واشنطن - من حسين عبدالحسين
كتب صديق يعمل أستاذا للاقتصاد في "الجامعة الأميركية في بيروت" تغريدة شكا فيها همجية حكام لبنان وعنفهم الذي أوقع مئات الجرحى وتزامن مع اعتقال مئات الناشطين: "كما في الدول الأخرى المحيطة بنا، يتم ترك الناس وحدهم لمواجهة أنظمتهم الوحشية".
أجبت صديقي: "عندما يأتي العالم، أي الولايات المتحدة، لنجدتكم، تتحولون إلى التظاهر ضد تدخلها… حبذا لو تحددون بالضبط ما الذي تريدونه من أميركا، وإن أردتم تدخلا، فلا ضير من إظهار بعض الممنونية للأميركيين لتقديمهم يد العون".
في العقل العربي كابوس غير مبرر اسمه أميركا. ربما هي عقود من الخطاب القومي العربي، المستند إلى كسل فكري وتخلّف عن الإنتاج جعل العرب عالما منشغلا بالمسلسلات الرمضانية وببرامج الصراخ السياسي عبر الفضائيات، وجعل العرب عالما لا يكتب، ولا يقرأ، وجعله عالما تقتصر نقاشاته على شائعات فاقعة يتم تداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ونظريات مؤامرة خرافية يرددونها بلا خجل.
لا ضير من تعاون نخب العرب وإيران مع حكومات العالم الديمقراطية للتخلص من الطغيان والفساد
الفشل الذاتي غالبا ما يدفع أصحابه إلى إلقاء الملامة على الآخرين. وفي الحالة العربية، المسؤول عن مشاكل العرب هي إسرائيل، أو أميركا، أو الاثنين معا، مع إضافة الماسونية أو الفرس الصفويين إلى لائحة المتآمرين. هذه السطحية في تشخيص مكامن الفشل، واستنباط إمكانيات الحل، لا تقتصر على البسطاء والسذج، بل طالت النخبة، التي تبدو وكأنها تخلت عن دورها في تثقيف الأقل علما، بل صارت تستخدم علمها لتبرير النظريات الشعبية الخاطئة، ولتكريس خطاب معاداة الإمبريالية، واستخدامها كورقة تين لستر عورة الفشل المدقع الذي يغرق فيه العرب منذ قرون.
وحتى نشعل شمعة بدلا من أن نلعن الظلام، لا بد من محاولة تفسير معنى "المصالح الأميركية"، التي تدفع أميركا، من حين لآخر، للتدخل في شؤون هذه الدولة أو تلك.
بعدما تحول الاقتصاد الأميركي إلى الأكبر في العالم، مع بداية القرن الماضي، وبعدما أنقذت أميركا الديمقراطية في حربين كونيتين، ظهرت الولايات المتحدة كأقوى قوة اقتصادية وعسكرية بدلا من الإمبراطوريات الأوروبية التي سبقتها.
لكن على عكس الإمبراطوريات الأوروبية ذات المساحة الضيقة، لا تحتاج الولايات المتحدة، ذات المساحة والموارد الطبيعية الضخمة، لاحتلال أراض أجنبية والاستيلاء على مواردها لتغذية الصناعات الأميركية. حتى في الفترة التي احتاجت فيها أميركا نفط العرب، لم تسع للاستيلاء عليه، بل للحفاظ على تدفقه على السوق العالمية لضمان استقرار سعره، لأن ارتفاع السعر يؤذي الاقتصادات الصناعية، ومنها أميركا وأوروبا. وكان ذلك في السبعينيات.
منذ ذلك الوقت، اكتشفت السوق النفطية مصادر طاقة متنوعة، قسم كبير منها في القارة الأميركية، في فنزويلا (صاحبة أكبر احتياطي في العالم) والبرازيل والمكسيك، وعادت روسيا إلى السوق العالمية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتحولت الصين ودول آسيا إلى اقتصادات صناعية بحاجة للنفط والغاز، وصارت الحكومات المصدرة تستميت لبيع إنتاجها لتغذية موازناتها. وفي العقد الماضي، طوّرت أميركا تقنيات سمحت لها باستخراج مخزونات كانت عصية في الماضي، فتصدرت الولايات المتحدة دول العالم في إنتاج النفط والغاز.
لهذا السبب، لا لضعف القوة الأميركية، لم تعد لمنطقة الشرق الأوسط أهمية استراتيجية، ولم تعد الحروب تؤثر في سعر الطاقة العالمي: لا حرب ليبيا، ولا تهديد إيران بإغلاق الخليج، ولا هجوم طهران على حقول نفط سعودية.
وفي ظل الفقر الذي تعيش فيه معظم شعوب الشرق الأوسط، حتى الغنية منها بالطاقة مثل العراق وإيران، لا أسواق تدفع القوى العالمية للتسابق عليها، بل إن أميركا نفسها هي أكبر سوق في العالم، تستجدي دخوله كل دول العالم الأخرى، وفي طليعتها الصين، التي أتت إلى واشنطن زاحفة، ووافقت على تعديل اتفاقيات التجارة بين البلدين.
وبدون أهمية مواردها الأولية، ومع انعدام القدرة الشرائية لسكانها، لا أهمية تذكر لمعظم دول الشرق الأوسط، ما عدا تفصيل واحد يقلق أميركا منذ عقدين، وهو الإرهاب، الذي ينطلق من دول فاشلة، ضد أميركا وديمقراطيات العالم. لهذا السبب وحده ترابط قوات أميركية في الشرق الأوسط. ومع أن البعض يعتقد أن هذه القوات تحمي إسرائيل، لكن الأخيرة أثبتت أنها قادرة على ضرب أهداف إيرانية في عمق سوريا والعراق، بدون حاجة فعلية للقوة الأميركية.
وقد يكون ثاني من اكتشفوا انعدام أهمية الشرق الاوسط رئيس روسيا فلاديمير بوتين، الذي استولى على سوريا وأقام فيها بعض القواعد العسكرية. لكنها قواعد ضد من؟ وما فائدة سيطرة روسيا على دولة من الركام، مثل سوريا، لا موارد طبيعية فيها، ولا سوق استهلاكية، مع اقتصاد يواصل تهاويه؟
ربما حان وقت إعادة النظر في سذاجة "لا إيران ولا أميركا"
نقطة وحيدة قد تحرّك أميركا لاستخدام قوتها لدعم الحركات الشعبية المطالبة بالديمقراطية في إيران والعراق ولبنان هي أن الديمقراطية تنهي ظاهرة الدول الفاشلة، مثل العراق ولبنان، وهو ما يسمح بسحب القوات الأميركية ومحاربة الإرهاب بتكاليف أقل بكثير.
ثم أن في العقل الاميركي تماهي بين ثورات العالم المطالبة بالحرية وثورة الولايات المتحدة التي أقامت ديمقراطية مستقلة عن ملك بريطانيا، قبل قرنين ونصف، وهي ثورة لم تكن لتنجح لولا تصميم الأميركيين ودعم القوى العالمية المنافسة لبريطانيا، مثل فرنسا وإسبانيا وغيرها.
لا ضير من تعاون نخب العرب وإيران مع حكومات العالم الديمقراطية للتخلص من الطغيان والفساد. والتعاون لا يعني ارتهانا ولا تطابقا في المواقف مع أميركا، وهذه ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية تستضيف قواعد عسكرية أميركية، وتتفق مع أميركا على التمسك بالديمقراطية، لكنها تتنافس معها سياسيا واقتصاديا.
ربما حان وقت إعادة النظر في سذاجة "لا إيران ولا أميركا"، وحان وقت تقديم النخب العربية والإيرانية صورة واضحة عن نيتها الانضمام لمجموعة الدول الديمقراطية حول العالم، التي قد تأتي لإنقاذ طالبي الديمقراطية، وإقامة علاقات طيبة مع الحكومات التي سيبنونها مستقبلا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق