يبشّر كثيرون حول العالم بحتمية انهيار الجمهورية الأميركية تحت وطأة انتشار فيروس كورونا. هي ليست المرة الأولى التي يأمل فيها هؤلاء، بل يتوقعون على وجه التأكيد، الانهيار الأميركي. إبان "الركود الكبير" الذي اندلع في الولايات المتحدة في سبتمبر 2008، بشّر معادو أميركا بانهيار مماثل، أو على الأقل أشاروا إلى انهيار الرأسمالية تحت وطأة جشعها، وسخروا من قيام الحكومة الفدرالية بشراء أسهم كبرى الشركات الأميركية، وهو ما أثبت برأيهم نجاعة الاشتراكية، وأثبت نجاح نماذج الحكم غير الأميركية حول العالم، وفي طليعتها الصين، وروسيا، وربما تركيا أو البرازيل أو حتى إيران.
في غضون أشهر، انتهى "الركود الكبير"، وأعادت الشركات الأميركية الأموال إلى الحكومة، وشهدت الولايات المتحدة أطول فترة بحبوحة اقتصادية في تاريخها امتدت على مدى عقد، وحافظت على صدارتها بين اقتصادات العالم، ولم تتحقق النبوءات القائلة بأن القرن الحالي سيكون صينيا، وسيلي القرن الماضي، الذي أسماه الرئيس السابق بيل كلينتون، في خطاب قسمه لولاية ثانية في العام 1997، "القرن الأميركي".
لم تتصرف الحكومة الأميركية بسرعة لمواجهة انتشار فيروس "كوفيد 19" المسبب لمرض "سارس كوف 2" بين سكّانها، بل تلكأت، وارتبكت، وارتكبت عددا من الأخطاء، على غرار الأخطاء التي سبقت هجمات 11 سبتمبر الإرهابية في العام 2001.
بعد الهجمات تعلّمت أميركا من أخطائها، وأدخلت تعديلات على نظامها الاستخباراتي والأمني، ونجحت في حماية نفسها، وفي إلحاق هزيمة بالإرهاب، وهو عدو عنفي غير مرئي، يشبه كورونا إلى حد بعيد.
وإلى أن تستخلص الحكومة الفدرالية دروسها من كيفية مواجهة الأوبئة، يستفيد النظام الأميركي من تصميمه المبني على تعدد مراكز القرار، والصلاحيات الواسعة التي تتمتع بها حكومات الولايات داخليا، التي لم تنتظر المركز، بل باشرت باتخاذ الخطوات المطلوبة في مواجهة جائحة كورونا. أما واشنطن، فراحت تركض للحاق بالأميركيين ومساندتهم، فأقرّ الكونغرس دعما ماليا للبلاد يعينها في فترة الإقفال. وبلغت المساعدة الفدرالية أكثر من ترليوني دولار، أي ما يعادل حجم اقتصادي روسيا وإيران مجتمعتين.
قد تبدو مواجهة أميركا لانتشار فيروس كورونا ضعيفة مقارنة بكيفية مكافحة الصين للفيروس. لكن الضعف الأميركي سببه الحرص على الحريات التي ينص عليها الدستور، الذي يمنع الإجراءات التي تتيح للحكومة تضييق مساحة الحرية الشخصية للمواطنين، أو التلصص عليهم، أو متابعة تحركاتهم، أو استراق السمع إلى محادثاتهم الهاتفية.
في أزمنة مواجهة الأزمات الطارئة، مثل الحروب العالمية أو انتشار وباء، تتقلص عادة مساحة الحرية الفردية، ويتضخم دور الحكومة المركزية، التي تصبح ممسكة بزمام معظم أوجه الحياة، وتجنّد معظم مواطنيها وقطاعاتها لمواجهة الأزمة المندلعة. هذه المركزية تمنح الحكومات الدكتاتورية المتسلطة، مثل في الصين أو روسيا، قدرة على مواجهة الأزمات بشكل أسرع وخسائر أقل، لكن السرعة تأتي على حساب الحريات العامة. ثم تذوي الأزمة وتحافظ الحكومات الديكتاتورية على تسلطها. أما في الدول الديمقراطية، فتنتهي الأزمة وتعود الحريات، ويعود النمو الاقتصادي، والازدهار، والأهم من ذلك كله، يستأنف المواطنون إبداعهم وإسهامهم في التطوير والتحديث.
دروس كورونا لن تقتصر على إبقاء الحكومات الديمقراطية على أهبة الاستعداد لمواجهة الأوبئة فحسب، بل أن هذه الجائحة قد تؤدي إلى تغييرات دائمة، وهي تغييرات لا تعني انهيار أميركا ولا نهاية الرأسمالية، ولا تعني انتصار الطغيان كما في الصين وروسيا وإيران وتحوله إلى نموذج حكم عام في المعمورة، بل ستكون تغييرات في أنماط الحياة، وخصوصا الاقتصاد.
ستستخلص مؤسسات كثيرة أن "العمل عن بعد"، مثلا من المنازل بالإفادة من شبكة الإنترنت وتطبيقات التواصل، هو وسيلة أكثر فعالية وأنفع للبيئة من إجبار ملايين العمّال على إضاعة ساعات يوميا على الطرقات واستهلاك الوقود والطاقة. وكانت التقارير أظهرت أن وباء كورونا أدى لانخفاض في انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
وستعزز سياسات الابتعاد الاجتماعي التي فرضها انتشار الوباء السوق الافتراضية الأميركية، وستؤدي إلى المزيد من الإقفال لمحلات المآكل والملابس، وسيتوسع قطاع خدمات التوصيل إلى المنازل، وكلها أنماط مستقبلية كانت ما تزال في بداياتها ولكنها ستلاقي حتما رواجا أوسع بكثير، حتى بعد زوال الفيروس وانتهاء الابتعاد الاجتماعي. وقد تسمح الأسواق الافتراضية، بالاشتراك مع تقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد، بتقليص هدر المواد الأولية الذي يصاحب عملية الإنتاج الكمّي.
من مكاتبهم في بكين وطهران وموسكو، تبدو أميركا بالنسبة لإعلاميي حكومات الطغيان وكأنها على شفير الانهيار بسبب عجرفتها وجشع رأسماليتها. لكن داخل منازل الأميركيين، ثقافات جديدة تولد، وأنماط اقتصادية جديدة تتطور. سيؤدي وباء كورونا إلى أمراض ودموع أميركية كثيرة، لكن من رحم الأزمة ستولد أميركا متجددة. أما دول الطغيان، فسيزداد طغيانها ومركزية حكوماتها وتكميمها للأفواه، وسيزداد التضليل والخداع.
في أميركا وغيرها يبشّر كثيرون أن أزمة كورونا ستفتح بابا لزعامة الصين العالمية، وستتراجع الزعامة الأميركية. ربما لا يقرأ هؤلاء التقارير الاقتصادية التي تظهر أن كل الأموال التي تم سحبها من أسواق المال العالمية تم استثمارها في سندات الخزينة الأميركية، التي انخفضت الفوائد عليها إلى ما دون الصفر (أي أن الدائنين يسددون لحكومة أميركا ثمن إدانتهم لها أموالهم). لماذا لم يشتر المستثمرون سندات صينية؟ الإجابة بسيطة ومفادها أنه، بعيدا عن الدعاية الصينية والروسية والإيرانية، العالم يثق بالدولة الأميركية أكثر من أي دولة في العالم، ويعرف أن الدولة الأميركية مؤسسة بغض النظر عن حكامها، فيما الدولة الصينية حاكم بغض النظر عن مؤسساته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق