بقلم حسين عبدالحسين
يروي عدد من المسؤولين اللبنانيين السابقين في مذكراتهم عن مفاوضات جرت بين حكومة لبنان وزعيم ميليشيا فتح الفلسطينية الراحل ياسر عرفات، في العام 1969.
وفي التفاصيل أن الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، والذي حاول التعويض عن هزيمة حزيران 1967 أمام الإسرائيليين بإطلاقه حروب عصابات واستنزاف من "دول الطوق" باتجاه اسرائيل، استضاف مؤتمر مفاوضات بين الحكومة اللبنانية وعرفات.
حضر اللبنانيون وتأخر عرفات، حتى كاد اللبنانيون يغادرون القاهرة عائدين إلى بيروت، لكن عرفات وصل مصر فجأة. كان عرفات ينتظر تحقيق انتصار ما في معاركه المسلحة ضد مضيفيه اللبنانيين، فأسقطت قواته مقاتلة هوكر هنتر لبنانية، ولذلك طار إلى القاهرة ليشارك في المفاوضات، وفي جعبته الانتصار الذي يعكس تفوقه عسكريا على الأرض. تراجعت الحكومة اللبنانية عن مطلب نزع سلاح الفلسطينيين على أرضها، واكتفت بتنظيم العلاقة مع عرفات، في اتفاق كارثي قوض سيادتها حتى اليوم، وحمل اسم "اتفاق القاهرة".
عبر التاريخ، لم تهدف الاتفاقيات في "الشرق الأوسط" إلى حل النزاع أو التوصل إلى تسوية. الاتفاقيات الشرق أوسطية هي اعتراف بميزان قوى جديد يستبدل السابق. هكذا انتزع عرفات سيادة لبنان بقوته المالية والعسكرية، ثم كرّس الواقع الجديد في "اتفاق القاهرة". وهكذا أيضا، انتزع "حزب الله" عسكريا سيادة حكومة لبنان في 2008، وكرّس الترتيب الجديد في "اتفاقية الدوحة" في العام نفسه.
وهكذا، لم تعتقد إيران يوما أن هدف اتفاقيتها النووية مع المجتمع الدولي هو التسوية والسلام، بل تنظر إيران إلى الاتفاقية كاعتراف دولي رسمي بتفوقها على الولايات المتحدة في الجولة الأولى، أي في العراق ولبنان، وسيطرتها على هذين البلدين، لتتفرغ للسيطرة على سورية واليمن.
وإيران قد تسعى لاتفاقية جديدة مع الغرب، مع انقضاء مهلة تجميدها تخصيب اليورانيوم في السنوات العشر القادمة، فيعود العالم إلى مفاوضات جديدة، بعدما انتزعت إيران ما تسميه حقها في التخصيب في الجولة الأولى، ما يعني أن الجولة المقبلة ستكون في الغالب للاعتراف بسيطرتها على سورية واليمن، ومنح الإيرانيين "حقوقا" نووية جديدة، ربما لصناعة أسلحة نووية، وتجربة تحميلها على رؤوس صواريخ بالستية.
هذا يعني أن إيران تشترك وهتلر في مفهومها للاتفاقيات على أنها "خذ وطالب"، وهو ما يعني أن أي عدد من الاتفاقيات الغربية والعالمية معها لن يفضي أبدا إلى سلام إقليمي أو تسوية نووية.
هذا يعني أيضا أن سذاجة إدارة الرئيس السابق باراك أوباما كانت تكمن في الاعتقاد أنه يمكن استعادة الصداقة الأميركية مع إيران، وهي سذاجة لا تضاهيها إلا سذاجة رئيس حكومة بريطانيا نيفيل تشامبرلين، الذي عاد إلى لندن باتفاقية اعتقد أنها اتفاقية سلام نهائي مع هتلر في العام 1938، لتجتاح دبابات طاغية ألمانيا بولندا في أقل من عام.
وهذا يعني كذلك أنه يستحيل التوصل لاتفاقية مع إيران بالمهارة الدبلوماسية وحدها وإظهار حسن النوايا، بل إن أي اتفاقية مع الإيرانيين تشترط فرض موازين قوى على الأرض تجبر الإيرانيين على القبول بشروط الولايات المتحدة والغرب.
طبعا هذه المقالة ليست دعوة لحرب أميركية ضد إيران، بل هي دعوة لواشنطن لمواجهة خطر الميليشيات الموالية لإيران بجدية أكبر، ولمقابلة الأساليب الإيرانية بأساليب مشابهة، مثل بناء ميليشيات محلية يمكن الركون إليها في التصدي لميليشيات طهران، وهو ما كاد يحصل في العراق وسورية، لولا استماتة إدارة أوباما في استرضاء إيران بخنقها أي ميليشيات موالية للغرب.
مواجهة إيران النووية وتوسعها الإقليمي لا يكون بالعقوبات والدبلوماسية على أهميتهما، بل أن أي مواجهة لفرض تسوية على الإيرانيين تقضي بتعديل موازين القوى في الحرب الميليشيوية غير التقليدية التي تخوضها طهران في عموم المنطقة.
يوم تعلم إيران أن الغرب رسم خطوطا حمراء في وجه ميليشياتها، وأنه قرر مواجهة هذه الميليشيات وإجبارها على التراجع، قد تدرك طهران يومها أن طموحها قد بلغ حدوده، وأن المتبقي أمامها هو أما الدخول في اتفاقية للحد من خسائرها، أو المضي في حرب استنزاف ليست في مصلحتها.
إيران تتحول نووية بقوة ميليشياتها، ووقف هذه الميليشيات هو حجر الأساس في فرض أي اتفاقية نووية جديدة على الإيرانيين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق