حسين عبدالحسين
في العالم العربي عظماء متنورون يندر أن تستمع لآرائهم الغالبية العربية المنشغلة اليوم في التنابذ والصراخ. من عظماء العرب عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، الذي نال بكالوريوس من "الجامعة الأميركية في بيروت" في العام 1943، وحصل بعدها على الماجستير والدكتوراه من جامعة تكساس الأميركية. توفي الوردي في العام 1995، وتم تشييعه في جنازة متواضعة خوفا من عيون البعثيين الحاقدة على كل شيء.
كتابات الوردي ما تزال تنطبق على زماننا، فهو هاجم السلاطين وأزلامهم، خصوصا من الوعّاظ وأرباب الدعاية. لكن الوردي لم يلق باللائمة على السلاطين وحدهم، بل هو انهال في انتقاداته على الناس العاديين وعقليتهم، ودعا إلى ثورة، لكنه لم يتصورها عنفيه، بل ثورة على الذات، وعلى الموروثات، وعلى التقاليد، ودعا لاستبدالها بفكر أكثر حداثة. وفي كتابه "مهزلة العقل البشري"، كتب الوردي "أن الثورة لا تعني العنف بالضرورة، فالجالس في بيته يعد ثائرا إذا كان مؤمنا بحقوق الإنسان كما جاءت بها الثورة الفرنسية أو غيرها من الحركات الاجتماعية الكبرى".
وفي كتابه "وعّاظ السلاطين"، قال الوردي إن "كل انتفاضة اجتماعية يعزوها أعداؤها إلى تأثير أجنبي، حتى قريش كانت تنسب دعوة محمد إلى تأثير الأعاجم، أي الأجانب، فيما فنّد القرآن ذلك".
ومن أجمل ما كتبه الأكاديمي العراقي الراحل أن "التعصب التقليدي هو ميل الإنسان إلى التمسك بالمعتقدات والقيم والأعراف التي نشأ عليها في طفولته، والتي تسمى بالإنكليزية culture، وأفضل ترجمة لها هي التراثية". وأضاف: "من طبيعة الإنسان أنه إذ ينشأ على معتقدات وتقاليد معينة يتصور أنها أفضل المعتقدات في العالم، وإن كانت مليئة بالخرافات والأباطيل، فهو يركز نظره على خرافات المجتمعات الأخرى، وينتقدها انتقادا لاذعا، بينما هو يغض النظر عن خرافات مجتمعه، وقد يأتي بالأدلة والبراهين لتبريرها وتمجيدها". وتابع الوردي: "هذا هو الذي جعل الإنسان يقاوم كل دعوة جديدة لإصلاح مجتمعه. والقرآن أشار إلى ذلك في بعض آياته، حيث ذكر تمسك كل قوم بما وجدوا عليه آبائهم".
وعن الانحياز الأعمى لدى الأفراد، أورد الوردي في كتابه "الطبيعة البشرية" أنه "إذا حكم قاض لمصلحة شخص، صار في نظره قاضيا نزيها ’كثر الله من أمثاله‘، أما إذا حكم القاضي في غير مصلحته، اعتبره ظالما ومرتشيا ’ألف لعنة عليه‘، فصاحب المصلحة هو كصاحب العاطفة، لا يستطيع أن ينظر في الأمور نظرا موضوعيا محايدا مهما حاول، فهو متحيز ولكنه لا يدري أنه متحيز".
في كتابات الوردي عزاء لأمثالي ممن ينفقون وقتا ويبذلون جهدا في البحث والكتابة، سعيا لنقاش بناء، ولتنوير عقولنا وعقول من يناقشوننا. هذا في المبدأ. أما في الواقع، فغالبية القراء ترى في ما يكتبه بعضنا "استفزازا"، وتعتقد أنه استفزاز لجذب الانتباه، وهو ما لم يكن هدف كاتب هذه السطور يوما.
وإلى المنزعجين من الكتابات "المستفزة" يمكن إضافة المعترضين ممن يخالون أنهم يعرفون سبب هكذا كتابات: الاسترزاق. في مخيلتهم، للحقيقة وجه واحد هو الذي يتمسكون به. من يكتب كما يؤمنون، شريف عفيف لا يسترزق، ومن يكتب ما يخالف ما يعتقدونه، فمن المرتزقة على وجه التأكيد.
صحيح أننا نحن الكتبة نتقاضى أتعاب كتاباتنا، لكننا لا نملك المؤسسات التي تنشر ما نكتب، ولهذه المؤسسات سياسات تحريرية يمليها الممولون، من حكومات وأفراد. ولهذه المؤسسات خطوطا حمراء تجعل من مساحات الحرية فيها تتفاوت بين مؤسسة وثانية.
وبيننا نحن، معشر الكتبة، من يسعى لربح سريع وحظوة لدى حكومة أو متمول، فيكتب ما يتمناه أصحاب المال، وعلى قول المثال المشرقي "من يغمّس في صحن السلطان يضرب بسيفه". لكن المؤسسات الإعلامية غالبا ما تتفادى حشو مادتها بكتابات الأبواق والمؤيدين، إذ أن المرتزقة ينتقصون من مصداقية المؤسسة ويبعدون القرّاء، إذ ذاك تحتاج المؤسسات الإعلامية إلى كتبة من غير المؤيدين، فتنتشر المقالات الرصينة إلى جانب الدعاية، ويصبح التمييز بين النوعين من مهمة القارئ. هذا لا يعني أن كل الكتبة مرتزقين، ولا أن كلهم حياديين، بل أن الإعلام والأكاديميا فيهما ـ كالحياة عموما ـ من كل الأشكال والألوان.
هذا لا يعني أن القرّاء أبرياء، فمثلما كتب الوردي، قلّما يبحث الناس عمّا يتحدى معرفتها ويثري فكرهم، بل أن غالبيتهم تبحث عمّا يؤكد انحيازاتها. هكذا إن كنتم عربا وتعتقدون أن الفلسطينيين ضحايا دائما، وأنهم لم يخطؤوا في تاريخهم أبدا، فعليكم أن تراجعوا انحيازاتكم. وكذلك إن كنتم إسرائيليين وتعتقدون أنكم على حق في كل ما تقولونه، فالأرجح أن عاطفتكم تمنعكم عن النظر بحيادية تامة.
والحيادية صعبة، ومكلفة عاطفيا واجتماعيا وماديا لمن يصرّ عليها، إذ يجد نفسه خارج الاصطفافات، فيما الاصطفافات هي التي تكافئ من يهللون. وهذه المشكلة لا تنحصر بدنيا العرب وحدهم، ففي الولايات المتحدة إن كنت من الجمهوريين، لن ترى أي إيجابية عند الرئيس السابق باراك أوباما، ولن ترى أي سلبية لدى الرئيس دونالد ترامب. وكذلك إن كنت من الديمقراطيين، لن ترى إلا ايجابيات أوباما وسلبيات ترامب. أما من يرى بعض السلبيات لدى أوباما وترامب، وبعض الإيجابيات لدى الاثنين، فسيشقى، إذ من الأسهل اختيار قبيلة من الاثنين وتأييدها في كل ما تقوله، فتصفق لك القبيلة، وتغرقون سوية في السلبيات من دون أن ترونها، وترمون أخطاءكم على الآخرين.
مات علي الوردي وما تزال الطبيعة البشرية كسولة، تستهل التمسك بمعرفتها ومحيطها، وتستصعب السعي لمعرفة الآخر والبحث عن إيجابياته. أما أنت أيها القارئ الكريم، فشكرا لك إن كنت لا توافقنا وقرأت في سبيل توسيع المعرفة، وشكرا لك إن كنت توافقنا ولست من قبيلتنا. أما من يسعى للعثور في سطورنا على ما يعينه في شتم الآخرين، فالأرجح أنكم قرأتم مقالنا عن طريق الخطأ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق