حسين عبدالحسين
للوهلة الاولى، تبدو المملكة العربية السعودية هي المسؤولة عن دمار اليمن: مجاعة وقتلى على الأرض بالتزامن مع سيطرة المقاتلات السعودية على السماء، ودعاية إيرانية شرسة مستندة إلى الإسلام السياسي في الشرق الأوسط وإلى معادة الإمبريالية في الغرب. لكن هذه الرواية كاذبة، ولا تتعدى كونها دعاية إيرانية معادية للسعودية وللولايات المتحدة.
لنعد إلى البداية. وصلت نسمات الربيع العربي اليمن في العام 2011، وتظاهر اليمنيون كأقرانهم العرب في الشوارع والساحات مطالبين بإنهاء عقود من حكم الرجل الواحد علي عبدالله صالح. لم تقف السعودية في وجه الرغبة الشعبية اليمنية، بل هي استضافت القادة اليمنيين، وبمشاركة ديبلوماسية من دول الجوار، تم التوصل إلى "المبادرة الخليجية"، التي قضت بتخلي صالح عن السلطة، وتسليمها إلى نائبه عبد ربه منصور هادي.
تردد صالح في تنفيذ بنود الاتفاقية، وتعرض لمحاولة اغتيال، استضافته بعدها السعودية وقدمت له رعاية صحية من الدرجة الأولى. ثم بعد تنازل صالح عن السلطة، على مضض، راح يحرّض ضد الحكومة اليمنية، واستدعى الميليشيات الشمالية ذات الغالبية المذهبية اليزيدية، التي يتزعمها عبدالملك الحوثي، اعتقادا منه أن بإمكانه الاتكاء عليها للعودة إلى السلطة، ليتبين أن الحوثيين بدورهم كانوا يستخدمون صالح كغطاء لاكتساحهم العاصمة صنعاء، ذات الغالبية السنية.
ومع سيطرة الحوثيين، المتحالفين مع إيران، على صنعاء ومعظم البلاد، وجدت السعودية أن إيران صارت على حدودها الجنوبية الغربية، وصارت صواريخ إيران الباليستية تهدد العمق السعودي، فشنت الرياض، بمؤازرة دول "مجلس التعاون الخليجي" حملتها العسكرية للتخلص من خطر الميليشيات الموالية لإيران في اليمن، ولإعادة حكومة هادي إلى السلطة. هذا كان في جزيرة العرب.
أما في واشنطن، فكان مستشار شؤون الارهاب للرئيس السابق باراك أوباما، جون برينان، والذي تولى فيما بعد منصب مدير "وكالة الاستخبارات المركزية" (سي آي إي)، على اتصال مباشر أو غير مباشر بالحوثيين بهدف إقناعهم بالانخراط في الحرب الدولية ضد الإرهاب، والمساعدة في القضاء على تنظيم "القاعدة في الجزيرة العربية" في اليمن، والذي كان يقوده اليمني الأميركي أنور العولقي. والعولقي هو المواطن الأميركي الوحيد، في تاريخ الحرب على الإرهاب، الذي استهدفته الولايات المتحدة في هجوم بطائرة درون مسيرة أدى إلى مقتله.
التنسيق الذي كان ينشده برينان مع الحوثيين لم يكن خارجا عن سياق سياسة أوباما، القاضية بالتقارب مع إيران. وكان أوباما يرى في الحرب على الإرهاب فرصة لتعزيز العمل الأمني المشترك مع الإيرانيين، إن ضد تنظيم "داعش" في العراق وسوريا أو ضد "القاعدة" في اليمن، على أمل توسيع التنسيق بين واشنطن وطهران ليشمل الديبلوماسية والسياسة وغيرها.
أمام تشجيع صالح لهم داخل اليمن، وتقاربهم مع واشنطن، ومع الدعم المالي والعسكري الإيراني، وجد الحوثيون أنفسهم مدعوين لاقتحام اليمن، والسيطرة عليه. وبعدما أدرك صالح خطأه وحاول العودة إلى أحضان السعودية، انقلب عليه الحوثيون وتخلصوا منه.
يزيدية الحوثيين هي مذهب منشق عن، ويتناقض مع، الشيعة الاثني عشرية، الدين الرسمي للجمهورية المسماة إسلامية في إيران. لكن الخلاف العقائدي بين الحوثيين والشيعة لا يفسد في المصالح قضية، ومثلما اعتبرت إيران المذهب العلوي في سوريا شيعيا، لم يمانع ملالي طهران إدخال اليزيديين تحت مظلة المذهب الشيعي.
إيران لا تخفي أطماعها في اليمن، وهي أطماع تاريخية تعود إلى زمن الساسانيين، منذ اكتشاف الرياح الموسمية في الإبحار، مطلع الألفية الميلادية الأولى، وهي الرياح التي قدّمت للتجارة بين الهند وحوض المتوسط طريقا بديلة عن طريق الخليج ـ العراق ـ المشرق، وهي طريق بحرية، كانت تمر من المتوسط عبر النيل، فقناة الفراعنة شرقا إلى البحر الحمر، فجنوبا نحو عدن، ثم تتجه شرقا عبر المحيط إلى الهند.
ولهذه الرياح موسمان، شتوي يهب من الهند باتجاه القرن الأفريقي، وصيفي يهب بالاتجاه المعاكس. هاتان الرحلتان عبر المحيط الهندي شكلتا أساس التجارة في العالم القديم، وورد ذكرهما في القرآن في سورة قريش "رحلة الشتاء والصيف".
وأدى الاهتمام المتزايد باليمن، وخصوصا مرفأ عدن، إلى حروب بين الإمبراطوريات، فواجهت الحبشة فارس على أرض اليمن، وبعد موت أبرهة الحبشي، اكتسح الساسانيون اليمن وأمسكوا بمحطة التجارة الاستراتيجية. ومنذ التفاف الأوروبيين حول رأس الرجاء الصالح في أفريقيا وتأسيسهم طريقا مباشرة إلى الهند، بمساعدة البحّار الإماراتي ابن ماجد، حكم اليمن والقرن الأفريقي وجانبي مضيق هرمز سلطنة عمان وزنجبار لفترة ناهزت الثلاثمائة عام.
على أن إيران لم تنس أطماعها في اليمن، وراح وزير خارجيتها جواد ظريف ينشر تسمية "الخليج الفارسي الأوسع"، وهذا، حسب ملالي إيران، منطقة نفوذ لهم تتضمن الخليج، والبحر الأحمر، والمشرق، أي الإمبراطورية الفارسية الساسانية في ذروة اتساعها، قبل ظهور الإسلام بقليل. وفي أبريل 2015، نشر ظريف مقالة في صحيفة "نيويورك تايمز"، دعا فيها إلى التعاون مع أميركا، ودول المنطقة، للاعتراف بمصالح إيران في "الخليج الفارسي الأوسع".
لم تأت مشاركة السعودية في حرب اليمن من الفراغ، ولو كان للسعوديين أطماعا في اليمن أو حقدا ضد شعبه، لكانوا شنوا حروبا عليه منذ زمن. لكن أمام توسع إيران، واستيلاء ميليشيا الحوثيين على اليمن، وانهيار الحكومة، كان لا بد للرياض من رسم بعض الخطوط الحمراء، فكانت الحرب، وزادت أزمة اليمنيين عمقا أنه من غير المعروف عن الميليشيات الموالية لإيران تقديمها أي تنازلات لأسباب إنسانية، بل إن هذه الميليشيات راحت تستغل الأزمة للإثراء ولاستدرار العطف الدولي.
هكذا، جلس السناتور الديمقراطي كريس مورفي مع ظريف، على هامش مؤتمر ميونيخ الأسبوع الماضي، وطالبه بالإيعاز للحوثيين بوقف الضريبة التي يفرضونها على المساعدات الإنسانية، تحت طائلة وقف أميركا هذه المساعدات، فوعده ظريف بالعمل على الموضوع.
التسوية في اليمن سهلة، وتشبه التسويات في العراق: ترمي الميليشيات الموالية لإيران سلاحها، وتساوي نفسها بالناس العاديين، وتذهب لانتخابات دورية تقرر هوية الحكام وشكل سياساتهم. أما الإمعان في شعارات معاداة الإمبريالية لتغطية عورة الطغيان والفساد، فعبثية ومزيد من الموت والدمار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق