واشنطن: حسين عبد الحسين
قد لا يتذكر العالم أن القرار الأميركي بالحوار مع إيران لم يتخذه الرئيس السابق باراك أوباما، بل كان خيار سلفه جورج بوش، الذي كان – في سنتي ولايته الأخيرة – يغرق في عدد من الوحول التي جعلت الولايات المتحدة تبدو وكأنها الدولة الأضعف في العالم: من بركة الدماء الأميركية في الفلوجة، إلى «الركود الكبير» في نيويورك، إلى النمو الاقتصادي الخارق الذي كانت تحققه الصين. كلها دفعت بوش للتخلي، بصمت، عن شرط وقف إيران تخصيب اليورانيوم والانخراط في الحوار الذي كانت بدأته عواصم أوروبا الثلاث حليفة أميركا – أي لندن وباريس وبرلين – مع طهران.في نفس الفترة، أي في النصف الثاني من العقد الماضي، سجّل السعر العالمي للنفط أرقاما قياسية، فحققت إيران نموا اقتصاديا بواقع 270 في المائة، بين العامين 2005 و2011. ليبلغ اقتصادها ذروته ويبلغ حجمه592 مليار دولار. وكما إيران، كذلك روسيا، التي حقق اقتصادها، المدفوع بعائدات النفط، نموا باهرا، ليصل إلى 2تريليوني دولار في العام 2014. قبل أن يبدأ مسيرة انحداره القاسية، ويخسر نصف قيمته، ليصل إلى أكثر من تريليون دولار بقليل مع حلول العام 2016.
ومع وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض، تابع الأخير سياسة الحوار مع إيران، نوويا، التي كانت إدارة بوش بدأتها من قبله. وأضاف أوباما إلى الحوار مع الإيرانيين انحيازا كبيرا تجاه نظامهم، عززه اعتقاد الرئيس السابق أنه يمكن لواشنطن إعادة تحالفها مع طهران إلى العهد السابق لثورة 1979 الإيرانية. لكن أوباما كان مخطئا، فأفاد الإيرانيون من أموالهم التي تم الإفراج عن تجميدها، ولكنهم بدلا من استثمارها في اقتصادهم، راحوا ينفقونها على مغامراتهم الإقليمية في تمويلهم الميليشيات الموالية لهم، من طرطوس السورية شمالا إلى باب المندب اليمني جنوبا، في محاولة إقامة «الخليج الفارسي الأكبر»، الذي تحدث عنه وزير خارجيتهم جواد ظريف في مقالة له في صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، قبل أعوام.
ومع استجداء أوباما للصداقة الإيرانية، وظهور أميركا بمظهر الضعيف، خالت إيران نفسها قوة عظمى، وراحت تتحرش بالملاحة في الخليج، وتعتقل بحارة أميركيين، وتجري تجارب على الصواريخ الباليستية، إلى أن وصل الرئيس دونالد ترمب إلى الرئاسة الأميركية. وقتها، أدرك ظريف، وهو من أبرع القارئين للمشهد السياسي الأميركي، أن وقت المزاح الأميركي قد انتهى، وأن ترمب يتحين تحرشا إيرانيا في الخليج ليأخذه ذريعة ويرسل إلى الجو القاذفات الاستراتيجية الأميركية المرعبة لتدك «الحرس الثوري الإيراني» ومواقعه، والبنية التحتية للبلاد، ومواقع النفط، والمنشآت الحيوية. هكذا، استكانت إيران، وانتهت فجأة تجاربها الصاروخية ومشاغباتها الخليجية، ولكنها استمرت في تمويل ميليشياتها الممتدة من اليمن، إلى العراق، فسوريا ولبنان.
نجح ظريف حتى الآن في تفادي الغضب العسكري الإيراني. لكن لذكاء الدبلوماسية الإيرانية حدود، إذ يمكنها تفادي مواجهة عسكرية مسلحة مباشرة مع الأميركيين، ولكن واشنطن 2018 أقوى بكثير اقتصاديا من واشنطن 2008، بالضبط كما هي طهران 2018 أضعف بكثير اقتصاديا من طهران 2008.
وبسبب الضعف الاقتصادي في دول مثل روسيا وإيران وتركيا، وبسبب قوة الاقتصاد الأميركي الذي دفع الاحتياطي الأميركي إلى رفع الفائدة على الودائع والسندات، راحت رؤوس الأموال تهرب من الدول النامية واقتصاداتها المتهاوية إلى واشنطن المتينة وفوائدها الآخذة في الارتفاع، وهو ما زاد الطين بلة بالنسبة لاقتصادات هذه الدول، إذ إن هروب رؤوس الأموال يؤدي لانهيار النقد الوطني، وهو ما يفاقم من الأزمة الاقتصادية.
في هذا السياق، انهار الريال الإيراني أمام الدولار من 43 ألفا للدولار الواحد نهاية العام الماضي إلى نحو 110 آلاف الأسبوع الماضي، في عملية انهيار اقتصادي يبدو أن لا قعر لها، وهي عملية دفعت آلاف الإيرانيين للتظاهر في الشارع في مشهد أعاد للأذهان المظاهرات المتواصلة في العامين 1977 و1978، وهي المظاهرات التي أدت للإطاحة بنظام الشاه محمد رضا بهلوي في العام 1979.
قد يكون الرئيس ترمب محظوظا في فرضه عقوبات أحادية قد تثبت أنها أقوى وأكثر فاعلية من العقوبات الأممية، وقد يكون ترمب واعيا ومدركا أن الولايات المتحدة في موقع ممتاز لمواجهة إيران اقتصاديا، حتى لو فعل ذلك في غياب الإجماع بين العواصم الكبرى، وإن اقتضى الأمر فرضا لعقوبات أميركية أحادية على طهران.
ولأن الاقتصاد الأميركي يصادف أن يكون في أحسن حالاته، في وقت تعاني الاقتصادات العالمية الأخرى، تصبح واشنطن في موقع ممتاز لفرض مطالبها القاضية بتجميد البرنامج النووي الإيراني، وهو ما باشرت الولايات المتحدة في فعله على دفعتين، دخلت الدفعة الأولى منها حيز التنفيذ هذا الشهر، ومن المقرر أن تدخل الدفعة الثانية في شهر نوفمبر (تشرين الثاني). كذلك تطالب واشنطن طهران بالعدول عن سلوكها العدواني في الإقليم ومشاغباتها ضد دول جوارها.
في ردود الفعل على العقوبات الأميركية، حاولت أوروبا الإيحاء وكأنها تعارض انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية النووية مع إيران، وحاول الاتحاد الأوروبي إقناع الشركات الأوروبية بعدم الاذعان للعقوبات الأميركية، والبقاء في السوق الإيرانية، مع وعود أوروبية بدعم هذه الشركات. لكن الشركات الأوروبية تعي أن الاقتصاد الأميركي هو الأقوى في العالم اليوم، وأن لا مصلحة تجارية لها في اختيار إيران على أميركا، وعند ذاك راحت شركات أوروبا تنسحب الواحدة تلو الأخرى من إيران، من توتال الفرنسية إلى دايملر الألمانية.
وحدها الصين، صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، أصرّت على أن العقوبات الأميركية لا تعنيها، وقالت إنها ستواصل استيراد النفط الإيراني. لكن تصريحات الصين قد تكون من باب المناورة السياسية والتبجح فحسب، إذ إنها على الرغم من ضخامة اقتصادها، لا تزال الصين بعيدة عن تحويل عملتها إلى عملة دولية، ولا تزال بحاجة إلى الدولار كعملة عالمية.
وكانت الصين عانت من موجة هروب رؤوس أموال من مصارفها، نهاية العام 2016. وهي موجة هزّت الاقتصاد الصيني، وأسواق المال واستقرار اليوان، وأثبتت أن بكين لا تزال عاجزة عن الوقوف على قدميها بمعزل عن السوق العالمية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة.
وفي حادثة ثانية أظهرت ضعف الصين أمام أميركا، عانت شركة «زي تي إي» الصينية للاتصالات من الإفلاس، بسبب قيام الكونغرس بفرض عقوبات عليها لأسباب تتعلق بالأمن القومي الأميركي، وهو ما يعني أنه إن كانت واشنطن قادرة على فرض الانهيار على شركة صينية بمعاقبتها، فهي قادرة على إلحاق الأذى بأي شركة أو هيئة صينية أخرى تختار السوق الإيرانية على نظيرتها الأميركية.
أما روسيا وتركيا، وهما القوتان المتوسطيتان اللتان كانتا تهبان بين الحين والآخر لإنقاذ إيران من انهياراتها الاقتصادية المتكررة، فهما تعانيان من ضعف مشابه للضعف الإيراني، وإن أقل وطأة، مع انهيار في قيمة العملة أمام الدولار، وتباطؤ في نمو الناتج المحلي، وارتفاع في البطالة.
كل العوامل الاقتصادية العالمية تشير إلى أن أميركا في الوقت الحالي تقف في موقع مميز لفرض إرادتها الاقتصادية على حكومة إيران، ومحاولة إضعاف النظام الإيراني وفرض تغيير سلوكه في الإقليم، وربما الذهاب إلى حد السعي لانهياره بالكامل.
أما إيران، فخياراتها تتراوح بين التعاون الكامل مع أميركا، وهو ما من شأنه أن يقوّض أسس النظام الإيراني وهو خيار مستبعد في طهران، أو تختار إيران المواجهة بالصمود وانتظار أن تتغير إدارة ترمب وربما تتغير معها الظروف الاقتصادية العالمية لتعيد الأمور إلى ما كانت عليه في العام 2008: قوى عالمية تتمتع ببحبوحة اقتصادية وأميركا تترنح.
لكن المراهنة على التغيير في الاقتصاد العالمي قد يطول، وقد لا يحتمل الإيرانيون هذه المدة من الوقت، وهو الأمر الذي يبدو أن بوادره بدأت تلوح مع التزايد في وتيرة المظاهرات الإيرانية المعارضة للنظام، والمطالبة حتى بإسقاطه.
لم يقرأ شاه إيران السياسة الدولية ووضع الاقتصاد العالمي والإيراني جيدا في منتصف السبعينات، فأدت قراءته الخاطئة لانهياره، فهل يتكرر المشهد مع نظام الملالي؟ أم أنهم سينجحون في الصمود وانتظار زوال المحنة والمراهنة على المجهول؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق