واشنطن - حسين عبدالحسين
يعتقد الخبراء ان الدورة الاقتصادية التقليــــدية تتألف من ازدهار وانحسار، وهو ما جعلـــهم يتوقعون نمواً اقتصادياً، بل ازدهاراً، علــى اثر «الركود الكبير» الذي شهده الاقتصاد الأمـــيركي في النصف الثاني من 2008 وكل 2009، علــــى غرار الازدهار الذي تلا كساد 1929 - 1933، والازدهــار المماثل الذي تلا ركود مطلع الثمانينات، والازدهار الذي عاشه الاقتصاد في السنوات الأخيرة من الألفية الماضية.
وخرج الاقتصاد الأميركي من «الركود الكبير» في الربع الأول من 2010. ومنذ ذلك التاريخ، سجل نمواً في 21 ربعاً، وتقلص في ربعين غير متتاليين، وبلغ أربعة في المئة أو أكثر في ستة أرباع غير متتالية كذلك. إلا ان معدل النمو السنوي بلغ أعلى مراحله العام الماضي إذ سجل نسبة 2.4 في المئة، وهي نسبة لا يصنفها الخبراء في خانة الازدهار.
ويعتقد الخبراء ان الركود هو ان يسجل الاقتصاد نمواً سلبياً في ربعين متتالين، فيما يعتبرون ان البحبوحة تكمن في تحقيق الاقتصاد نسبة نمو بواقع ثلاثة في المئة أو أعلى على مدى سنة كاملة. وبما ان الاقتصاد الأميركي لم يظهر معدلات بحبوحة بعد خمس سنوات على خروجه من الركود واقترابه من موعد ركود جديد محتمل، صار الخبراء يعتقدون ان البحبوحة أمر متعذر، وأن معدل نسبة نمو اثنين في المئة سنوياً هو أقصى ما يمكن للحكومات الفيديرالية والأميركيين توقعه، وأطلقوا على نسبة نمو تساوي اثنين في المئة «الوضع الطبيعي الجديد».
لكن وسط تباطؤ عالمي تعانيه كبرى الاقتصادات، وفي طليعتها الصين والاتحاد الأوروبي ودول «بريكس»، يجد الأميركيون اقتصادهم في وضع جيد نسبياً، حتى لو كان نموه على مدى العقد الماضي لم يبلغ معدلات البحبوحة، فنسبة البطالة انخفضت من 10 في المئة مطلع 2009 إلى خمسة في المئة اليوم. ويتوقع الخبراء ان تبلغ هذه النسبة 4.5 في المئة يوم الانتخابات الرئاسية المقررة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وهي نسبة قريبة من نسبة 3.9 في المئة التي سجلتها البلاد يوم خروج الرئيس السابق بيل كلينتون، والذي يتذكره الأميركيون كرئيس محبوب لأن ولايتيه شهدتا نمواً اقتصاديا كبيراً وبحبوحة.
كذلك نجحت إدارة الرئيس باراك أوباما في مضاعفة كمية الصادرات الأميركية، بالتزامن مع انخفاض حاد في سعر الطاقة، وهو انخفاض يحفز الاقتصاد إذ يمنح المستهلكين أموالاً أكثر للإنفاق، ما يرفع النمو ويعزز الوظائف، التي تعود بالمزيد من الاستهلاك والنمو، ويرفع النمو من العائدات الضريبية للحكومة الأميركية.
رفع الفائدة
النمو الأميركي على مدى السنوات الماضية، والتفاؤل الذي رافقه، دفع مجلس الاحتياط الفيديرالي إلى رفع الفائدة، وهي خطوة يعتقد الخبراء ان من شأنها ان تؤدي إلى بعض الانكماش الذي يؤدي إلى بعض التراجع في النمو. ويخشى الخبراء ان يؤدي رفع الفائدة إلى تدفق أموالاً عالمية لا آفاق لديها في ظل التباطؤ في معظم الاقتصاد الكبرى وخفض معظم المصارف المركزية الفائدة لحفز النمو. ومن شأن تدفق الأموال العالمية على مصارف الولايات المتحدة ان يرفع سعر الدولار في مقابل عملات العالم، وهو ما يؤثر سلباً في قطاعي الصادرات والسياحة الأميركية التي تستقطب وافدين من خارج البلاد.
الخوف السابق لرفع الفائدة دفع أهم الخبراء الأميركيين إلى مطالبة المجلس ببتأجيل خطوته. ووصف الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد المعلق في صحيفة «نيويورك تايمز» بول كروغمان الاقتصاد الأميركي بـ «الاقتصاد غير السيئ كثيراً». واعتبر ان اثر «الركود الكبير»، قام كل من البيت الأبيض ومجلس الاحتياط الفيديرالي بخطوات أظهرت أنهما كان يعيان تماما الأخطار المحدقة بالاقتصاد والخطوات المطلوب اتخاذها، فيما لم يظهر الكونغرس، الذي تسيطر عليه غالبية من الحزب الجمهوري المحافظ اقتصادياً واجتماعيا، حكمة مشابهة.
وقال كروغمان ان قيام المصرف المركزي بـ «تشغيل مطابعه» لضخ سيولة في السوق الأميركية خطوة أثبتت نجاعتها، على رغم مطالبة جمهوريين، على رأسهم رئيس الكونغرس الجديد بول رايان، بمحاسبة المصرف والتدقيق بحساباته. وأدت خطوات المصرف المركزي إلى خفض البطالة، ورفع سعر الأصول، ورفع قيمة أسواق العملات. وضخ البيت الأبيض أموالاً، يعتبر كروغمان أنها لم تكن كافية، فيما راح الكونغرس يبتز البيت الأبيض ليجبره على اقتطاعات في الإنفاق تحت طائلة التخلف عن تسديد ديون الحكومة الفيديرالية وإغلاقها.
ظاهرة تتسع
والخطوات الذي اتخذتها واشنطن قبل سنوات دفعت الاقتصاد الكبرى، مثل أوروبا، إلى حذو حذوها. ويوجه كروغمان سهام انتقاده إلى الأوروبيين بالقول ان ذعرهم دفعهم إلى تقشف أغرقهم في مزيد من الركود، وهم أدركوا اليوم ضرورة ضخ السيولة في أسواقهم. على ان أميركا تخشى ان يؤدي التباطؤ العالمي إلى كساد في الصادرات الأميركية وتراجع في النمو الأميركي أو إجباره على الدخول في ركود أظهرت وكالة «بلومبرغ» ان ثلثي الاقتصاديين ممن استفتهم يتوقعون حصوله بدءاً من نهاية العام المقبل.
لكن خبراء أميركيين آخرين يتوقعون استمرار النمو الأميركي، ويعولون على مصادقة واشنطن على «اتفاق الشراكة حول الأطلسي»، والتي تجمع 40 في المئة من اقتصاد العالم في سوق حرة موحدة، من شأنها ان تسعف اقتصاد أميركا كبديل عن اكبر شركائها ممن تتأرجح اقتصاداتهم مثل الصين وأوروبا.
ويعزو مؤيدو الاتفاق تفاؤلهم إلى اعتقادهم أنها تسمح لأميركا الإفادة من تصدير خدماتها، بسبب بنود حماية الملكية الفكرية التي تفرضها الاتفاق. ويتزامن التحسن المتوقع لتصدير الخدمات الأميركية مع تراجع في سعر النفط، وإنتاج أميركا لكميات منه أعادت الصناعات البتروكيماوية إلى البلاد، والمكننة التي قللت من الاعتماد على اليد العاملة وسحبت الميزات التفاضلية للدول الصناعية ذات اليد العاملة الرخيصة.
لكن على رغم التفاؤل الأميركي الغالب للنمو الاقتصادي العام المقبل، لا بد من ملاحظة ان نسب النمو المتوقعة في 2016 جرى تعديلها مرارا، من أربعة في المئة قبل عامين، إلى 3.6 في المئة العام الماضي، ثم إلى 2.5 في المئة اليوم، وممكن ان يسجل النمو الفعلي للاقتصاد الأميركي العام المقبل نسبة أقل من اثنين في المئة المعتادة، وهو ما من شأنه ان يقلب المزاج الأميركي بحلول 2017 ويعدّ الأميركيين لركود صار متوقعاً، لكن هذه المرة ركود لن يلي بحبوحة ولا فقاعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق