حسين عبدالحسين
أثار قيام "الجامعة الأميركية في بيروت" بالتخلي عن عميد كلية الطب ثائرة صحيفة لبنانية تابعة لـ "حزب الله"، فكتبت دفاعا عن العميد، وهاجمت رئيس الجامعة متهمة إياه بالرغبة في تحريض اللبنانيين على الثورة ضد دولتهم. وموقف هذه الصحيفة غريب: لماذا التدخل في شؤون جامعة "إمبريالية" تنشر ثقافة الديمقراطية الليبرالية التي لا تتوافق والخطاب الخشبي المقاوم والممانع؟ وماذا يعني "حزب الله" أو صحيفته من يكون عميدا لطب "الجامعة الأميركية"، ومن لا يكون؟
قد تبدو الإجابة أكثر وضوحا لدى معرفة أن الصحيفة نفسها نشرت، قبل أسابيع، على صفحة كاملة من صفحاتها، إعلانا مدفوعا للمركز الطبي الجديد الذي أقامته "الجامعة الأميركية"، وهو ما يعني أن المركز وعميده، أو أحد المسؤولين غيره في الجامعة، وافقوا على شراء إعلان بآلاف الدولارات من صحيفة معادية للولايات المتحدة ومقربة من "حزب الله".
وقد يرتب الإعلان المذكور مسؤولية قانونية جزائية أمام المحاكم الأميركية، التي تحظر دعم أي كيانات، مجموعات أم افراد، ممن تدرجهم حكومة الولايات المتحدة على لائحة الإرهاب، التابعة لوزارة الخارجية الأميركية. حتى لقاء الرئيس السابق جيمي كارتر مع مسؤولين في حركة "حماس" الفلسطينية، قبل أكثر من عقد، أثار عاصفة من المواجهات القانونية وصلت المحكمة الفدرالية العليا، التي اعتبرت أن الدعم المعنوي لأي كيان مصنف إرهابيا، أو من يرتبط به، هو بمثابة تعاون غير مشروع مع الكيان المذكور.
وسبق لـ "الجامعة الأميركية في بيروت" أن توصلت، قبل عامين، إلى تسوية مع وزارة العدل الأميركية، قضت بتسديد الجامعة غرامة بلغت 700 ألف دولار، بعد أن تبين أن إعلاميين يعملون في تلفزيون "حزب الله" شاركا في دورة تدريبية للصحافيين في الجامعة.
وقتذاك، اعترض عدد من المعنيين بالجامعة وخريجيها أن التسوية غير عادلة، إذ يستحيل معرفة مَن مِن الطلاب ينتمون إلى "حزب الله"، أو إلى أي تنظيم آخر تصنفه أميركا إرهابيا، وأن الطلب إلى ادارة الجامعة التحري عن عضوية طلابها في الأحزاب يتطلب جهاز استخبارات قائما بذاته، وموارد كبيرة، وهو أمر متعذر على صرح أكاديمي عريق يعمل في لبنان منذ العام 1866.
لا يعادي الأميركيون الإرهابيين، بل إن الأميركيين غالبا ما يتساءلون "لما يكرهنا" الإرهابيون. وتسعى الإدارات الأميركية المتعاقبة إلى تنمية المجتمعات التي تعيش في ظل دول فاشلة، لتقليص العنف بين أفرادها، وهو العنف الذي تخشى أميركا وأوروبا أن يصل شواطئها.
ولطالما شغلت مهمة تطوير المجتمعات وتحسين ظروف معيشتها الأجيال الغربية المتعاقبة على مدى القرنين الماضيين، وكانت "الجامعة الأميركية في بيروت" ثمرة النشاط الإرسالي المسيحي الذي كان يعمل في هذه المضمار، قبل أن تتخلى الجامعة عن هويتها المسيحية، وتتحول إلى هوية لا دينية تتسع أكثر لأبناء المذاهب والأديان المختلفة.
بدورها، تفاوتت ردات فعل المجتمعات التي تلقت مساعدات إرسالية، ولاحقا حكومية، من الحكومات الديمقراطية في أميركا وأوروبا؛ فألمانيا، مثلا، تحولت من واحدة من أكثر المجتمعات فاشستية وعنصرية وعنفا إلى ديمقراطية تعيش في بحبوحة، فيما انقسمت كوريا إلى اثنتين: واحدة ديمقراطية تعيش في بحبوحة بمساعدة أميركا وحلفائها، وثانية ديكتاتورية دموية يموت شعبها الجوع فيما هم يصفقون لتجارب صواريخهم النووية.
لبنان، بدوره، يمضي بخطى متسارعة من مشروع دولة ديمقراطية تعددية ذات اقتصاد رأسمالي مزدهر إلى دولة فاشلة ذات اقتصاد متهالك، في وقت يفتقر قادة لبنان إلى المخيلة المطلوبة لإنقاذه، ويتمسكون برؤى اقتصادية بالية تحولت إلى مصدر تهكم، مثل فكرة "بيع البطاطا اللبنانية للعراق".
ويهلل بعض اللبنانيين لمعاداة أميركا، ويتحينون اللحظة التي يدلي بها ديبلوماسي أميركي متقاعد برأيه حول الأزمة اللبنانية حتى يصورون أقواله على أنها إثبات للمؤامرة الأميركية المتخيلة على لبنان، وينهالون عليه بالشتائم.
على أن الغرابة تكمن في أن شتّامي أميركا يتسابقون في سرّهم للعمل في مؤسسات مثل "الجامعة الأميركية في بيروت"، أو يتسابقون لتقاضي دولارات دعاية المركز الطبي للجامعة، أو يطيرون تحت جنح الظلام إلى الولايات المتحدة لتلد زوجاتهم أطفالا يحصلون على جوازات سفر أميركية، ثم يرسلون هؤلاء الأولاد إلى المدارس والجامعات الأميركية، وينتهي الأمر ببعض هؤلاء الأولاد بأن يهاجروا إلى أميركا ويستوطنوا فيها، ويمررون جوازاتهم إلى اهاليهم، الذين يواصلون شتم أميركا وتقاضي أجور الشتم، أو أموال الإعلانات الأميركية، لا فرق.
هي حالة عربية وإيرانية أوسع من لبنان. عرب وفرس كثيرون يهاجرون إلى الغرب ويستميتون للاستيطان فيه وحيازة جوزات سفره، ومنهم من عمل ويعمل في مؤسسات حكومية أميركية، ثم يعودون إلى بغداد أو طهران للعمل كإعلاميين شتّامين لأميركا، أو يتحولون إلى دعاة معاداة أميركا و"الرجل الأبيض" داخل أميركا نفسها، ويستعيدون الخطاب عن المظلومية التي ألحقها مؤسسو الولايات المتحدة بالسكان الأصليين، فتكتمل دائرة التناقض: يشتمون الدولة نفسها التي يستميتون ليصبحوا مواطنيها.
الحل لنفاق معادي أميركا بسيط. على كل إنسان أن ينسجم مع نفسه وقناعاته. من يتبنون أميركا وطنا لهم عليهم الدفاع عن المبادئ التي تقوم عليها، وفي طليعتها الحرية والمساواة والديمقراطية. هذه المبادئ هي التي أنجبت مجتمعات أقل عنفا وأكثر استقرارا وازدهارا، وأكثر ابتكارا وعلما.
أما من يعادون أميركا ومبادئها، عليهم أن يتفادوا الاستيطان فيها، وتفادي الإفادة من مؤسساتها التربوية أو علمها، وأن يدافعوا عوضا عن ذلك عن المنظومة التي يتبنونها للحكم والحكومة، المبنية غالبا على تطويب أحدهم ملكا فيلسوفا، مثل خامنئي إيران أو بوتين روسيا أو شي الصين.
هذه الحكومات تعتبر أن "الكرامة الوطنية" مبنية على التغلب على "الرجل الأبيض" الغربي الإمبريالي بالعنف، وأن على شعوبها أن تعيش في الظلام حتى استكمال الانتصار، وأن تتباهى بصواريخها وأسلحتها وقوتها. عظيم! فلتهلل الصحيفة اللبنانية المقربة من "حزب الله" للصواريخ، ولتترك شؤون التربية والعلم والأكاديمية للعقلاء ممن تصفهم بالخونة والعملاء والخانعين والمهزومين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق