حسين عبد الحسين
أصدر نفر من "المثقفين الملتزمين" التابعين لـ"محور الممانعة" فتوى بوجوب "مقاطعة" نجم كرة القدم المصري محمد صلاح لأنه "لم يتخذ مواقف علنية وصريحة من العدو الإسرائيلي"، ولأن صلاح شارك "في مباريات في فلسطين المحتلة"، و"صافح الإسرائيليين… ونفى في الغرب أن يكون قد قال كلاما سلبيا ضد العدو الإسرائيلي".
وأضافت "الفتوى" أن صلاح "يتحاشى اتخاذ أي مواقف تزعج الرجل الأبيض في الغرب"، ما يجعله بمثابة "المسلم المقبول" في الغرب، وأن اللاعب المصري يحرص على "قيمته التجارية" أكثر من "أي قضية تعني العرب".
غريب أمر هؤلاء "المثقفين" ممن لا تعنيهم إلا قضية واحدة، يرونها من منظار واحد هو منظارهم. كل من يراها من منظارهم نفسه هو "عربي شريف"، وكل من يرى هذه القضية من منظار مخالف هو عربي أناني متزلف للغرب، أو يعمل بتمويل من الحكومات الغربية وأجهزة استخباراتها. وكما على العرب أن يكونوا شخصا واحدا برأي سياسي واحد وموقف واحد معاد للغرب، يتحول الغرب هنا واحدا أيضا، جنسه واحدا (رجل)، ولونه واحدا (أبيض)، ورأيه واحدا (يبحث عن عرب خونة ضد القضية المركزية من أمثال صلاح).
حبذا لو ينظرون إلى صلاح كموهبة في رياضة عابرة للشعوب بدلا من إقحامه في ثاراتهم وفاشيتهم
هذه الرؤية القومية الفاشية للشعوب هي في صميم شقاء العرب. هي رؤية ترى كل أمة على أنها مخلوق عضوي واحد، ذات رأي متطابق ومصلحة متشابهة. والرؤية الفاشية هذه هي أفيون الشعوب؛ إذ لا يهم أن يكون الأفراد قتلى تحت ركام منازلهم طالما أن أمتهم تعلن "نصرا إلهيا" على الأعداء، ولا يهم أن يعيش الإيرانيون تحت خط الفقر طالما أن الكرامة الوطنية محفوظة في برنامج نووي لا يغني ولا يسمن.
اقرأ للكاتب أيضا: "القوات اللبنانية" في مواجهة "حزب الله"
هكذا، تسمح الانتصارات الوهمية للأمة للأفراد بإخفاء فشلهم خلفها. وتقضي الانتصارات المتخيلة في الوقت نفسه على أي إنجازات فردية مثل نجومية اللاعب صلاح طالما أنه يتصرف باستقلالية عن العرب و"قضاياهم".
وللتأكيد، فإن صلاح ليس مذنبا، فدولته المصرية تتمتع باتفاقية سلام كاملة مع إسرائيل. وهو عندما يذهب إلى إسرائيل ويصافح إسرائيليين، إنما يفعل ذلك كلاعب محترف، بدلا من أن يتصرف كمثقف مهرج. ثم إن مشاركة صلاح في مباريات في إسرائيل لا تشي برأيه حولها، فهو قد يكون من المعجبين بها أو من المعارضين لها، لكن التعبير عن رأيه تجاه إسرائيل أو أي موضوع سياسي آخر يكون في صناديق الاقتراع للحكومة التي تمثله، لا في الحركات الرعناء التي يتوقعها "المثقفون الملتزمون".
من يتابع محمد صلاح يعلم أن نجوميته تتخطى ملاعب كرة القدم، فإلى جانب مشاركته في إعلانات تجارية في مصر على أنواعها، يشارك كذلك في إعلانات لجمعيات غير حكومية، مثل إعلان التوعية ضد استخدام الشباب للمخدرات. وكان صلاح فتح أبوابه وجيوبه لعدد كبير من المصريين ممن راحوا يترددون على عائلته، ما دفع الشرطة إلى حماية العائلة من المضايقات بوضعها تحت ما يشبه الإقامة الجبرية، كما ورد في وسائل إعلام مصرية.
غريب أمر هؤلاء "المثقفين" ممن لا تعنيهم إلا قضية واحدة، يرونها من منظار واحد هو منظارهم
لكن بالنسبة لمثقفي الممانعة، لا تهم موهبة صلاح ولا تسخيره نجوميته لقضايا نبيلة، مثل مكافحة المخدرات، ولا استخدامه ثروته التي يجنيها من كرة القدم في مساعدة بعض المعوزين. كل ما يطلبه مثقفو الممانعة هو ألا يخرج صلاح عن رأيهم الذي يعتقدون أنه رأي الجماعة، وأن يشتم إسرائيل، سرا وعلنا في مصر كما في الغرب، وأن يشتم "الرجل الأبيض" المزعوم، كل الرجال البيض، أصدقاء إسرائيل منهم كما أشد أعدائها. فعداء الممانعة ليس بسبب موقف "الرجل الأبيض" من إسرائيل بل بسبب "الرجل الأبيض" نفسه والتاريخ المتخيل الذي يحول أجداد البيض إلى الغزاة الوحيدين في تاريخ الحضارات. أما الإيرانيون، فغزوهم للعرب عبر التاريخ هو دليل عراقة حضارتهم وتفوقها، أو هكذا يقول "المثقفون الممانعون".
اقرأ للكاتب أيضا: النكبة: 52 عاما على مقتل الصحافي كامل مروة
يوم كان اللاعب الفرنسي من أصل جزائري زين الدين زيدان في قمة نجوميته، اختلف حول أصله الجزائريون، فأصر الكابيل (يسكنون بلاد القبائل هي منطقة ثقافية ـ طبيعية في شمال شرق الجزائر) أنه منهم وليس عربيا، وأصر العرب أنه جزائري بالكامل. أما زيدان، فارتقى بنجوميته عن الحماقات والمناكفات التي لا تليق بالنجوم، وأنفق أموالا وفيرة على تمويل مشاريع اجتماعية في موطن أبيه، الجزائر، ورفض أن يدخل في تفاهات تحسبه مع هذه الأمة أو تلك. وزار زيدان الجزائر وتلقى فيها استقبال الأبطال.
مثل زيدان، التمني بالسلامة العاجلة والتوفيق للنجم المصري صلاح، لا لأنه عربي أو مسلم، بل لأنه صاحب موهبة تجعل من مشاهدته متعة قائمة بذاتها. أما "المثقفون الممانعون" وتشويشهم وحديثهم عن الأعداء، فحبذا لو ينظرون إلى صلاح كموهبة في رياضة عابرة للشعوب والثقافات، بدلا من إقحامه في ثاراتهم وعداواتهم وفاشيتهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق