واشنطن - من حسين عبدالحسين
طغت مصادقة مجلس النواب التاريخية على خلع دونالد ترامب على الأحداث السياسية للعام 2019... فترامب هو الرئيس الثالث من رؤساء الولايات المتحدة - البالغ عددهم 45 والمتعاقبين منذ العام 1789 - الذي يتم التصويت على خلعه، وهو خلع حصل في خضم نقاش طويل ومحتدم بين الرئيس الأميركي ومناصريه الجمهوريين، من جهة، والمعارضين الديموقراطيين من جهة ثانية.
والتصويت على خلع ترامب نجم على إثر قيام عامل في الاستخبارات، لا تزال هويته مجهولة حفاظاً على سلامته وعملاً بالقوانين الأميركية، بإبلاغ المفتش العام في وزارة العدل عن «تجاوزات» ارتكبها الرئيس أثناء محادثته الهاتفية مع نظيره الأوكراني فلودومير زيلينسكي، في يوليو الماضي، حاول فيها ترامب الضغط على كييف بالتلويح بوقف 400 مليون من المساعدات العسكرية المخصصة لها، ما لم يعلن الأوكرانيون مباشرتهم بإجراء تحقيقات في عمليات فساد ارتكبها هنتر بايدن، نجل نائب الرئيس السابق والمرشح الديموقراطي المنافس لترامب للرئاسة جو بايدن.
ولاحتواء الموقف، قام ترامب بنشر ملخّص عن فحوى المحادثة، فاتضح أن عملية التهديد واضحة من سياق الحديث، إذ باشرت لجنتا الاستخبارات، وبعدها العدل، في تسطير مذكرات للتحقيق مع المعنيين، ونجحت في استجواب مسؤولين سابقين من الشهود على المكالمة، لكن ترامب منع المسؤولين الحاليين في إدارته من المثول أمام الكونغرس للشهادة، وهو بمثابة تجاوز للقوانين، ما دفع مجلس النواب إلى إضافة بند ثان للخلع: الأول بتهمة سوء استخدام السلطة لمآرب شخصية، والثاني بتهمة عرقلة تحقيقات الكونغرس.
ويتحول قرار الخلع إلى مضبرة اتهامية ينظر فيها مجلس الشيوخ، الذي يتحول إلى هيئة محلفين في محكمة يرأسها رئيس المحكمة الفيديرالية العليا جون روبرتس. إلا أن إعلان زعيم الجمهوريين في الشيوخ ميتش ماكونيل انه سينسّق المحاكمة مع البيت الأبيض أثار الشبهات حول حياديتها، ودفع رئيس مجلس النواب الديموقراطية نانسي بيلوسي إلى الإحجام عن إرسال القرار الاتهامي إلى مجلس الشيوخ، إلى حين التأكد أن المحاكمة ستكون نزيهة وعادلة، لا شكلية وهدفها تبرئة ترامب، وهو ما يعني أن الأشهر الأولى من العام المقبل ستغرق كذلك في محاكمة ترامب، إلى أن تغوص البلاد كلياً في عملية الانتخابات الرئاسية، إذ تبدأ الانتخابات التمهيدية لاختيار الديموقراطيين مرشحهم في فبراير المقبل.
وخلع ترامب لم يبدأ مع مكالمة ترامب وزيلينسكي في يوليو، بل هو عنوان يتردد منذ اليوم الأول لتوليه الرئاسة، وصدور تقارير استخباراتية أميركية، تلتها قرارات اتهامية صادرة عن المحاكم، تدين كبار المسؤولين في نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بتهمة التدخل في الانتخابات الرئاسية في العام 2016 لترجيح كفة ترامب في وجه منافسته الديموقراطية وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون.
وأمام الاتهامات لترامب بالتواطؤ مع الروس، قام وكيل وزارة العدل، الذي كان عينه ترامب، رود روزنستاين، بتكليف الرئيس السابق لمكتب التحقيقات الفيديرالي (اف بي آي) روبرت مولر، باجراء تحقيقات مستقلة. وبعد عامين من التحقيقات بتكلفة عشرات ملايين الدولارات، سلّم مولر تقريره إلى وزير العدل وليام بار، الموالي لترامب، فقام الأخير بتدبيج خلاصة اقتطع فيها ما يناسبه، وتوصل إلى نتيجة مفادها بأن التقرير رأى أن ترامب لم يتعاون مع الروس، فهلل الرئيس، ما دفع مولر للخروج عن صمته والقول إنه لم يتوصل إلى نتيجة من هذا النوع.
وبيّن تقرير مولر ومكالمة ترامب - زيلينسكي، أمضى ترامب العام بأكمله مهجوساً بإمكانية خلعه، وراح يسمي تحقيقات مولر «صيد ساحرات»، وهي تسمية خلعها بعد ذلك على تحقيقات الديموقراطيين، في الوقت الذي يواصل ترامب هوسه في السعي للفوز بولاية رئاسية ثانية. وخسارة أي رئيس الانتخابات لولاية ثانية، تعد في الثقافة السياسية الأميركية، بمثابة ذلّ أكبر من أن يخسر أي مرشح للرئاسة المعركة من خارج البيت الأبيض.
ولأن اهتمام ترامب ينصب على فوزه بولاية ثانية، في الانتخابات المقررة في نوفمبر المقبل، فهو يسخّر كل إمكانيات الحكومة ليقنع ناخبيه بأنه حقق معظم ما وعدهم به في حملته الانتخابية الرئاسية الأولى. وتتصدر الوعود، نهضة في الاقتصاد، وهي وعود تحققت، ولكن بتكلفة عالية جداً للعجز السنوي، الذي ارتفع بواقع ثلاثة أضعاف ليصل نحو تريليون دولار سنوياً، ما دفع الدين العام لتخطي عتبة الـ 23 تريليوناً، وبذلك تجاوز الدين الأميركي عتبة المئة في المئة من حجم إجمالي الناتج المحلي البالغ 21.5 تريليون دولار. أما سبب تضاعف العجز فيعود إلى تخفض ترامب الضرائب لتحفيز النمو.
وعلى الرغم من النمو الاقتصادي، إلا أن القطاعات المؤيدة في غالبيتها لترامب، مثل المزارعين، عانوا من آثار الحرب الاقتصادية التي يخوضها الرئيس الأميركي مع الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم واكبر، إذ حاول ترامب «لي ذراع» بكين بفرض رسوم جمركية على واردات أميركا الصينية، فبادلت الصين ترامب الرسوم، لكنها بكين استهداف وارداتها الزراعية الأميركية، فاضطرت واشنطن إلى التعويض عن مزارعي الصويا، مثلاً، بإجمالي بلغ 21 مليار دولار، وهو ما حمل ترامب على إبداء بعض الليونة، فتم التوصل إلى ما اسمته الدولتان «اتفاقية تجارية مبدئية» لا تزال تفاصيلها غامضة.
استماتة ترامب لاستخدام موقعه الرئاسي للفوز بولاية ثانية طاول سياسته الخارجية. في هذا السياق، يحاول ترامب منح إسرائيل أقصى ما يمكنه اعتقاداً منه أن لأصدقاء الدولة العبرية كتلة انتخابية وازنة ومانحين ماليين أسخياء. ومن المعروف أن الغالبية الساحقة لليهود الأميركيين تدعم الحزب الديموقراطي، لكن ذلك لم يوقف محاولات ترامب استمالتهم، فكان إعلانه نقل السفارة الأميركية إلى القدس، في مايو 2018، من دون أن يحدد أي قدس أو يشير إلى أن «القدس الموحدة» هي عاصمة إسرائيل، مع ما يعني أن خطوة ترامب أبقت الباب مفتوحاً لتسوية تكون فيها المدينة نصفين: الغربية عاصمة إسرائيل والشرقية عاصمة دولة فلسطين المزمع قيامها.
وفي محاولته إعادة إظهار تأييده لإسرائيل، قام ترامب في مارس الماضي بإصدار إعلان رئاسي، وهو ذات مفاعيل قانونية ضعيفة، مفاده بان الولايات المتحدة تعترف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان السورية المحتلة.
ومع إطلاق ترامب، يدي صهره وكبير مستشاريه اليهود الأرثوذوكسي جاريد كوشنر، وأصدقائه من اليهود المحافظين، في تقديم شكل الحل للصراع العربي - الإسرائيلي، أطلق كوشنر بخجل «صفقة القرن» للسلام، وهي خطة لم يتمخض عنها إلا مؤتمر اقتصادي استضافته المنامة في يونيو الماضي.
بشكل عام، كانت سياسات ترامب الخارجية في العام 2019، على عادته، متخبطة مثل أفكاره وتغريداته وسياساته، فقام بسحب مفاجئ لقواته من وادي الفرات شرق سورية إلى درجة أجبرت الجيش الأميركي على إخلاء قواعده، ومن ثم شن غارات جوية عليها لتدمير مخازن الأسلحة والذخائر لتفادي وقوعها في ايدي «مقاتلين معادين».
وقرر ترامب سحب القوات من سورية إفساحاً في المجال أمام اجتياح تركي، وهو ما أثار حفيظة غالبية أعضاء الكونغرس من الحزبين. وفي وقت لاحق، جمع الرئيس الأميركي بعضهم مع نظيره التركي أثناء زيارة رجب طيب أردوغان للبيت الأبيض، في نوفمبر، في محاولة للتخفيف من نقمة الأميركيين ضد أنقرة.
في الخليج، واصل ترامب سياسة «أقصى الضغط» الاقتصادي على طهران، وهي سياسة أفضت إلى تركيع الإيرانيين اقتصادياً، فحاولوا التحرش بالإبحار في الخليج، وقاموا، في يونيو، بإسقاط «درون» أميركية تبلغ تكلفتها 130 مليون دولار. وبعدما كانت البحرية الأميركية على وشك توجيه ضربة صاروخية إلى القاعدة الإيرانية التي انطلق منها الصاروخ، عدل ترامب عن رأيه في اللحظة الأخيرة، في تراجع حمل المراقبين الأميركيين على تكرار ما قالوه عن الرئيس السابق باراك أوباما يوم تراجع الأخير عن توجيه ضربة ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد على اثر مجزرة الغوطة الكيماوية صيف 2012.
واعتبر المراقبون أن الخصوم قاموا بـ «أخذ مقاسات» ترامب، وهم يعرفون انه ما لم يتم استهداف اميركيين، فان الرئيس سيتفادى المواجهات العسكرية.
وممن أخذوا «مقاسات ترامب»، زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ اون، إذ بعد أن التقاه ترامب مراراً كان آخرها في يونيو، في لقاءات تاريخية لا سابق لها بين رئيسي البلدين، وبعدما قدم ترامب «صفقة قرن» لبيونغ يانغ مفادها بأن تخليها عن أسلحتها النووية يعني رفع العقوبات عنها وإعادة انخراطها في الاقتصاد العالمي، حقق اون رمزية اعتراف رئيس أميركا به، ثم مضى في تجاربه الصاروخية النووية في سياسة أظهرت قلة حنكة ترامب وانعدام خبرته.
أميركا ودعت العام 2019 من دون مفاجآت تذكر، وفي ظلّ اقتصاد جيد. لكن الضجيج السياسي فيها، والمعارك الانتخابية، بلغت مراحل مرتفعة لا سابق لها، وهو ما يجعل حلول سنة 2020 الانتخابية بمثابة تكملة لغرق البلاد في سياساتها الداخلية. هكذا، بعدما كانت سنوات الانتخابات الرئاسية استثناء يشغل الولايات المتحدة عن شؤون العالم، صارت هذه الانتخابات وكأنها متواصلة على مدار الوقت، وصارت بذلك أميركا منشغلة بنفسها عن شؤون العالم بشكل متواصل كذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق