| واشنطن - من حسين عبدالحسين |
مطلع هذا الشهر، اصدرت وزارة الخزانة بيانها الشهري الذي اعلنت فيه تجاوز الدين العام الاميركي عتبة الـ 16 تريليون دولار. على الفور، تلقف السياسيون من الحزب الجمهوري الخبر، ودبجوا بياناتهم التي وجهت نقدا لاذعا للرئيس باراك اوباما.
تصدر الهجوم الجمهوري رئيس الكونغرس جو باينر، الذي قال في بيانه ان «الرئيس (اوباما) خاض في رحلة مجنونة للانفاق مستخدما المال المخصص لتحفيز الاقتصاد، وهو ما فرض على كل اميركي، سواء رجل أو امرأة أو طفل، 50 الفا هي حصتهم من الدين العام البالغ 16 تريليون دولار».
لكن موقع «بوليتيفاكت»، المتخصص في التحقيق في صحة اقوال السياسيين الاميركيين، تصدى لرئيس الكونغرس، وحاول في بادئ الامر الحصول على ايضاحات حول البيان من مكتبه، الذي رد بالقول «انها استراتيجية اوباما منذ توليه الحكم: المزيد من الانفاق، ورفض اي تخفيضات في الموازنة او اجراء اصلاحات، لانه حسبما يقول، هكذا تخفيضات واصلاحات تؤذي الاقتصاد».
الموقع خالف باينر ومكتبه الرأي، وقال ان في الاساس، حصة كل اميركي هي 50 الف و900 دولار، وان «الدين العام في زمن اوباما ارتفع 5 تريليونات و400 بليون دولار، من 10 تريليونات و600 بليون عندما تسلم اوباما السلطة في 20 يناير 2009».
ثم سرد الموقع بالتفصيل الانفاق الحكومي عبر الادارات المتعاقبة، ليتوصل الى نتيجة مفادها ان اوباما نجح فعليا في تقليصه، وانه في ذلك يحتل المرتبة الثانية بين كل الرؤساء الاميركيين بعد ليندون جونسون، خصوصا اذا ما اخذنا نسبة التضخم المالي بعين الاعتبار. وختم الموقع: «على عداد الحقيقة، نصنف ادعاءات باينر بالخاطئة».
الموقع يعمل على مدار الساعة، ويأخذ تصريحات المسؤولين والسياسيين الاميركيين، ويخضعها للتدقيق، ويمنحها درجات في المصداقية، تتراوح بين «صحيح»، و«معظمه صحيح»، و«نصف صحيح»، الى «معظمه خاطئ» و«خاطئ» و«سرواله يشتعل»، وهي عبارة يستخدمها الاميركيون مع الاطفال لتعييبهم على الكذب.
وانشأ الموقع ما اسماه «اوباميتر»، او «عداد اوباما»، واخضع كل وعوده الانتخابية اثناء حملة 2008 الى تقص وتمحيص، وتوصل الى نتيجة مفادها ان اوباما حقق بالكامل 38 في المئة من وعوده، ودخل في تسويات مع الجمهوريين في 14 في المئة منها، ونكث تماما بـ 17 في المئة من هذه الوعود، فيما توقف العمل على 9 في المئة منها، ومازالت 22 في المئة من الوعود الرئاسية في طور العمل على تحقيقها.
الموقع اخضع ايضا وعود الحزب الجمهوري في حملته الانتخابية الاخيرة العام 2010 الى الامتحان، وقال ان الجمهوريين حققوا 19 في المئة فقط مما وعدوا به، ودخلوا في تسويات في 7 في المئة، ونكثوا بـ 19 في المئة.
موقف «بوليتيفاكت» ليس فريدا من نوعه، فمركز ابحاث «انانبرغ» انشأ صفحة «تقصي حقائق» خاصة به، اخضع فيها، على سبيل المثال، خطابي اوباما ومنافسه الجمهوري ميت رومني، اثناء مؤتمري حزبيهما الاخيرين، الى عملية تمحيص مفصلة ودقيقة.
ارتفاع شعبية هذه المواقع يأتي في وقت اظهر استطلاع اجراه «معهد غالوب»، واصدر نتائجه اول من امس، ان 60 في المئة من الاميركيين لا يثقون بوسائل الاعلام الاميركية كالصحف والراديو والتلفزيون.
وما يزيد الامر تعقيدا هو وصول الانفاق الانتخابي الى ارقام غير مسبوقة، والمال المذكور غالبا ما يتم استخدامه في حملات اعلانية اكثرها عبارة عن عمليات تقذيع وتشهير يقوم بها المرشحون ضد منافسيهم، ما يدفع الناخبين الاميركيين الى اللجوء الى مواقع تقصي الحقائق، التي تفرد مساحات واسعة للتدقيق في كل اعلان انتخابي وتبيان ما هو صحيح من الادعاءات مما هو مزيف.
وفي ظل النجاح الذي تحصده هذه المواقع الاميركية، وعلى ضوء تراجع مصداقية الاعلام التقليدي، وجدت بعض وسائل الاعلام نفسها مضطرة الى مجاراة ما هو رائج.
صحيفة «واشنطن بوست» اقامت زاوية «تقصي حقائق» يومية، تعالج فيها التصريحات من كل حدب وصوب، وتمنحها درجات على شكل «بينوكيو واحد»، للاقل كذبا، او اثنتين او ثلاث او اربع، لاكثر الادعاءات زيفا. وبينوكيو هو اسم الدمية الخشب الخيالية التي يطول انفها اكثر فأكثر مع كل كذبة تطلقها.
من آخر ضحايا «واشنطن بوست» هو فيديو يعود للعام 1998، ويظهر فيها جزء من حديث لاوباما وهو يقول انه «يؤمن بتوزيع الدخل»، وهذه عبارة يستخدمها ضده بعض الجمهوريين السذج للدلالة على انه «اشتراكي» لا يؤمن بالرأسمالية الاميركية.
الصحيفة كشفت ان المقطع الذي انتشر بادئ الامر عبر موقع «يوتيوب» كان قديما جديدا، وينقطع في منتصف حديث اوباما، ما يجعل من الصعب تحديد السياق الذي ورد فيه. لكن شبكة «ان بي سي» عثرت على الشريط كاملا، وبثته، فاظهر السياق ان اوباما كان يتحدث العكس تماما، وانه كان يمجد اقتصاد السوق، والمنافسة، وما الى ذلك.
ثقافة «تقصي الحقائق»، التي تنتشر اليوم في شكل واسع في الولايات المتحدة، تجعل من الصعب تمرير اي فريق اي ادعاءات زائفة بحق الفريق المنافس، وهذا ما يخفف من وطأة القوة المالية لبعض المرشحين من دون الآخرين، ويخفف من قوة حملات التشهير الاعلانية التي يشنها مرشحون ضد خصومهم، فالحملة الدعائية اليوم اذا ما اظهرتها المواقع المذكورة على انها كاذبة، تنقلب ضد اصحابها.
وفي ظل تراجع مصداقية معظم الاعلام الاميركي، وتحول بعضه الى اعلام حزبي بالكامل، مثل شبكتي فوكس اليمينية الموالية للجمهوريين وشبكة «ام اس ان بي سي»، اليسارية الموالية للديموقراطيين، تبرز مواقع «تقصي الحقائق» الصاعدة كبديل لدور الرقابة الذي كان يلعبه الاعلام التقليدي، الذي يبدو انه والحال هذه قد يخسر لقبه «السلطة الرابعة» لمصلحة بعض هذه المواقع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق