الثلاثاء، 11 أغسطس 2020

لبنان وسوريا ونهاية عصر ابتزاز العالم

حسين عبد الحسين

اعتقد حكام لبنان أن كارثة انفجار مرفأ بيروت قدمت لهم فرصة إعادة انفتاح العالم عليهم وعلى دولتهم، وسط التعاطف الإنساني الدولي الذي انصب على البلاد. ولم يتأخر وزير البلاط وصهر الرئيس جبران باسيل في تقديم ملف للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي زار بيروت متعاطفا، حذّر فيه باسيل ماكرون من أن انهيار لبنان سيؤدي إلى تشريد مليوني لاجئ سوري وفلسطيني سيغزون أوروبا.

ولم يكد باسيل يفرغ من ابتزازه ماكرون باللاجئين، حتى اتصل رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب برئيس لبنان ميشال عون، ووعده بالمشاركة بمؤتمر الدعم الإنساني، الذي نظمته باريس عبر الإنترنت، وإيفاد مسؤولين أميركيين إلى بيروت. هكذا، جلس عون في أبهى حلله وعلى وجهه ابتسامة لا تضاهيها إلا ابتسامته أثناء استقباله نظيره الفرنسي ماكرون، وكأن لبنان ليس حزينا ولا وغارقا في الأسى والحداد.

على أن المؤتمر الدولي بدا وكأنه حفلة تأنيب لعون، بدلا من التعاطف معه والانفتاح عليه، إذ أن المبلغ الدولي الموعود بالكاد وصل 300 مليون دولار، وهذا لا ينفع في لجم التدهور الاقتصادي الحاصل منذ أشهر، مع مديونية عامة تصل قرابة 100 مليار دولار. ثم أن المؤتمرين أصرّوا، بحضور عون، على التأكيد أن الأموال المرصودة لن تمر عن طريق دولة لبنان أو مؤسساتها، بسبب انعدام الثقة الدولية بحكام لبنان الفاسدين، بل أن المساعدات ستذهب بطريقة مباشرة إلى اللبنانيين وإلى مؤسسات المجتمع المدني غير الحكومية، خصوصا الدولية منها، مثل الصليب الأحمر وبرنامج الأغذية العالمي.

أما المسؤولان الأميركيان الموفدان إلى بيروت، فأولهما جون باسرا، من "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية"، وهي مؤسسة محظور عليها التعامل مع الحكومات ويقتصر دعمها على مؤسسات المجتمع المدني، وثانيهما الرجل الثالث في وزارة الخارجية والسفير السابق في لبنان دايفد هايل.

وزيارة هايل ولقاءه المسؤولين اللبنانيين قد تبدو وكأنها فك للعزلة الدولية التي يعاني منها لبنان بسبب فساده المدقع وبسبب إيوائه تنظيما عسكريا، أي "حزب الله"، تصنفه معظم دول القرار على أنه إرهابي. لكن مما رشح عن زيارة الدبلوماسي الأميركي المخضرم بيروت أنه سيقدم للمسؤولين الفرصة الأخيرة للخروج من مأزقهم بقيامهم بتغييرات جذرية، منها إصلاحات إدارية وحكومية، ومنها إنهاء الدولة الهجينة التي يديرونها ويسمونها "دولة المقاومة"، وهو ما يتطلب إنهاء حالة "حزب الله"، التي تخالف دستور لبنان (البيان الوزاري ينص على سياسة البلاد ولا يعلو على دستورها ولا يبرر تجاوز بنوده)، وتبني سياسة "الحياد الإيجابي" التي يطرحها بطريرك الكنيسة المارونية بشارة الراعي.

و"الحياد الإيجابي" لا يعني توقيع لبنان على سلام مع إسرائيل، على الرغم من أن واشنطن وباريس يسعدهما ذلك، بل يعني عدم انخراط لبنان في أي صراعات إقليمية مسلحة، إن ضد إسرائيل أو في سوريا، والتمسك بمواقف جامعة الدول العربية المبنية على مبادرة بيروت للعام 2002، والتي تنص على "الأرض مقابل السلام" مع إسرائيل، وعلى حل الدولتين، فلسطينية وإسرائيلية.

بكلام آخر، "الحياد الإيجابي" يعني عودة لبنان إلى حياده الذي امتد منذ 1949، أي منذ توقيعه اتفاقية الهدنة مع إسرائيل، وحتى العام 1969، يوم توقيعه "اتفاقية القاهرة" التي سمحت للميليشيات الفلسطينية بشن هجمات ضد إسرائيل من لبنان. حتى حرب 1967، التي شاركت فيها كل "دول الطوق"، أي مصر وسوريا والأردن، امتنع لبنان عن المشاركة فيها وأفاد من حياده بانتقال رؤوس الأموال العربية إليه، فعاشت البلاد بحبوحة لا مثيل لها.

أما في حال رفض حكّام لبنان العرض الدولي، فإذ ذاك سيبقى اللبنانيين وحيدين، يلملمون ركام إهمال وفساد حكومتهم في انفجار بيروت، ويعانون من ابتعاد رؤوس الأموال عنه بسبب حالة الحرب المتواصلة التي يبقيه فيها "حزب الله". أما الشعب اللبناني، فالغالب أن العالم سيطوّر آلية إغاثة ضحايا انفجار المرفأ لإغاثة اللبنانيين من المجاعة، في وقت يتمسك حكّامهم ببقائهم في "محور المقاومة".

أما الابتزاز باللاجئين، فلم يعد يزعج دول العالم. ولا يزعجهم كذلك الابتزاز الأمني بإمكانية وصول الإرهاب أميركا وأوروبا، إذ أن الإرهاب سبق أن وصل، وسبق أن قامت أميركا وأوروبا بالقضاء عليه في عقر داره.

يبقى الابتزاز بأمن إسرائيل، وهو ما تكفلت به إسرائيل نفسها، إذ هي رفعت تكلفة أي حرب معها إلى مستويات تجعل من محاولة هز أمنها مكلفة، وهو ما حوّل حرب إيران وميليشياتها معها إلى حرب باردة لا تجبر العالم على استجداء تنازلات في دمشق، كما في الماضي، لضبط أمن حدود إسرائيل أو تسليم إرهابيين.

على الرغم من اعتقاده بتفوقه الفكري والاستراتيجي، لا يبدو باسيل موهوبا، فهو راهن على "حزب الله" ليصبح حماه رئيسا، وربما ليخلفه باسيل، ولكنها رئاسة جاءت بثمن عزل لبنان وانهياره. كذلك، لا يبدو أن أوروبا باتت تخشى اللاجئين، أو انهيار دولة لبنان، وهذا رئيس تركيا رجب طيب إردوغان، يحبس أنفاسه يوميا مهددا أوروبا باللاجئين، فيما لا يبدو أن أميركا أو أوروبا ترضخان له، بل تركتاه ينصب منظومة صواريخ "أس 400" الروسية البالية، وانتزعتا منه برنامج مقاتلات "أف 35" الأميركية المتطورة، ولا تهتمان لاقتصاده فيما الليرة التركية تتراجع وتقارب الانهيار.

قبل اردوغان، انهارت منظومة الأسد لابتزاز العالم، فوجد الأسد نفسه معزولا، كحكّام لبنان، بلا مساعدات دولية، ولا أموال إعادة إعمار، ولا مبالاة إسرائيلية لسيادته، إذ تقوم إسرائيل بتدمير ميليشيات إيران وقواعدها في سوريا بلا حساب للأسد.

لم يقدم انفجار بيروت لحكّام لبنان و"حزب الله" الفجوة التي كانا يتمنيانها لإنهاء عزلتهم، بل هو قدم نموذجا يسمح للعالم بمساعدة اللبنانيين إنسانيا على الرغم من مواصلة عزل حكّامهم، وهو نفس النموذج الذي تمارس روسيا دوريا حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن لمنع حدوثه في سوريا.

ليست هناك تعليقات:


Since December 2008