حسين عبدالحسين
مات رئيس الولايات المتحدة الحادي والاربعون، جورج بوش (الأب)، عن أربعة وتسعين عاما، كانت حافلة بخدمته الطويلة للوطن. كان أول من سارع إلى نعيه الرئيس السابق باراك أوباما، اذ على الرغم من انتماء كل منهما لحزب يعارض الآخر، بوش للجمهوري وأوباما للديموقراطي، إلا أن أميركا ما زالت تنحني أمام الموت، فلا يهجي الخصم خصمه، ولا يسعى إلى تلطيخ صورته ومحو تاريخه، بل يغدق على ذكراه المديح والكلمات الطيبة.
ورثاء أوباما لبوش الأب لم يكن نفاقا سياسيا، بل أن الرئيس السابق حاول أن يفي سلفه الراحل بعض حقه، فبوش الأب، على الرغم من فشله في الفوز بولاية ثانية، تمتع باحترام واسع بين الأميركيين من الحزبين، منذ عمله طيارا حربيا للقضاء على النازية، إلى توليه مناصب تراوحت بين موفد بلاده إلى الأمم المتحدة والصين، ومدير ”وكالة الاستخبارات المركزية“ (سي آي اي)، ونائب الرئيس الراحل رونالد ريغان، حتى انتخابه رئيسا للبلاد.
أما أبرز إنجازات بوش الأب، عربيا، فتجلّت في قيادته التحالف الدولي الذي حرر الكويت من احتلال الرئيس العراقي الراحل صدام حسين لها. تلك الحرب لم تكن تسمح، أخلاقيا، بالاختيار بين الغازي صدام وضحاياه الكويتيين. مع ذلك، اختار بعض العرب الوقوف مع صدام، الغازي المحتل، وقدموا أسبابا واهية، كررها البعض بعد شيوع خبر وفاة بوش الأب.
في العام 1990، وصف العرب أصحاب ”الخطاب الخشبي“ الكويتيين بأنهم ”يهود الخليج“ (وكأن كلمة يهودي شتيمة)، واتهموا الكويتيين بأنهم بخلاء لم ينفقوا على قضايا العرب، وخصوصا فلسطين، مع ان ”حركة تحرير فلسطين“ (فتح) نفسها أبصرت النور في الكويت، برعاية الكويتيين وتمويلهم، يوم كان محمد القدوة، ياسر عرفات لاحقا، واحدا من عشرات آلاف الفلسطينيين المقيمين في الكويت والمتنعمين بوظائفها.
اقرأ للكاتب أيضا: المؤامرة الأميركية الكبرى!
ومن الأسباب التي ساقها العروبيون أصحاب ”القضية“ لتبرير اجتياح صدام للكويت كان اعتبار أن الكويت ”صنيعة الاستعمار“، وكأن فلسطين — كما العراق وسورية والأردن ولبنان — لم يرسمها السيدان سايكس وبيكو.
كان اجتياح صدام حسين الكويت أكثر الاجتياحات بربرية في التاريخ المعاصر. نهب العراقيون البنوك الكويتية واقبيتها، وأفرغوها من احتياطات النقد والذهب. كما نهب جيش صدام المحال الكويتية الفاخرة، وصار سعر ساعة الرولكس فلوسا قليلة في الأسواق العراقية. وخطف العراقيون عددا من الكويتيين، وهؤلاء مايزال مصيرهم مجهولا حتى اليوم. وقبيل هزيمته وانسحابه، أضرم صدام النار في آبار النفط الكويتية، في واحدة من أكبر الكوارث البيئية المعاصرة.
أثناء كل بربرية صدام هذه، وقف عرفات إلى جانب رئيس العراق الراحل، في بغداد، يستعرضان الجيوش العراقية، وهلل عرب كثيرون في الشوارع وهم يهتفون ”يا صدام وياحبيب، دمّر دمّر تل ابيب“، يوم تساقطت بعض صواريخ السكود العراقية على رؤوس الإسرائيليين.
لم تكن الكويت لتعود لأصحابها على أيدي أصحاب القضية وشعارات العروبة، ولم يكن تحريرها ممكنا لولا بوش الأب، الذي قاد حربا يمكن تدريسها في كتب الديبلوماسية والعلاقات الخارجية، إذ على الرغم من القوة الجبارة التي كانت أميركا تنفرد بها وقتذاك، حرص بوش الأب على بناء تحالف دولي، وحرص على الالتزام بتفويض الأمم المتحدة، فأنهى العمل العسكري فور التحرير، ومن دون اجتياح العراق للاقتصاص من الأرعن صدام.
ولو أن الإدارات الأميركية اللاحقة التزمت أسلوب بوش الأب، لناحية تحريك المجتمع الدولي إنسانيا، ثم التزامها بحدود القرارات الدولية، لكان العالم اليوم في وضع أفضل بكثير. عوضا عن ذلك، غرقت أميركا لاحقا في حرب أحادية في العراق، وتجاهلت كارثة سورية الإنسانية التي ارتكبها الرئيس بشار الأسد.
لو لم يحرر بوش الأب الكويت، لكانت اليوم لا تزال المحافظة العراقية التاسعة عشرة، ولكانت على شكل العراق، غارقة في فساد، بلا كهرباء، ولا مال، ولا وظائف، ولا أمل. أما الكويت اليوم، فتعيش في بحبوحة، ورخاء، ونظام، وبرلمان منتخب، وصحافة حرة.
اقرأ للكاتب أيضا: من أحرق الشرق الأوسط؟
لم ينس الكويتيون يوما فضل بوش الأب عليهم. في أكتوبر العام الماضي، زار وفد كويتي بزعامة رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم الرئيس الراحل جورج بوش الأب، ونقل إليه أنه، بعد كل السنوات، لا يزال الكويتيون يحفظون جميله.
أما بعض جيران الكويت من العراقيين، ممن وصلوا الحكم في بغداد على ظهور الدبابات الأميركية، فاستداروا على أميركا في العراق، وراحوا يصرخون ضد أي تدخل أميركي ينقذ جيرانهم السوريين من دموية بعث الأسد، على غرار إنقاذ أميركا لهم من دموية بعث صدام.
في بعض العقل العربي، يرتبط اسم بوش الأب بحرب إمبريالية مزعومة على العراق، لكن الواقع أن اسم الراحل بوش يرتبط ببقاء الكويت اليوم واحة رخاء، بدلا من غرقها في بؤرة البؤس العراقي، وهو إنجاز، وحده، كفيل باسكات ”الخطاب الخشبي“ وأصحابه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق