حسين عبدالحسين
"نحن احرار لنعتقد ما نريد، ولكننا لسنا احرارا للكلام ضد معتقدات الآخرين". هذه كلمات زعيم "حزب النهضة" التونسي راشد الغنوشي في مقابلة اجرتها معه صحيفة "واشنطن بوست" للوقوف على رأيه حول محاكمة نبيل القروي، صاحب تلفزيون نسمة الذي قام ببث فيلم "بيرسوبوليس" الكارتوني الذي يصور الذات الالهية. محاكمة القروي قبل اسبوعين، والتي ادت الى تغريمه، تصدرت الصفحات الاولى للصحف العالمية الكبرى، اذ يبدو ان العالم يعلّق الآمال على تونس، بلد محمد البوعزيزي ومهد "الربيع العربي"، ويعتبرها صاحبة اكبر حظوظ في تقديم نموذج عربي ديموقراطي حديث لما بعد الثورات.
كذلك، يسود الاعتقاد ان التيارات الاسلامية التونسية هي الاكثر اعتدالا بين نظيراتها العربية، والاكثر قربا الى الليبرالية، ومراعاة لقيام دولة مدنية تكفل المساواة بين جميع المواطنين. بيد ان تصريح الغنوشي يشي باحترامه لحرية المعتقد وقصوره في فهم حرية التعبير، اذ ان حرية الرأي، حسب الغنوشي، مقيدة باحترام واجب تجاه "معتقدات" الآخرين. ومبدأ "معتقدات" هنا غامض، ويمكنه ان يشمل كمية غير محدودة من الافكار، وهذا عندما يحصل، يؤدي الى تضييق مساحة الحرية عموما.
ويبدو انه كما الغنوشي، هناك كمية لا يستهان بها من كلمة "لكن" تقوم التيارات الاسلامية غالبا باضافتها الى المفاهيم السائدة حول موضوع الدولة والمبادئ التي تقوم عليها. على سبيل المثال، قدمت مديرة تحرير الموقع الانكليزي لتنظيم "الاخوان المسلمين" المصري سندس عاصم ردا على مقالة الناشطة منى الطحاوي حول غياب حقوق النساء في مصر والعالم العربي.
وبأسلوب واضح وجميل صورت سندس برنامج الاخوان على انه يضع مسألة حصول المرأة على حقوقها فوق كل اعتبار. لكنها، وفي المقطع الاخير من ردها، اشارت الى ان رؤية حزبها للنساء مربوطة بدور المرأة المركزي في ادراة الاسرة. وكتبت سندس ان حزبها سيتبنى "عددا من السياسات المتمحورة حول العائلة، التي تسمح بدورها للمرأة بدعم حياة اسرتها".
وعلى رأي المثل، الشيطان في التفاصيل، والاحزاب الاسلامية العربية التي وصلت او تستعد للوصول الى الحكم اغرقت المبادئ العالمية المعروفة، مثل "حرية التعبير" و"حقوق الانسان" و"حقوق المرأة" وغيرها بكمية من التفاصيل غالبا ما تؤدي الى افراغ المبدأ الاساسي من مضمونه وتحويله الى شعار يغطي سياسات قد تناقض احيانا الهدف المنشود.
هذا الاسلوب في التمييع ليس حديثا، فقبل التيارات الاسلامية، تبنت الاحزاب العربية عقائد مختلفة من ارجاء المعمورة من ماركسية وماوية ورأسمالية وقومية. كل المبادئ التي قامت عليها الاحزاب العربية في الماضي اضحت فيما بعد شعارات لصراع قبلي طائفي عرقي، مما جعل من المستحيل احيانا تصنيف الاحزاب في الخانات السياسية المعروفة عالميا. حزب الله، مثلا، قائم على عقيدة دينية محافظة، ما يجعله حكما حزبا يمينيا. الا ان مناطحته للامبريالية، ورفعه شعار التضامن مع الشعوب المستضعفة حول العالم، يجعل منه حزبا عابرا للامم يساريا. كذلك "الحزب السوري القومي الاجتماعي"، يميني في عقيدته، يساري في شكله الثوري، وهكذا "الحزب التقدمي الاشتراكي"، اليساري افتراضيا، تحت قيادته الاقطاعية وقاعدته ذات اللون المذهبي الواحد، ما يجعل منه يمينيا في الواقع.
وكما فعلت الاحزاب القومية والماركسية قبل بعقود، تقوم التيارات الاسلامية العربية اليوم بتبني المفاهيم السائدة عالميا، وتعديلها تباعا، ما ينبأ ان النتيجة الاسلامية ستكون مشابهة لسابقاتها: تخبط في فهم المبادئ، ثم ادخال الاستثناءات عليها لجعلها مناسبة للبيئة العربية، ثم تكاثر في الاستثناءات حتى تتلاشى العقيدة المؤسسة وتصبح الاحزاب المذكورة شبكات ريعية تلجأ الى العنف للاستمرار في الحكم والحفاظ على مصالحها.
ان قصور الفهم حول حرية التعبير ليس حكرا على الاسلاميين العرب وحدهم. حتى المسيحيين والليبراليين غالبا ما يختلط عليهم هذا المفهوم.
في لبنان، على سبيل المثال، قاد عدد من الاحزاب والشخصيات غير الاسلامية انتفاضة سياسية في العام 2005 اسموها ثورة "14 آذار". في وقت لاحق، حاولت محطتا تلفزيون "المنار" و"ان بي ان"، المناوئتان لهذه الثورة، ان تبثان مسلسل حول حياة السيد المسيح، اذ ذاك جن جنون اصحاب ثورة الحرية في "14 آذار"، واصطفوا خلف الكنيسة المارونية، وعمدوا الى فرض رقابة ادت الى منع بث المسلسل الايراني.
في ذلك الوقت، استخدم تحالف "14 آذار" فكرة الغنوشي نفسها الواردة في "واشنطن بوست" لتبرير منع بث المسلسل، بمعنى ان التحالف المطالب بالحرية يساند حرية الرأي في الغالب، ولكنه يعارضها عندما لا تتوافق مع معتقداته او مع معتقدات من يسعى الى كسب ودهم كالكنيسة.
نحن لا نذكر هذه الحادثة لتبرئة اصحاب تلفزيون "المنار" من مساهمتهم في الحد من الحريات في لبنان، فـ "حزب الله" غزا عين الرمانة عندما قدمت محطة "ال بي سي" عرضا كوميديا يتهكم على زعيم الحزب السيد حسن نصرالله. ومنذ ذلك الحين، تعمد البرامج الكوميدية الى استبدال نصرالله بشخصيات اخرى من الحزب مثل النائب محمد رعد او الوزير حسين الحاج حسن.
ان قصور الفهم العربي لمبدأ حرية التعبير عن الرأي بشكل مطلق، لا حرية الرأي في الحيز الخاص او حرية المعتقد، ليس حكرا على الاسلاميين، بل يشمل المسيحيين وعدد لا بأس به من الليبراليين. اما الخوف العالمي، الغربي خصوصا، من الاسلاميين من دون غيرهم، فمصدره عوامل متعددة، اولها عداء يمتد لقرون بين المسيحيين والمحمديين، وثانيها لجوء الدول الغربية الى مصادقة الديكتاتوريات العربية القومية التي صورت الاسلاميين كخطر داهم، وثالثها هجمات 11 ايلول 2001 التي اعادت احياء الصراع المسيحي – الاسلامي الغابر.
في العالم العربي، من غير الممكن ان تتحول الانتفاضات الى ربيع من دون ادراك ان "حرية التعبير" هي حرية مطلقة، لا قيود عليها باسم احترام هذا المعتقد او ذاك المقام، او حتى المواضيع الالهية. و"حرية الرأي" لا تقبل التخوين ولا الاتهام بعدم الوطنية كذلك. "حرية الرأي"، من دون "ولكن"، هي في صلب اي تحول ديموقراطي او قيام دول ديموقراطية، وهي مبدأ عالمي شامل لا يحتمل التأويل ولا التعريب ولا الاسلمة، ولا تراعي خصوصيات المجتمعات المختلفة حول العالم، وبامكانها ان تثير الضغينة – او الفتنة حسب التعبير اللبناني – بين شخصين او فريقين او اكثر، ولكنها مع ذلك يجب ان تبقى مكفولة دستوريا، اي ما فوق سياسيا، من دون قيود ولا شروط، وهذه هي السمة الاساسية التي تتقدم فيها الدول الديموقراطية على باقي دول العالم.
هناك 3 تعليقات:
ياااااااااااااارب سلم
اتمنى تحديث الموضوعاااااااااات
فين الموضوعات الجديدة .. ؟؟
إرسال تعليق