الثاني) 2017. ويقول الخبراء الأميركيون أن في صدارة مهربي أموالهم إلى الخارج قادة «الحرس الثوري الإيراني» ممن جمعوا ثروات باستغلال مناصبهم ونفوذهم. وفي هذا السياق، يقدر الخبراء الأميركيون حجم الأموال التي خرجت من إيران بين مارس (آذار)2017 ومارس 2018 بـ59 مليار دولار، حسب التقارير الرسمية الإيرانية، بما في ذلك خروج 13 مليارا في الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام.
كما رصد الخبراء الأميركيون تقارير إيرانية تحدثت عن انخفاض في احتياطي إيران من العملات الأجنبية بواقع 16 مليار دولار في الفصول الثلاثة الأخيرة من العام الماضي، مقارنة بزيادة بلغت نحو 28 مليارا على مدى السنوات الثلاث التي سبقت مرحلة بدء تقلص الاحتياطي، وهي عملية مستمرة منذ أكثر من عام.
وتعتقد الأوساط المتابعة للشأن الإيراني أن «الثقة بالاقتصاد الإيراني اهتزت منذ إعلان الرئيس ترمب نيته الانسحاب من الاتفاقية النووية»، وأن «تدهور الاقتصاد الإيراني بدأ فعليا قبل عام أو أكثر، ولن تنجح أوروبا والصين وروسيا في وقفه، بل الأرجح أن يتدهور الاقتصاد الإيراني بوتيرة أسرع مع حلول موعد 4 نوفمبر (تشرين الثاني)»، وهو التاريخ النهائي لعودة كل العقوبات الأميركية، التي كان رفعها الرئيس السابق باراك أوباما، إلى حيز التنفيذ.
منذ قيام الثورة في عام 1979. لم يسبق أن واجه النظام الإسلامي إدارة أميركية بهذا التصميم والشراسة على مواجهة إيران. لطالما واجه الأميركيون إيران بشكل غير مباشر، وحاولوا استمالتها لإعادة الود بين البلدين بين الحين والآخر. لكن شراسة ترمب عير المسبوقة ضد إيران يبدو أنها دفعت روحاني إلى تعديل أسلوبه، فيما يشي بتخبط وارتباك إيراني حول كيفية التعامل مع الخطر الداهم. أما آخر خطط روحاني، فمفادها أن إيران ستصبر على العقوبات الأميركية المتوقعة، من دون ردود عسكرية، وستنتظر انتهاء ولاية ترمب. لكن ترمب قد لا ينتظر نهاية ولايته من دون أن يفرض التغيير في طهران.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق