حسين عبد الحسين
يتغنى اللبنانيون بما يخالونه تفوقاً على شعوب الشرق الأوسط، بل شعوب العالم قاطبة، ويتباهون بما يقارب الغرور. وللبنانيين بعض الحق في تباهيهم، فهم يحافظون على تقاليد تعود إلى أكثر من ألف عام، وهي تقاليد تدفعهم إلى السعي للرزق في أصقاع الأرض، بسبب تواضع موارد بلادهم الطبيعية.
في سعيهم هذا، أقام اللبنانيون إمبراطوريات فينيقية في حوض المتوسط وبعض سواحل الأطلسي، وقدّموا معارف إلى الحضارة البشرية تنوعت بين الإبحار والكتابة والتجارة.
لكن "الدني دوّارة"، حسب المثل اللبناني، ومنذ اندثار عاصمة إمبراطورتيهم البحرية قرطاج، في القرون الأولى للميلاد، توقف اللبنانيون عن التألق، لكنهم حافظوا على روح مبادرة فردية وهاجروا إلى حيث يرزقون، فأدت هجرتهم المتواصلة، منذ قرابة قرنين، إلى انتشارهم في أنحاء المعمورة، وحقق بعض مهاجريهم نجاحات قلّ نظيرها.
لكن نجاح المهاجرين لا يعود فضله للبنانيتهم، بل لبلدانهم الجديدة وللفرص التي قدمتها لهم. توطّن اللبنانيون في هذه الدول، وأصبحوا جزءا لا يتجزأ منها، ومن نسيجها الاجتماعي، والثقافي، والاقتصادي، والسياسي.
ويبدو أن من بقي في لبنان لا يدركون كم تتلاشى العلاقة بين غالبية مغتربي لبنان ووطنهم الأم، خصوصاً المغتربين ممن سنحت لهم فرصة الاستيطان. هكذا، تعتقد الحكومات اللبنانية المتعاقبة أن اللبنانيين يتحينون فرصة عودتهم إلى لبنان، فقط بسبب الارتباط القديم والجذور، وهذا اعتقاد خاطئ.
يمكن عودة مغتربي لبنان ممن يستحيل عليهم الاستيطان، مثل اللبنانيين في الخليج، وهؤلاء لم يتخلوا عن جنسيتهم اللبنانية أصلاً. ويمكن عودة لبنانيين ممن يعملون في دول بشروط صعبة يمكن ان تتوفر شروط أفضل منها في وطنهم الأم. لكن الجيل الثاني والثالث من المغتربين اللبنانيين، خصوصا من المقيمين في الدول المتقدمة، يصعب أن يعودوا إلى دول نامية، وفاشلة في الغالب، على غرار الوطن اللبناني.
على أنه يبدو أن حكومة لبنان لا تعرف ذلك، بل تعتقد وزارة خارجيتها أن الاغتراب اللبناني سيتهافت على أول فرصة استعادة الجنسية اللبنانية. ولأن غالبية المغتربين من المسيحيين، اعتقدت وزارة الخارجية اللبنانية أن عودتهم من شأنها أن تؤدي إلى ترجيح كفة الأحزاب المسيحية في الانتخابات البرلمانية المقررة في أيار/مايو المقبل.
وبعد حملة انتخابية شنها حزب مسيحي لبناني في السلطة، باستخدامه موارد حكومية لحشد تأييد لبنانيي الخارج ودفعهم للاقتراع لمصلحته، بالكاد بلغ عدد المغتربين اللبنانيين المسجلين للانتخاب خارج البلاد ٩٣ ألفا، من قرابة ٨٠٠ ألف لبناني ينتشرون في القارات الخمس.
أما عدد مستعيدي جنسيتهم اللبنانية من المغتربين، منذ إقرار حكومة لبنان القانون ٤١ في خريف ٢٠١٥ وحتى خريف ٢٠١٧، فبلغ ٢٩ مغتربا فقط.
لم تنجح حذاقة وزارة خارجية لبنان، ومحاولتها إطلاق حملة شكلها شبابي، بما في ذلك تعميم هاشتاغ "لبانتي"، في إقناع المغتربين، الذين يقدر عددهم بأكثر من ١٠ ملايين، في استعادة جنسيتهم اللبنانية. على الرغم من "الشكل الشبابي" للحملة، لم تفطن وزارة الخارجية اللبنانية للأخطاء اللغوية في الموقع الذي أطلقته بالإنكليزية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية.
ولم تفطن وزارة الخارجية لفحوى النص المزري الذي حاولت تسويقه امام المغتربين اللبنانيين، فورد على الموقع بالإنكليزية ما ترجمته ان وزارة الخارجية، لا حكومة لبنان كما تقضي الاصول، أقامت الموقع حتى يتقدم من ينحدرون من جذور لبنانية للحصول على جنسية لبنانية و"للإفادة من حقوق الاعمال والمالية والقنصلية والشخصية والاجتماعية كلبنانيين، أينما كانوا".
على سطحية هذه العبارة، لا بد أن المغتربين يعرفون أن وطن أجدادهم يعاني من فقدان كل أنواع الحقوق، فالزواج المدني غير متوفر في لبنان، وثقة العالم بحكومة لبنان متدنية إلى حد تجعل من "الحقوق القنصلية" أضحوكة، وتجعل من حاملي جواز السفر اللبناني موضع شكوك في كل مطارات العالم. أما "الحقوق الاجتماعية"، فمن نافل القول إنه لا يمكن لداكني البشرة ارتياد غالبية المنتجعات البحرية في لبنان.
ثم تقدّم وزارة خارجية لبنان جوهرتها في تحديدها من يحق له من المغتربين اللبنانيين استعادة جنسيتهم، وهم من ينحدرون من أب أو جد لبناني، أو الاجنبية زوجة اللبناني. اما المغتربين ممن ينحدرون من أم لبنانية وأب غير لبناني، فغير مرحب بهم في الوطن اللبناني العظيم.
في تقديمها لبنان لمغتربيه، قدمت وزارة الخارجية اللبنانية أمراض لبنان السياسية والاجتماعية والقنصلية، وذكّرت المغتربين اللبنانيين بالسبب الذي دفعهم للاغتراب أصلاً. لذا، لم يكن مستغربا أن يستعيد ٢٩ مغتربا، من أكثر من ١٠ ملايين مغترب، جنسيتهم اللبنانية. أما باقي المغتربين، فالأرجح انهم يتأملون تفاهة الدولة اللبنانية، ويتأسفون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق