حسين عبدالحسين
بعد قرابة عقد ونصف من الإصرار على "الديمقراطية التوافقية"، تخلى "حزب الله" وحليفاه، المسيحي جبران باسيل والشيعي نبيه بري، عن "الميثاقية" التي لطالما امتطوها لتعطيل الديمقراطية، وفرض ميشال عون رئيسا للبنان، وإبقاء بري رئيساللبرلمان.
فجأة لم يعد توافق طوائف لبنان الكبرى ـ السنة والشيعة والموارنة والدروز ـ شرطا لاختيار رئيس حكومة لبنان، فسمّى "حزب الله" وحليفاه رئيس حكومة لبنان السنّي بدون موافقة أكبر كتلة سنية برلمانية، وبدون تزكية مفتي الطائفة السنية. هكذا، بالكاد حاز رئيس الحكومة المكلّف حسّان دياب على الغالبية، إذ حصد 69 صوتا من أصوات برلمان لبنان البالغ عددها 120.
والديمقراطية العددية اللاطائفية أمر ممتاز ومطلوب، ونادى به ثوار لبنان الداعين إلى تغييرات جذرية في النظام والحكام. لكن المشكلة تكمن في أن "حزب الله" وعون يستخدمان الديمقراطية العددية لغايات آنية، والغالب أنهما سيتخليان عنها ويعودان إلى تفاهة الميثاقية والتوافقية عندما يتعذر عليهم تأمين العدد المطلوب لفرض آرائهم أو مرشحيهم مستقبلا، إذ ذاك يقفلون البرلمان، ويفرضون الفراغ على الرئاسة، إلى أن يفرضوا تراجع منافسيهم وينتزعوا توافقا، وهو أمر تكرر على مدى العقدين الماضيين.
مثلا، عندما خرج رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري من الحكم، ومعه الدروز وزعيمهم وليد جنبلاط، اختارت سلطة الوصاية السورية على لبنان الراحل عمر كرامي لرئاسة الحكومة، وأعلن "حزب الله" أن لا بأس برئاسة كرامي لحكومة تتمتع بدعم غالبية برلمانية بسيطة، وإن في غياب التوافق، وأنه يمكن لمن هم خارج الحكم، أي السنة والدروز، أن ينشغلوا في المعارضة.
في الحكومة التالية التي ترأسها فؤاد السنيورة ومنح عبرها موافقة لبنان على محاكمة دولية لتحقيق العدالة في جريمة اغتيال رفيق الحريري، انزعج "حزب الله"، فاستقال وزراء الشيعة من الحكومة، وعطلوها على الرغم من دستورية استمرارها، بداعي غياب الميثاقية عنها، وأقفل شريكهم بري البرلمان.
بعد سنوات، كان منافسو "حزب الله" يتمتعون بغالبية برلمانية لانتخاب رئيس لبنان الماروني، إلا أن "حزب الله" وعون أصرّا أن اختيار الرئيس لا يكون بالغالبية العددية البرلمانية، بل يتطلب توافقا، ولم يتراجعا إلا بعد التوصل إلى تسوية بين الطرفين قضت بانتخاب ميشال سليمان رئيسا.
ثم بعد انقضاء رئاسة سليمان، أقفل "حزب الله" البرلمان لإصراره على انتخاب عون. حسب هذه الرواية، عون يمثل المسيحيين، وانتخاب أي مسيحي آخر يعني غياب الموافقة المسيحية وتاليا غياب التوافق. ثم أن المسيحيين هم من يختارون ممثلهم، وتاليا رئيس البلاد، أي عون، وما على الطوائف الأخرى إلا الموافقة تلقائيا، فيتكون بذلك "توافق" وطني وتتحقق الميثاقية.
واستخدام الطائفية على هذا الشكل دأب عليه حليف "حزب الله" الآخر نبيه بري، الذي يفرض رأيه في كل موضوع وطني ـ انتخاب رئيس الجمهورية المسيحي أم اختيار رئيس الحكومة السني ـ لكن بعد كل انتخابات برلمانية، يصرّ بري أن رئاسة البرلمان المخصصة للشيعة هي اختيار محصور بالشيعة وحدهم، وما على باقي زعماء الطوائف إلا تبني الخيار الشيعي، أي بري، بدون نقاش.
هكذا، منح سلاح "حزب الله" القدرة على تغيير قواعد الديمقراطية في لبنان بحسب ما يتناسب ومصلحته، فإن توفّرت الغالبية العددية، يختار الحزب رؤساء جمهورية وبرلمان وحكومة بلا الإصرار على توافق، وإن لم تتوافر الغالبية العددية للحزب، يقفل الرئاسة والبرلمان والحكومة، ويصرّ على اختيار مرشحه، أو "مرشح تسوية" على الأقل، لحرمان الغالبية العددية من الاختيار من قد لا يعجبه من مرشحين.
وهكذا، تتأرجح ديمقراطية لبنان بين "حكم الغالبية" و"الديمقراطية التوافقية" بحسب ما يتناسب ومصالح الحزب وحلفائه. أما الحكومات التي تم انتخابها ديمقراطيا، فيفرض الحزب تعطيلها بقوة سلاحه، ويبرر ذلك بذريعة غياب "التوافق".
وإفادة الأحزاب غير الديمقراطية من الديمقراطية وتلاعبهم بها، أسلوب معروف، أشهر من انتهجه طاغية ألمانيا هتلر، الذي وصل إلى الحكم بانتخابات ثم تحول إلى حاكم أبدي ورمى السلم الذي تسلقه إلى السلطة بعيدا.
ومثل هتلر، وإنما بلا دمويته، يتلاعب اليوم رئيس تركيا رجب طيب إردوغان بالديمقراطية التركية، فيستخدم الحكم لتعزيز سلطته، ويعدّل الدستور بما يتناسب وبقائه في السلطة، ويتلاعب بالانتخابات، ويقتلع رؤساء بلديات منتخبين بحجج مختلفة.
منح سلاح "حزب الله" القدرة على تغيير قواعد الديمقراطية في لبنان
شحّ الثقافة الديمقراطية عند اللبنانيين قد يكون السبب الأبرز الذي يسمح لـ "حزب الله" وزعماء الطوائف بالتلاعب بالديمقراطية، وتاليا سوء حكم البلاد. مثلا، عند الحديث عن وطنيتهم، يكرر لبنانيون كثر عبارة 10452 كيلومترا مربعا، وهي مساحة لبنان، أو يعمدون إلى تأليه "الجيش اللبناني" كرمز الوطن، أو يتغنون بشعار الجمهورية، أي الأرزة، وهذه كلها أمور سطحية قد يكون الأفضل للبنانيين لو أنهم يشيرون إلى تمسكهم بالدستور الذي ينص على حرية الرأي، أو إلى إصرارهم على الديمقراطية وممارستها، بلا تلاعب، كأساس وطنهم ومواطنيتهم، على غرار شعوب الدول الديمقراطية.
مثلا؛ يتمسك الوطنيون الأميركيون بالدستور، أو بالحرية التي تشكل أساس الجمهورية، وكذلك يتمسك الفرنسيون بشعار دولتهم "حرية فردية، مساواة، مآخاة"، ويندر أن تجد أميركيا أو فرنسيا يعرف مساحة دولته أو يتغنى بجيشها.
لا عتب على ضحالة الثقافة الديمقراطية لدى "حزب الله" واللبنانيين عموما، لكن العتب هو على من يتمسكون بنظام "حكم الأقوى" القائم في لبنان، ويتغنون به ويعتقدونه ديمقراطية وحرية، والحري بثورة لبنان، إن كانت ما تزال قائمة، أن تناضل من أجل تكريس هذه المبادئ ونشرها، فالثورتين الأميركية والفرنسية لم تناديا بحكومات اختصاصيين، بل قامتا على أسس فكرية واضحة لإعادة تأسيس الدولة على أسس مواطنية وحرية فردية ومساواة، بعيدا عن التسلط والطغيان والتلاعب بالقوانين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق