بقلم حسين عبد الحسين
الحرة
لا تخلو الأزمنة من شعراء البلاط ومثقفي السلاطين، ولطغاة الممانعة في إيران وسورية ولبنان مثقفوهم. لكن من هؤلاء من لا يمتهنوا مديح سلاطينهم وقدح الأعداء بشكل مباشر، بل هم يختبئون خلف ستار الثقافة والحرية لتقديم نظريات يصفونها بالموضوعية، فيما هي في الواقع مزيجا من معاداة الديمقراطية والإعجاب بالديكتاتوريات.
في الماضي القريب، استنبط أحدهم إحدى أسوأ النظريات بإطلاقه تسمية "المثقفين الملتزمين". ملتزمون ماذا بالضبط؟ ملتزمون "القضية المركزية" للعرب، وهي قضية لا تتعلق بحرياتهم الفردية، ولا بالمساواة بينهم، ولا باختيارهم لحكوماتهم، فقط باستعادة أرض صماء بكماء، وتقديم الدماء والأرواح فداء لهذه الأرض. هي أرض أهم من الروح البشرية، بدلا من أن تكون الأرض واحدة من الأدوات في خدمة البشر.
"المثقف الملتزم" أمس هو عراب مجموعة "المثقفين الشبيحة" اليوم، ممن استبدلوا الدفاع عن صدام حسين بدفاعهم عن بشار الأسد
لا تفاهة ترقى على تفاهة "المثقفين الملتزمين"، فالمثقفون حكما لا التزام لهم إلا تحكيم العقل والإدلاء بالآراء حسب ما يملي ضميرهم وفهمهم للأمور، والسعي لكسب المصداقية بين الناس، ومراجعة التجارب، والاعتراف بالخطأ لاستنباط مواقف جديدة. أما "الثقافة الملتزمة" فهي شكل صنمي طوطمي، يحول قادة الرأي المزعومين من المثقفين إلى مجموعات تبرير لرأي الحاكم، وهو غالبا ما يكون رأيا شعوبيا تافها.
ومن "الثقافة الملتزمة" تنبثق مبادئ تفاهة متنوعة، مثل "الإعلام الممانع"، في عبارة هي بمثابة إهانة للإعلاميين، تحولهم من ناقلين للأخبار وشارحين لها، إلى أدوات إعلان ودعاية لمصلحة محور معاداة الديمقراطية.
اقرأ للكاتب أيضا: آن أوان طي صفحة الأسد
أخونا "المثقف الملتزم"، الذي كان يدعو في كل يوم إلى "ثورة على الطغيان الصهيوني والقتال من أجل حرية الفلسطينيين"، تحول إلى الصوت الأبرز في الدفاع عن رئيس العراق الراحل صدام حسين ومعارضة الحرب الأميركية التي أطاحته. يبدو أن الحرية ـ مع الفوضى التي تصاحبها عادة ـ لا تليق إلا بالفلسطينيين وحدهم، ولا تليق بالعراقيين أبدا.
الإجابة لدى أخينا "المثقف الملتزم" كان مفادها أن الاطاحة بصدام كانت ستؤدي إلى حرب أهلية ودماء، وأن على المثقفين العرب أن يكونوا واقعيين ويقبلوا بقاء صدام على أنه أهون الشرين. طبعا في حالة فلسطين، لا واقعية ولا رضوخ للأمر الواقع، بل صراع أجيال حتى آخر قطرة دم لاستعادة فلسطين من النهر إلى البحر. أما أي مثقف يتحدث عن واقعية فهو خائن وعميل. هكذا تحدث "المثقف الملتزم".
"المثقف الملتزم" أمس هو عراب مجموعة "المثقفين الشبيحة" اليوم، ممن استبدلوا الدفاع عن صدام حسين بدفاعهم عن بشار الأسد، وهو دفاع يتحول ويتلون حسب تطورات الأوضاع. يوم كانت المعارضة السورية متقدمة عسكريا وكاد الأسد ينهار، علا صراخ المثقفين الشبيحة أن لا حلا عسكريا في سورية، وأن الحسم العسكري يرعب الأقليات، وأن عددا لا بأس به من السوريين يؤيدون الأسد، وأن على التسوية أن تأخذ هؤلاء في عين الاعتبار للتوصل لإقامة حكومة وحدة وطنية.
ثم عندما انقلب الميزان العسكري وراح حلفاء الأسد يكتسحون مناطق معارضيه، برز "المثقفون الشبيحة" إلى الواجهة مجددا. هذه المرة، لم تعد تعجبهم حكومات الوحدة الوطنية بين الأسد ومعارضيه، بل راحوا يرددون أن الأسد سيئ، لكن بغياب البديل، يصبح الأسد الخيار الوحيد في حكم سورية.
من "الثقافة الملتزمة" تنبثق مبادئ تفاهة متنوعة، مثل "الإعلام الممانع"
في فلسطين، لا يقبل "المثقفون الشبيحة" أقل من فلسطين التاريخية عربية كاملة من البحر إلى النهر. لا القرارات الأممية، ولا واقع وجود دولة إسرائيل، ولا ضرورة الأخذ بعين الاعتبار أن غالبية الإسرائيليين اليوم هو من مواليد هذه الأرض. يصر "المثقفون الشبيحة" على أن استعادة فلسطين بالكامل واجب وطني لا مواربة فيه، حتى لو أدى الأمر إلى بحيرات من الدماء، وإلى أجيال من الشقاء الفلسطيني في مخيمات الشتات.
أما في سورية، فالواقعية متوخاة، وعلى المثقف أن يقرأ الوقائع على الأرض، وأن يستنبط حلولا تتماشى مع قوة الأسد وحلفائه، حتى لو تطلب الأمر التغاضي عن قصفه مدنيين سوريين بالأسلحة الكيماوية، فالإصرار على رحيل الأسد، مثل الإصرار على رحيل صدام، فيه دمار ودماء، والدماء تسال فقط كرمى لعيون فلسطين.
أما المثقفون من غير الشبيحة فموقفهم جلي واضح: الحرية لجميع البشر، فلسطينيين وعراقيين وسوريين وإسرائيليين. لكل من هؤلاء دولة معترف بها في شرعة الأمم، ولكل من هؤلاء الحق بالعيش الكريم، بمساواة كاملة، وفي ظل حكومة يختارها دوريا؟
لا تنتقص مساندة الإمبريالية في القضاء على الطاغية صدام، أو الديكتاتور الأسد، من أهمية الحرية، ولا الواقعية تنتقص من حقوق العراقيين أو السوريين أو الفلسطينيين أو الإسرائيليين. هو قياس واحد للجميع، لا يتغير بحسب ميزان القوى العسكرية على الأرض. كل ما عدا ذلك يدخل في باب التشبيح، المعروف أيضا بالبلطجة، والزعرنة، وسائر الصفات التي تسري على السلاطين، وعلى أزلامهم، وعلى مخبريهم، وعلى مثقفيهم.
الحرة
لا تخلو الأزمنة من شعراء البلاط ومثقفي السلاطين، ولطغاة الممانعة في إيران وسورية ولبنان مثقفوهم. لكن من هؤلاء من لا يمتهنوا مديح سلاطينهم وقدح الأعداء بشكل مباشر، بل هم يختبئون خلف ستار الثقافة والحرية لتقديم نظريات يصفونها بالموضوعية، فيما هي في الواقع مزيجا من معاداة الديمقراطية والإعجاب بالديكتاتوريات.
في الماضي القريب، استنبط أحدهم إحدى أسوأ النظريات بإطلاقه تسمية "المثقفين الملتزمين". ملتزمون ماذا بالضبط؟ ملتزمون "القضية المركزية" للعرب، وهي قضية لا تتعلق بحرياتهم الفردية، ولا بالمساواة بينهم، ولا باختيارهم لحكوماتهم، فقط باستعادة أرض صماء بكماء، وتقديم الدماء والأرواح فداء لهذه الأرض. هي أرض أهم من الروح البشرية، بدلا من أن تكون الأرض واحدة من الأدوات في خدمة البشر.
"المثقف الملتزم" أمس هو عراب مجموعة "المثقفين الشبيحة" اليوم، ممن استبدلوا الدفاع عن صدام حسين بدفاعهم عن بشار الأسد
لا تفاهة ترقى على تفاهة "المثقفين الملتزمين"، فالمثقفون حكما لا التزام لهم إلا تحكيم العقل والإدلاء بالآراء حسب ما يملي ضميرهم وفهمهم للأمور، والسعي لكسب المصداقية بين الناس، ومراجعة التجارب، والاعتراف بالخطأ لاستنباط مواقف جديدة. أما "الثقافة الملتزمة" فهي شكل صنمي طوطمي، يحول قادة الرأي المزعومين من المثقفين إلى مجموعات تبرير لرأي الحاكم، وهو غالبا ما يكون رأيا شعوبيا تافها.
ومن "الثقافة الملتزمة" تنبثق مبادئ تفاهة متنوعة، مثل "الإعلام الممانع"، في عبارة هي بمثابة إهانة للإعلاميين، تحولهم من ناقلين للأخبار وشارحين لها، إلى أدوات إعلان ودعاية لمصلحة محور معاداة الديمقراطية.
اقرأ للكاتب أيضا: آن أوان طي صفحة الأسد
أخونا "المثقف الملتزم"، الذي كان يدعو في كل يوم إلى "ثورة على الطغيان الصهيوني والقتال من أجل حرية الفلسطينيين"، تحول إلى الصوت الأبرز في الدفاع عن رئيس العراق الراحل صدام حسين ومعارضة الحرب الأميركية التي أطاحته. يبدو أن الحرية ـ مع الفوضى التي تصاحبها عادة ـ لا تليق إلا بالفلسطينيين وحدهم، ولا تليق بالعراقيين أبدا.
الإجابة لدى أخينا "المثقف الملتزم" كان مفادها أن الاطاحة بصدام كانت ستؤدي إلى حرب أهلية ودماء، وأن على المثقفين العرب أن يكونوا واقعيين ويقبلوا بقاء صدام على أنه أهون الشرين. طبعا في حالة فلسطين، لا واقعية ولا رضوخ للأمر الواقع، بل صراع أجيال حتى آخر قطرة دم لاستعادة فلسطين من النهر إلى البحر. أما أي مثقف يتحدث عن واقعية فهو خائن وعميل. هكذا تحدث "المثقف الملتزم".
"المثقف الملتزم" أمس هو عراب مجموعة "المثقفين الشبيحة" اليوم، ممن استبدلوا الدفاع عن صدام حسين بدفاعهم عن بشار الأسد، وهو دفاع يتحول ويتلون حسب تطورات الأوضاع. يوم كانت المعارضة السورية متقدمة عسكريا وكاد الأسد ينهار، علا صراخ المثقفين الشبيحة أن لا حلا عسكريا في سورية، وأن الحسم العسكري يرعب الأقليات، وأن عددا لا بأس به من السوريين يؤيدون الأسد، وأن على التسوية أن تأخذ هؤلاء في عين الاعتبار للتوصل لإقامة حكومة وحدة وطنية.
ثم عندما انقلب الميزان العسكري وراح حلفاء الأسد يكتسحون مناطق معارضيه، برز "المثقفون الشبيحة" إلى الواجهة مجددا. هذه المرة، لم تعد تعجبهم حكومات الوحدة الوطنية بين الأسد ومعارضيه، بل راحوا يرددون أن الأسد سيئ، لكن بغياب البديل، يصبح الأسد الخيار الوحيد في حكم سورية.
من "الثقافة الملتزمة" تنبثق مبادئ تفاهة متنوعة، مثل "الإعلام الممانع"
في فلسطين، لا يقبل "المثقفون الشبيحة" أقل من فلسطين التاريخية عربية كاملة من البحر إلى النهر. لا القرارات الأممية، ولا واقع وجود دولة إسرائيل، ولا ضرورة الأخذ بعين الاعتبار أن غالبية الإسرائيليين اليوم هو من مواليد هذه الأرض. يصر "المثقفون الشبيحة" على أن استعادة فلسطين بالكامل واجب وطني لا مواربة فيه، حتى لو أدى الأمر إلى بحيرات من الدماء، وإلى أجيال من الشقاء الفلسطيني في مخيمات الشتات.
أما في سورية، فالواقعية متوخاة، وعلى المثقف أن يقرأ الوقائع على الأرض، وأن يستنبط حلولا تتماشى مع قوة الأسد وحلفائه، حتى لو تطلب الأمر التغاضي عن قصفه مدنيين سوريين بالأسلحة الكيماوية، فالإصرار على رحيل الأسد، مثل الإصرار على رحيل صدام، فيه دمار ودماء، والدماء تسال فقط كرمى لعيون فلسطين.
أما المثقفون من غير الشبيحة فموقفهم جلي واضح: الحرية لجميع البشر، فلسطينيين وعراقيين وسوريين وإسرائيليين. لكل من هؤلاء دولة معترف بها في شرعة الأمم، ولكل من هؤلاء الحق بالعيش الكريم، بمساواة كاملة، وفي ظل حكومة يختارها دوريا؟
لا تنتقص مساندة الإمبريالية في القضاء على الطاغية صدام، أو الديكتاتور الأسد، من أهمية الحرية، ولا الواقعية تنتقص من حقوق العراقيين أو السوريين أو الفلسطينيين أو الإسرائيليين. هو قياس واحد للجميع، لا يتغير بحسب ميزان القوى العسكرية على الأرض. كل ما عدا ذلك يدخل في باب التشبيح، المعروف أيضا بالبلطجة، والزعرنة، وسائر الصفات التي تسري على السلاطين، وعلى أزلامهم، وعلى مخبريهم، وعلى مثقفيهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق