حسين عبدالحسين
تفوقت الديبلوماسية الأميركية على نفسها في البلاهة والاستخفاف بعقول متابعيها. في خطاب مثقل بالتناقضات الواضحة امام "معهد الولايات المتحدة للسلام"، حاول وزير الخارجية جون كيري اخفاء آخر التنازلات الأميركية امام المطالب الروسية والإيرانية في سوريا.
في خطاب كيري، لم يعد رحيل الرئيس السوري بشار الأسد سبيلا لوقف الحرب السورية، بل صار وقف الحرب السورية سبيلا.. لوقف الحرب السورية. على مدى الأسبوع الذي سبق الخطاب، سعت الخارجية الى حشد التأييد للتغيير الذي سيكشفه كيري في "الاستراتيجية الأميركية الجديدة في سوريا".
الخطاب حمل عنوان "خطاب حول سوريا"، ولكنه كان فعليا خطاب حول تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش).
يقول كيري، من دون ان يلاحظ أي تناقض في قوله، ان بلاده ماتزال متمسكة برؤية أن لا حل عسكرياً في سوريا، لذا أقامت الولايات المتحدة تحالفاً عسكرياً دولياً لشن حرب ضد داعش في سوريا والعراق.
ثم يقول كيري ان الأسد هو سبب صعود داعش، ويعتبر ان أربعة عقود من ديكتاتورية آل الأسد، لا حكم الابن وحده، هي التي قضت على الحياة السياسية في سوريا، وبثت اليأس في نفوس مواطنيها، فانتفضوا في ثورة حولتها دموية الأسد الى حرب طاحنة وأجبرت كثيرين من السوريين على اما الاحتماء بداعش من بطش الأسد او الخوف من دموية داعش والانضمام الى هذا التنظيم.
ولأن الأسد هو سبب الحرب السورية، يلخص كيري الرؤية الأميركية للحل في سوريا بضرورة رحيل داعش.
ولأن حرب الأسد ضد شعبه هي سبب صعود داعش، يلخص كيري الرؤية الأميركية للتخلص من داعش بوقف دفاع السوريين عن أنفسهم في وجه حرب الأسد ضدهم.
في استراتيجيتها الجديدة حول سوريا، تراجعت الولايات المتحدة عن مبدأ ضرورة زوال سبب وجود داعش، أي الأسد، واستبدلتها بمقولة القضاء على داعش أولا، ما يتطلب – حسب واشنطن – وقف إطلاق نار والمباشرة بتسوية سياسية سورية، "بدعم ديبلوماسي واسع"، وبمشاركة الأسد. استبدال أولوية البت بمصير الأسد بأولوية وقف إطلاق النار للقضاء على داعش هو تقديم أولوية "محاربة الإرهاب" على أولوية "نزع سبب الإرهاب" في سوريا. أولوية رحيل الأسد هي مطلب المعارضين السوريين واصدقائهم العرب. أولوية الحرب ضد داعش وتأجيل البت في مصير الأسد هي مطلب الأسد وإيران وروسيا.
في استراتيجيتها الجديدة، انقلبت أميركا من متمسك بمطلب المعارضة السورية واصدقائها العرب الى مؤيدة لمطلب الأسد وعرابيه إيران وروسيا. ربما يعتقد كيري ان الإيحاء بأن خطابه ذا أهمية، وأن بزجّه ببعض العبارات في خطابه التي ساوت بين داعش والأسد وتحدثت عن ديكتاتورية الأخير وبطشه ودمويته، لن يلاحظ مطالبو رحيل الأسد الاستدارة في الموقف الأميركي.
ربما يعتقد كيري ان تقدم الهجوم الكردي ضد داعش في جبل سنجار في العراق والهجوم الأسدي ضد داعش في مطار كويرس في سوريا يؤشران الى جدية دولية تتطلب زخما ديبلوماسيا مستجداً يوازي التحرك العسكري. اما الزخم الديبلوماسي فيتطلب، حسب كيري، تراجعا اميركيا – عربيا – سوريا وتبني الرؤية الروسية – الإيرانية للحل السوري.
هكذا غادر كيري واشنطن وهو يعتقد انه حشد التأييد المطلوب لبيان فيينا، الذي أغدق عليه المديح في خطابه. لم يقل كيري ما المطلوب فعليا من لقاء فيينا يوم السبت، لكن ما قد يحاول الوزير الأميركي فعله هو تهديد الدول العربية وتركيا، التي تدعم المعارضة السورية، بفرض وقف إطلاق نار على المعارضة تحت طائلة تصنيف هذه المجموعات على أنها إرهابية، وهو تصنيف يمنح روسيا وإيران والأسد إذناً علنياً لتكثيف حربهم الدموية ضد المعارضة داخل في سوريا.
كيري قدم الديبلوماسية الأميركية بصراحة لا سابق لها، وهي ديبلوماسية مطابقة – منذ اليوم الأول للثورة السورية في العام 2011 – للرؤية الروسية – الإيرانية، وهي رؤية منحازة تماما للأسد ضد معارضيه.
لكن في فيينا، كما في سوريا، لاعبون غير أميركا، وتراجع واشنطن في سوريا – وهو ليس الأول – لا يعني بالضرورة تراجع غيرها او هزيمة الثوار، الذين يبدو انهم مازالوا يتمسكون برحيل الأسد، "سياسيا ام عسكريا"، حسب تعبير وزير خارجية السعودية عادل الجبير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق