حسين عبدالحسين
في متحف سرسق في حي الأشرفية في بيروت ـ الحي الذي خاض فيه أيقونة مسيحيي لبنان بشير الجميل معارك ضارية ضد قوات الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد لإبقاء لبنان مستقلا وصديقا للديمقراطيات الغربية ـ معرض عن مدينة بعلبك، المعروفة بهياكلها الرومانية الضخمة التي يعود تاريخها إلى مطلع الألفية الأولى.
قيمة الرواية التاريخية المعروضة متدنية أكاديميا، وتعاني من أخطاء فاضحة، إذ هي تعتبر أن عمر بعلبك 10 آلاف سنة، وتسميها "مهد الحضارة"، وتقدم آثارا لأدوات استخدمها الإنسان تعود إلى عهود سحيقة لدعم روايتها. لكن عمر الحضارة في أي بقعة لا يرتبط بتاريخ بدء الوجود الإنساني فيها، بل بتاريخ تحول هذا الوجود إلى مديني يسمح لبعض السكان بالاعتياش من وظائف غير الصيد والزراعة، مثل الارتزاق من العمل في الهيكل، أو كتابة النقوش، أو إجراء الحسابات الفلكية، أي أن الحضارة هي العمل المبني على وظائف تستند إلى العقل والحكمة بدلا من القوة البدنية.
ويعيد المؤرخون تاريخ بعلبك، كمدينة، إلى زمن الكنعانيين الصيداويين، الذين يسميهم المؤرخون فينيقيين. ويعيد المؤرخون تاريخ بدء الحضارة الفينيقية إلى بداية العصر الحديدي، أي قرابة العام 1200 قبل الميلاد، وهو ما يبعد بعلبك عن أقدم مدينة معروفة، وهي مدينة عروق جنوب بلاد ما بين النهرين، والتي يعود تاريخها إلى العام 5400 قبل الميلاد.
لا تعني هذه التفاصيل المسؤول عن معرض بعلبك في متحف سرسق اللبناني، فالي محلوجي، وهو من أصل ايراني ويسكن لندن، ويقدم نفسه ـ على موقعه ـ على أنه خبير علم آثار تحول إلى قيّم على معارض. كما لا تعني اللغة الإنكليزية، ولا قواعدها، السيد محلوجي، الذي كتب نصوصا طويلة علّقها على جدران المتحف وطبعها في كراساته.
ما يعني محلوجي هو اختراع رواية تاريخية تتناسب والرواية الإيرانية المعادية للغرب، وتعديل الانطباع العام عن عظمة هياكل بعلبك، وتصويرها رمزا لاحتلال أوروبي لشعوب محلية، في الماضي، ثم محاولة كولونيالية أوروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين لربط الماضي بالحاضر، وتأكيد تفوق حضارة الغرب على الشعوب التي غزتها وحكمتها الشعوب الغربية، ماضيا وحاضرا.
ويمضي محلوجي في انتقاد دولة لبنان لمحاولتها "لبننة بعلبك" والبناء على الرواية الأوروبية لإنتاج قومية لبنانية، وإبعاد لبنان عن محيطه الإقليمي، وذلك عبر إقامة مهرجانات غنائية ومسرحية في هياكل بعلبك. والمهرجانات توقفت مع اندلاع حرب لبنان الأهلية في العام 1975، وعادت بعد الحرب، ويقول محلوجي إنه على عكس مهرجانات ما قبل الحرب، التي لا تمثل السكان المحليين، فإن مهرجانات بعلبك بعد الحرب تمثلهم وترتبط بالمحيط الإقليمي بدلا من القومية اللبنانية.
ومن غير المفهوم لماذا يرى محلوجي نفسه من السكان المحليين، ولا يرى نفسه كولونياليا غريبا يسعى إلى فرض صورة حول مدينة لا يعرفها، بالضبط مثل الكولونياليين الأوروبيين الذين ينتقدهم. مثلا، يكتب محلوجي أنه حتى العام 1939، كانت هياكل بعلبك مفتوحة للسكان المحليين، ثم تم شق طرق حولها وإقفالها في وجههم، ويبدو أنه لا يعلم ان لكل بعلبكي وبعلبكية الحق في التجول في الهياكل، في أي وقت وبدون رسوم، بمجرد تقديم بطاقة الهوية التي تثبت بعلبكيته أو بعلبكيتها.
ويشيد محلوجي ببعلبك لأنها سبقت الرومان وتلتهم وما تزال قائمة حتى اليوم، ويقارنها بتدمر السورية وجرش الأردنية، والاثنتين مواقع لآثار رومانية ضخمة، ولا يبدو أنه يعلم أن سبب بقاء بعلبك مدينة حية وشبه اندثار نظيرتيها يرتبط بالتصحر الجاري منذ العام 3500 قبل الميلاد، حسب الجيولوجيين، فبعلبك لم تعان الجفاف الذي ضرب تدمر وجرش.
ويكتب محلوجي أن الإمبراطور الألماني ولهام الثاني، الذي أرسل بعثة للتنقيب في الهياكل، فعل ذلك بحثا عن ماض مجيد يربط سلالته به بعدما سبقه البريطانيون والفرنسيون لاقتناص تاريخ العراق ومصر. لا يعرف محلوجي أن ولهام زار دمشق بحثا عن القدس، وأن قنصل ألمانيا الفخري في الشام، من عائلة لوتيكيه، كان يقضي الصيف في بعلبك، التي بنى فيها دارا، بسبب حساسية في الجهاز التنفسي كانت تعاني منها إحدى بناته. وعندما زار الإمبراطور دمشق، أقنعه لوتيكيه بزيارة بعلبك لجمالها، وأقام ولهام في فندق بالميرا المقابل للهياكل التي أعجبته، فقرر دعم اكتشافها وترميمها. وكانت ألمانيا تصادق السلطنة العثمانية لإنشاء خط قطار برلين بغداد وإقامة خط تجارة مع الهند ينافس خط قناة السويس.
هكذا، حسب محلوجي، بعلبك ليست وليدة الاحتلال الروماني ولا الألماني، ولا حتى "الاحتلال اللبناني"، بل هي للسكان المحليين، الذين يتماهون مع محيطهم الإقليمي، إذ ذاك تصبح بعلبك إما هوية قومية وطنية قائمة بذاتها، وإما جزء من منظومة إقليمية لمكافحة الإمبريالية، وهي الوجه اللاديني لكولونيالية الجمهورية الإسلامية في إيران، التي تسمي الكولونيالية الغربية "استكبارا عالميا"، وتدعو دائما لمواجهتها. كما تلغي إيران هويات السكان المحليين، وتصورهم جميعا "مستضعفين" يسعون لمواجهة الكولونيالية العالمية، بدعم إيران وبقيادتها.
ليست الدعاية الكولونيالية الإيرانية دينية فحسب، وليست سياسية مباشرة فقط، بل هي دعاية تتخذ أشكالا كثيرة، أساسها شعور قومي شوفيني إيراني بالتفوق على كل إمبراطوريات العالم، وخصوصا الغربية، وهدفها تصوير البشر على أنهم ضحايا الغرب، وأن مهمة إيران إنقاذهم وحكمهم في الوقت نفسه، وهي دعاية منتشرة في أصقاع العالم، ويصدقها غربيون كثر، منهم من أصول إيرانية، لا يعرفون التاريخ، بل يسعون للتلاعب به ليتناسب والعصبية الإيرانية.
أما محلوجي المعادي للكولونيالية الغربية، فيقدم نفسه، في السطور الأولى لسيرته الذاتية، على أنه "يسكن لندن" وأنه يعمل مستشارا للمتحف البريطاني، ويقدم لائحة طويلة من متاحف أميركا وأوروبا التي يعمل لها. لماذا يتباهى معاد الكولونيالية بمتاحف الكولونياليين أنفسهم؟ ربما لأن إيران تخال نفسها إمبراطورية تنافس الغرب، فيما هي في الواقع دولة متأخرة يقوم تاريخها على تخريب منجزات الآخرين وسرقة علومهم وثقافتهم وحضارتهم، ثم تصويرها هذه المنجزات على أنها إيرانية، بالضبط مثل مقاتلة "أف 4" الأميركية، التي تعيد إيران طلاءها وتتظاهر أنها صناعة إيرانية، وتسميها "كوثر".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق