الياس خوري
لا ادري ما هي فلسفة استنباط صيغة نائب الفاعل في قواعد اللغة العربية. فنائب الفاعل هو عمليا المفعول به، لكنه يُعرب كفاعل، ويُعامل بوصفه كذلك، والسبب هو مجهولية الفاعل او تجهيله.
ان نقول قُتلَ الرجلُ، رافعين القتيل بالضم كما نرفع الفاعل، لا يجعل من القتيل قاتلاُ، لكنه يستعيض به عن القاتل، لأن النُحاة العرب لم يستطيعوا القبول بافتراض وجود فعل لا فاعل له. فأخترعوا صيغة نائب الفاعل، محولين، اعرابياً على الأقل، المفعول به فاعلا مؤقتاً، بانتظار ظهور الفاعل الحقيقي. لست متأكدا هنا لماذا افترض النُحاة العرب ان الجملة تستقيم بلا مفعول به لكنها لا تستقيم من دون فاعل. اغلب الظن انهم افترضوا ان غياب الفاعل ينفي الفعل نفسه، لذا صار من الضروري رفع المفعول وجعله في موضع الفاعل. اشار سيبويه في 'الكتاب' الى هذه الظاهرة قائلا: 'والمفعول الذي لم يتعدّ اليه فعلُ فاعلٍ ولم يتعدَّه فعله اي مفعول (آخر) والفاعل والمفعول في هذا سواء، يرتفع المفعول كما يرتفع الفاعل، لأنك لم تشغل الفعل بغيره وفرّغته له، كما فعلت ذلك بالفاعل'. (ص 33. كتاب سيبويه، دار الجيل بيروت، 1991(.
لا يبحث كبير النُحاة العرب في سبب اجتماعي او سياسي او ثقافي لهذه الظاهرة، فالمفعول يرتفع بحسب سيبويه لأن الفعل تفرّغ له، واغلب الظن ان مثل هذه الأمور لم تشغله، لذا لا اريد ان افترض ان هذه الصيغة النحوية القديمة لها علاقة بطبائع الاستبداد، كي نستعير عبارة استاذنا الكبير عبد الرحمن الكواكبي. ومن المرجح ان تكون المواءمة بين طبائع الاستبداد ونائب الفاعل حديثة العهد ومرتبطة بأنظمة الانقلاب العسكري التي وجدت في تجهيل الفاعل وسيلة لغوية ونحوية تغطي بها جرائمها، محدثة اخطر ظاهرة في لغتنا المعاصرة، وهي فصل الدال عن المدلول، او فصل المبنى عن المعنى، بحيث تغرق اللغة في رمل اللامعنى.
لم يكن طغاة العرب والعجم الذين تحكموا بعالمنا العربي طوال قرون في حاجة الى لعبة نائب الفاعل هذه، فالفاعل كان يفتخر بفعلته، لأن السلطة كانت تؤخذ غلابا وبشكل علني. وما حكاية تقطيع جسم ابن المقفع ورمي اجزائه في النار وهو حي على يد سفيان بن معاوية والي البصرة من قبل الخليفة العباسي الثاني المنصور، الا اشارة الى افتخار المجرم بجريمته الوحشية، وعدم حاجته الى نائب يقيه شر فعلته.
غير ان عصرنا الحديث، وخصوصا في زمن البعثين العراقي والسوري حمل تطورات جديدة، تمثلت في تعهير اللغة بالجريمة. صدام حسين، قبل ان ينقلب على احمد حسن البكر ويعلن نفسه رئيساً، كان يُطلق عليه لقب السيد النائب. اما رفعت الأسد قائد سرايا الدفاع وسفّاح حماه، فصار نائبا لشقيقه الرئيس، قبل ان تطيح به صراعات القصر، ومؤامرات الوراثة. النائبان كانا نموذجين مختلفين لمصير اللغة في زمن تبعيثها، فصارت الشعارات القومية مجرد قشرة تغطي اعادة انتاج لنوع من المملوكية الجديدة القائمة على امتهان المعاني وتحطيم كرامة المواطن.
حوّل البعثان التآمر الذي اتى بهما الى السلطة عن طريق الانقلاب والانقلاب على الانقلاب الى نمط حكم. فالعقلية الانقلابية القائمة على الولاءات العائلية والعشائرية تقرأ التاريخ والوقائع كمؤامرات تحاك في الظلام، وترى في كل شيء شبح مؤامرة. فهي لا تُحسن ان تتصرف الا كقوى تتآمر، واذا لم يكن هناك مؤامرة اخترعتها ثم صدّقت كذبتها.
الذي أمر باعتقال اطفال درعا وتعذيبهم بوحشية، ثم اهان اهلهم، كان مقتنعا ان هؤلاء الأطفال هم غطاء مؤامرة، ولم يكن قادرا على ان يتخيل ان الأطفال كتبوا على الحيطان شعار الثورات العربية، تعبيرا عن تأثرهم بما رأوه على الشاشة الصغيرة، فقاموا ببراءة بكسر ما كان النظام مقتنعا باستحالة كسره. ومع انكسار جدار الخوف تدفقت الثورة كالسيل.
ولعل قمة العقل التآمري هي اختراع المؤامرة والصاقها بالآخرين، من مقتلة قادة حزب البعث في العراق على يد صدام، الى ما لا آخر له، وصولا الى اختراع الامارات السلفية في سورية، وانتهاء بالعصابات المسلحة.
لا ادري كيف سيبرر النظام السوري خروج مئات الالوف الى الشوارع امام المراقبين العرب. كيف سيقومون باقناعهم ان القتيل هو القاتل، وان المتظاهرين يقتلون انفسهم؟ لعله يتكل على رئيس لجنة المراقبين، الذي قيل والله اعلم انه ضالع في حكايات الجنجويد الاجرامية. اغلب الظن ان النظام كان يعتقد ان عملياته العسكرية الوحشية، التي سبقت مجيء المراقبين العرب، سوف تردع اي حركة، كي يبدو المشهد الدماري ديكوراً يستطيع النظام من خلاله تسويق حكاية نائب الفاعل التي لا يمل من تكرارها.
غير ان حمص اثبتت العكس وهي تخرج من تحت دمارها الى نور المظاهرات التي اشتعلت في احيائها، وهكذا فعلت ادلب ودرعا وحماه ودير الزور وحلب وريف دمشق. وكانت مظاهرة دوما اشارة الى ان النظام فقد حيلته. ثم جاء صوت المثقفين والفنانين السوريين الاحرار ليعلن ان الثورة مستمرة.
في زمن البعث الذاهب الى افوله الحتمي، وصل التلاعب بالضحية الى ذروته، عبر الصاق الجريمة بالقتيل وتحويل الضحية الى مجرم او الى نائب للمجرم. غير ان احد فضائل الانتفاضة الشعبية السورية هو القدرة على فك طلسم الفعل المجهول، معلنة ان الجريمة يجب ان تتوقف لأن المفعول به قرر ان يتخلى عن وضعه كنائب فاعل، وصار صانعا للتاريخ، وهو يواجه الجريمة بصيحة الحرية.
ان نقول قُتلَ الرجلُ، رافعين القتيل بالضم كما نرفع الفاعل، لا يجعل من القتيل قاتلاُ، لكنه يستعيض به عن القاتل، لأن النُحاة العرب لم يستطيعوا القبول بافتراض وجود فعل لا فاعل له. فأخترعوا صيغة نائب الفاعل، محولين، اعرابياً على الأقل، المفعول به فاعلا مؤقتاً، بانتظار ظهور الفاعل الحقيقي. لست متأكدا هنا لماذا افترض النُحاة العرب ان الجملة تستقيم بلا مفعول به لكنها لا تستقيم من دون فاعل. اغلب الظن انهم افترضوا ان غياب الفاعل ينفي الفعل نفسه، لذا صار من الضروري رفع المفعول وجعله في موضع الفاعل. اشار سيبويه في 'الكتاب' الى هذه الظاهرة قائلا: 'والمفعول الذي لم يتعدّ اليه فعلُ فاعلٍ ولم يتعدَّه فعله اي مفعول (آخر) والفاعل والمفعول في هذا سواء، يرتفع المفعول كما يرتفع الفاعل، لأنك لم تشغل الفعل بغيره وفرّغته له، كما فعلت ذلك بالفاعل'. (ص 33. كتاب سيبويه، دار الجيل بيروت، 1991(.
لا يبحث كبير النُحاة العرب في سبب اجتماعي او سياسي او ثقافي لهذه الظاهرة، فالمفعول يرتفع بحسب سيبويه لأن الفعل تفرّغ له، واغلب الظن ان مثل هذه الأمور لم تشغله، لذا لا اريد ان افترض ان هذه الصيغة النحوية القديمة لها علاقة بطبائع الاستبداد، كي نستعير عبارة استاذنا الكبير عبد الرحمن الكواكبي. ومن المرجح ان تكون المواءمة بين طبائع الاستبداد ونائب الفاعل حديثة العهد ومرتبطة بأنظمة الانقلاب العسكري التي وجدت في تجهيل الفاعل وسيلة لغوية ونحوية تغطي بها جرائمها، محدثة اخطر ظاهرة في لغتنا المعاصرة، وهي فصل الدال عن المدلول، او فصل المبنى عن المعنى، بحيث تغرق اللغة في رمل اللامعنى.
لم يكن طغاة العرب والعجم الذين تحكموا بعالمنا العربي طوال قرون في حاجة الى لعبة نائب الفاعل هذه، فالفاعل كان يفتخر بفعلته، لأن السلطة كانت تؤخذ غلابا وبشكل علني. وما حكاية تقطيع جسم ابن المقفع ورمي اجزائه في النار وهو حي على يد سفيان بن معاوية والي البصرة من قبل الخليفة العباسي الثاني المنصور، الا اشارة الى افتخار المجرم بجريمته الوحشية، وعدم حاجته الى نائب يقيه شر فعلته.
غير ان عصرنا الحديث، وخصوصا في زمن البعثين العراقي والسوري حمل تطورات جديدة، تمثلت في تعهير اللغة بالجريمة. صدام حسين، قبل ان ينقلب على احمد حسن البكر ويعلن نفسه رئيساً، كان يُطلق عليه لقب السيد النائب. اما رفعت الأسد قائد سرايا الدفاع وسفّاح حماه، فصار نائبا لشقيقه الرئيس، قبل ان تطيح به صراعات القصر، ومؤامرات الوراثة. النائبان كانا نموذجين مختلفين لمصير اللغة في زمن تبعيثها، فصارت الشعارات القومية مجرد قشرة تغطي اعادة انتاج لنوع من المملوكية الجديدة القائمة على امتهان المعاني وتحطيم كرامة المواطن.
حوّل البعثان التآمر الذي اتى بهما الى السلطة عن طريق الانقلاب والانقلاب على الانقلاب الى نمط حكم. فالعقلية الانقلابية القائمة على الولاءات العائلية والعشائرية تقرأ التاريخ والوقائع كمؤامرات تحاك في الظلام، وترى في كل شيء شبح مؤامرة. فهي لا تُحسن ان تتصرف الا كقوى تتآمر، واذا لم يكن هناك مؤامرة اخترعتها ثم صدّقت كذبتها.
الذي أمر باعتقال اطفال درعا وتعذيبهم بوحشية، ثم اهان اهلهم، كان مقتنعا ان هؤلاء الأطفال هم غطاء مؤامرة، ولم يكن قادرا على ان يتخيل ان الأطفال كتبوا على الحيطان شعار الثورات العربية، تعبيرا عن تأثرهم بما رأوه على الشاشة الصغيرة، فقاموا ببراءة بكسر ما كان النظام مقتنعا باستحالة كسره. ومع انكسار جدار الخوف تدفقت الثورة كالسيل.
ولعل قمة العقل التآمري هي اختراع المؤامرة والصاقها بالآخرين، من مقتلة قادة حزب البعث في العراق على يد صدام، الى ما لا آخر له، وصولا الى اختراع الامارات السلفية في سورية، وانتهاء بالعصابات المسلحة.
لا ادري كيف سيبرر النظام السوري خروج مئات الالوف الى الشوارع امام المراقبين العرب. كيف سيقومون باقناعهم ان القتيل هو القاتل، وان المتظاهرين يقتلون انفسهم؟ لعله يتكل على رئيس لجنة المراقبين، الذي قيل والله اعلم انه ضالع في حكايات الجنجويد الاجرامية. اغلب الظن ان النظام كان يعتقد ان عملياته العسكرية الوحشية، التي سبقت مجيء المراقبين العرب، سوف تردع اي حركة، كي يبدو المشهد الدماري ديكوراً يستطيع النظام من خلاله تسويق حكاية نائب الفاعل التي لا يمل من تكرارها.
غير ان حمص اثبتت العكس وهي تخرج من تحت دمارها الى نور المظاهرات التي اشتعلت في احيائها، وهكذا فعلت ادلب ودرعا وحماه ودير الزور وحلب وريف دمشق. وكانت مظاهرة دوما اشارة الى ان النظام فقد حيلته. ثم جاء صوت المثقفين والفنانين السوريين الاحرار ليعلن ان الثورة مستمرة.
في زمن البعث الذاهب الى افوله الحتمي، وصل التلاعب بالضحية الى ذروته، عبر الصاق الجريمة بالقتيل وتحويل الضحية الى مجرم او الى نائب للمجرم. غير ان احد فضائل الانتفاضة الشعبية السورية هو القدرة على فك طلسم الفعل المجهول، معلنة ان الجريمة يجب ان تتوقف لأن المفعول به قرر ان يتخلى عن وضعه كنائب فاعل، وصار صانعا للتاريخ، وهو يواجه الجريمة بصيحة الحرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق