حسين عبدالحسين
لنتخيل أنه كما حصل أثناء حصار إسرائيل لبيروت في العام 1982، يوم أجمع زعماء لبنان على ضرورة التخلي عن ياسر عرفات ونفيه مع منظمة تحريره إلى تونس، لما فيه مصلحة لبنان، يجتمع قادة لبنان اليوم — الرئيس المسيحي ميشال عون ومنافسه المسيحي الآخر سمير جعجع، ورئيس الحكومة السني سعد الحريري، وزعيم الدروز وليد جنبلاط — ويبلغون زعيم "حزب الله" حسن نصرالله أن استمرار وجود ميليشياه المسلحة ستأخذ لبنان نحو الهلاك الاقتصادي لا محالة، وأن يطلبوا منه حلّ "ميليشيا حزب الله"، وتسليم صواريخها وأسلحتها الثقيلة إلى الجيش اللبناني، وتطويع مقاتليها في الأجهزة الأمنية اللبنانية المختلفة حتى يتم إعادة تثقيفهم، وحتى يقسموا ولاء جديدا لحماية شعب لبنان ودولته، بدلا من ولائهم الحالي لـ "قائد الأمة الإسلامية ونائب الإمام المنتظر الولي الفقيه“ الإيراني علي خامنئي.
مقابل تنازل نصرالله عن ميليشياه، تطلب دولة لبنان من حكومات العالم رفع "حزب الله" وكل الكيانات اللبنانية عن لوائح التنظيمات الإرهابية، والتوصل إلى تسوية حدودية (لا سلام) مع إسرائيل، حسب نص القرار 1701، الذي وافق عليه "حزب الله" ممثلا بوزيره محمد فنيش في حكومة فؤاد السنيورة في العام 2006، وإحصاء اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان حسب وثائق الانروا، ومنحهم حقوقا مدنية بدون جنسية، إلى أن يتم إعادة توطينهم في أي بقعة خارج لبنان، إن في دولة فلسطين المزمع قيامها أو في أي دولة أخرى في العالم يرضاها الفلسطينيون.
ومقابل تنازل نصرالله عن ميليشياه يوافق زعماء لبنان على إلغاء تام للطائفية السياسية، وتحويل لبنان إلى نظام برلماني غير رئاسي مبني على انتخابات نسبية في لوائح مقفلة، وعلى أساس لبنان دائرة واحدة، على غرار النظام الإسرائيلي الذي يسمح للأقلية العربية بالفوز بثالث أكبر كتلة في الكنيست ويمنحها تاليا صوتا لا يمكن إلغاؤه.
ومع عودة لبنان إلى النظام الدولي، تفتح المطارات الأميركية أبوابها للرحلات المباشرة بينها وبين مطارات لبنان. في المنطقة تتسابق الحكومات على سوق شركات الطيران، فالشرق الأوسط يتوسط أوروبا وأميركا من الغرب، وآسيا من الشرق، وهو ما يدر على شركات الطيران الوطنية بعائدات كبيرة. مثلا، حققت "الملكية الأردنية" أرباحا بلغت مليار دولار العام الماضي. وبسبب سعة الانتشار اللبناني وإمكانية تشغيل خطوط متعددة بين بيروت ومطارات العالم، يمكن لطيران "الشرق الأوسط" اللبناني تحقيق أرباح تصل إلى ملياري دولار في العام، وهو ما يوازي 16 في المئة من إجمالي عائدات لبنان للعام الماضي.
ويستأنف السياح من حول العالم زياراتهم إلى لبنان، إن للاستجمام والاستمتاع بثروة لبنان الأثرية التي لا تضاهى، أم للزيارة الدينية في بلد يعتقد المؤمنون أن السيد المسيح مشى في مناطقة الجنوبية، وأن القديسين عاشوا في وسطه الغربي وشماله، وأن سبايا كربلاء مروا في بقاعه. وفي لبنان ميزات تفاضلية تسمح له بالتفوق على معظم دول الإقليم في سياحته، أولها الانفتاح الاجتماعي لناحية اختلاط الجنسين، والتسامح نسبيا مع المثليين، ومع قوانين الأكل والشرب المتساهلة في الأماكن العامة.
ومع استتباب حكم القانون والمؤسسات والحكومة المنتخبة، يمكن أن تتحول الجامعات اللبنانية إلى مقصد للطلاب من أرجاء المعمورة، منهم ليتعلم العربية، ومنهم ليشارك في التنقيب الأركيولوجي في بلد قائم على طبقات من الحضارات. ويمكن أن تتحول مستشفيات لبنان إلى مراكز استشفائية إقليمية. ويمكن للبنان، بسبب الفائض في موارده البشرية ممن يحملون شهادات عليا، أن يتحول إلى مركز اقليمي للصناعات التكنولوجية، على غرار سيليكون فالي.
وعودة الثقة الدولية إلى لبنان تسمح لقطاعه المصرفي، الذي عاش على أرباح تمويل الدولة بفوائد خرافية، أن يطوّر نفسه ليقدم خدمات مصرفية على مستوى يتناسب وحاجات كبرى الشركات في العالم، وخصوصا مكاتبها الإقليمية. ويمكن اجتذاب مقرات التنظيمات الدولية، على غرار انتزاع رئيس حكومة لبنان الراحل رفيق الحريري اسكوا من أيدي مصر، وانتزاعه مقر مركز كارنيغي للأبحاث.
عودة السياحة، وانتعاش الخدمات التعليمية والاستشفائية والمصرفية، وتحويل لبنان إلى مضيف لمقرّات المكاتب الإقليمية لكبرى الشركات وللتنظيمات الدولية، كلها تساهم في النمو الاقتصادي، ومعه ترتفع عائدات الدولة. وللحد من إمكانية تنامي الفجوة بين الأثرياء والفقراء، يمكن إعادة توزيع الدخل عن طريق الضرائب التصاعدية، وتجديد شبكات الرعاية الاجتماعية، التي قامت كلّها في زمن الشهابية في لبنان، ولو قيّض للبنان سنوات استقرار أطول، لربما طالت رقعة النمو الاقتصادي والبشري والاجتماعي معظم أرجائه.
لكن خسارة رئيس مصر الراحل عبدالناصر حربه مع إسرائيل حوّلت لبنان إلى المنفذ الوحيد للصراع العربي الإسرائيلي، وأنهى اتفاق القاهرة للعام 1969 عقدين من النمو الاقتصادي اللبناني الباهر، وانخرط لبنان في الحرب الإقليمية العبثية المستمرة حتى اليوم، مع فترة نمو استثنائية ممولة بالدين بدأت في زمن الراحل الحريري، ووصلت نهايتها هذا الصيف، فارتطم اقتصاد لبنان بالأرض وبدأ رحلته إلى هاوية لا قعر لها.
الحلول أعلاه لا تتطلب سلاما مع إسرائيل، على الرغم من فوائد السلام الجمّة، بل هي "حياد إيجابي"، أي أن يتفادى لبنان كل الحروب، ويلتزم مبادرة بيروت للسلام التي أقرتها جامعة الدول العربية في العالم 2002، والقاضية بتوقيع سلام مع إسرائيل في حال انسحابها من الأراضي الفلسطينية.
في العام 2005، زار بطريرك الموارنة الراحل بطرس صفير رئيس أميركا السابق جورج بوش. وعلى الرغم من سمعة بوش وصقوره في السياسة الخارجية، قال الرئيس الأميركي إن بلاده ترحب بتحول "حزب الله" إلى حزب سياسي في حال تخليه عن العنف، أي حلّه ميليشياه. ميليشيات كثيرة قبله حلّت نفسها وحصلت على الأمان، مثل "الجيش الجمهوري الآيرلندي" و"منظمة التحرير الفلسطينية" والميليشيات اللبنانية بعد الحرب الأهلية. كلها انخرطت في سلام مقابل الأمان. حان الوقت ليحل "حزب الله" نفسه ويدع الشعب اللبناني يعيش.
في السودان ثورة أدت إلى تغييرات جذرية وإلى حكومة بدلا من طاغية خزعبلات مكافحة الامبريالية. يعرف السودانيون وحكومتهم أن نهاية شقائهم تكمن في عودتهم إلى المجتمع الدولي، إذ ذاك أعلن رئيس حكومتهم عبدالله حمدوك نيته التزام القرارات الدولية وإغلاق مكاتب كل التنظيمات المصنفة إرهابيا في العالم.
في لبنان لن تكون ثورة ما لم تؤد لتغييرات جذرية وإخراج البلاد من "محور الممانعة" والحروب، وإعادته دولة طبيعية منخرطة في النظام العالمي، دولة اقتصادها ينمو وشعبها يعيش ويهتف للحياة، لا للدماء والشهادة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق