يحيّر تباطؤ الإنتاج العالمي الاقتصاديين، ويؤدي بدوره إلى ارتفاع نسب البطالة وانخفاض نمو الناتج المحلي. وفي الولايات المتحدة، يبدو أن النمو استقر على معدل 2 في المئة سنوياً على مدى العقدين الماضيين. طبعاً، يقدم مرشحو الرئاسة المتعاقبون وعوداً لإعادة البلاد إلى نسبة نمو تبلغ 4 في المئة سنوياً، لكن الواقع شيء آخر.
وكان الرئيس باراك أوباما حاول وفريقه الاقتصادي كل شيء لاستعادة الوظائف الصناعية، مثل صناعات السيارات والطائرات ومعدات البناء، لاعتقادهم أن هذه الصناعات تعود برواتب أعلى وتؤدي إلى زيادة في الصادرات، التي أعلن أوباما، إبّان توليه الرئاسة مطلع عام 2009 أنه ينوي مضاعفتها وإعادتها إلى سابق عهدها في صدارة الدول الصناعية المصدّرة.
لكن على رغم النجاحات التي حققتها الإدارة الحالية في رفع نسبة الصادرات الأميركية، لم تعد الوظائف الصناعية إلى الأرقام التي سجلتها قبل الركود الكبير عام 2008.
وكان عدد الأيدي العاملة الأميركية في الوظائف الصناعية قبل عشر سنوات، أي في تشرين الأول (أكتوبر) 2005، بلغ 14 مليوناً، فيما بلغ عدد هذه الوظائف 12.3 مليون الشهر الماضي، وفقاً لأحدث بيانات وزارة التجارة التي تشير إلى أن عدد الوظائف الصناعية ما زال أقل مما كان عليه قبل عشر سنوات، في وقت تكاد تتضاعف قيمة الصادرات.
هذا التباين قد يفسّر النسبة العالية للبطالة لدى الأميركيين الذين يبلغ معدل أعمارهم 47 عاماً، خصوصاً من «أصحاب الياقة الزرقاء»، أي أصحاب المهارات الفردية والمهن اليدوية.
وتظهر الأرقام الأميركية أن 19 من كل 20 رجلاً بين 25 و54 عاماً كانوا يعملون عام 1965. واليوم، تُظهر أرقام العمل للفئة العمرية ذاتها أن النسبة أصبحت 17 من 20، على رغم أن الولايات المتحدة تعيش هذه الأيام ما يعتبره بعض الاقتصاديين «قمة الدورة الاقتصادية»، أي أن عدد الرجال العاطلين من العمل في الفئة العمرية 25 إلى 54 تضاعف هذه السنة ثلاث مرات قياساً الى ما كان عليه قبل نصف قرن، على رغم الزيادة في الطلب والصادرات.
في الماضي، كان الاقتصاديون الأميركيون يعتقدون أن زيادة البطالة بين صفوف «أصحاب الياقة الزرقاء» سببه المكننة، والعولمة التي نقلت فرص عمل هؤلاء إلى دول فيها اليد العاملة أكثر تنافسية، مثل الصين. لكن حتى الصين، التي تكافح للحفاظ على معدل نمو 5 في المئة بحلول عام 2020 وفقاً لبعض الاقتصاديين، تعاني من الظاهرة الأميركية ذاتها لناحية تباطؤ النشاط الصناعي وارتفاع البطالة في المصانع، وفقاً للأرقام التي تظهر أن إجمالي من يعملون في الصناعة في الصين انخفض بواقع 20 مليوناً مقارنة بعام 1995، على رغم التحسن الهائل في التنافسية لناحية تحسين الصين بنيتها التحتية والخدماتية وتقليصها المتطلبات الإدارية للقطاعات الصناعية.
هذه الظاهرة التي تحير الاقتصاديين الأميركيين دفعت «معهد بيترسون» إلى عقد مؤتمر كان أبرز المتحدثين فيه وزير الخزانة في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون، الرئيس السابق للمجلس الاقتصادي الرئاسي في الإدارة الحالية لاري سمرز، وهو أيضاً الرئيس السابق لجامعة «هارفرد»، وقال ان المكننة يمكن أن تفسّر سبب الانخفاض في اليد العاملة في المصانع، ولكنها لا تفسّر سبب تراجع الإنتاج، بل بالعكس، من شأن المكننة وتكاليف الإنتاج المنخفضة أن تؤدي إلى زيادة في ما تنتجه المصانع.
لكن سمرز قدم فرضية مثيرة للاهتمام ودعا الاقتصاديين إلى مناقشتها، ويقول إن الفارق بين إنتاج الماضي وإنتاج اليوم يكمن في النوعية، وأن أدوات القياس التي يستخدمها الاقتصاديون اليوم قد تحتاج هي الأخرى إلى تطوير في نوعيتها. ويضرب مثالاً على فرضيته بالإشارة إلى مقولة ان مدخول العائلة الأميركية اليوم ما زال على حاله منذ العام 1973. ويتابع: «إننا لو قارنّا عائلة أميركية تعيش تحت خط الفقر اليوم بعائلة أميركية كانت تعيش تحت خط الفقر عام 1973، يمكن أن نرى بالاستعانة بجداول الأسعار والتضخم، أن المدخول ما زال ذاته، لكن العائلة اليوم تتمتع في الغالب بحاجات معيشية أكثر، كأن تكون لها اليوم مساحة منزلية أكبر، والأرجح انها تملك سيارة، ومايكرويف، ومكيف هواء، وثلاجة. كل هذه الأدوات المنزلية صارت اليوم ذات جودة أعلى منها عام 1973، وبأسعار أرخص، ما يتيح للعائلة التي تجني المدخول ذاته لعائلة في عام 1973 أن تتمتع بنوعية حياة أفضل».
ولتعزيز فرضيته، يشير سمرز إلى الفاتورة الصحية في البلاد عام 1980، ويقول ان كلفتها كانت اقل من صفر من الناتج المحلي. اليوم، يتابع الاقتصادي المخضرم، تبلغ الفاتورة الصحية للولايات المتحدة ما يوازي 6 في المئة من الناتج المحلي. أما السؤال فهو: هل يرغب الاميركيون بالعودة إلى الخدمات الصحية بنوعية وأسعار 1980، أم أنهم يفضلون الخدمات الصحية بنوعية اليوم وبأسعار اليوم؟
فرضية سمرز قد تنهي الحيرة التي تصيب الاقتصاديين الأميركيين حول التراجع غير المفهوم في الإنتاج حول العالم، وهي فرضية إن صحت، ستفرض تغيراً كبيراً في قياس الإنتاج وتعديل قياس الحجم او العدد، مع أخذ فارق النوعية في الاعتبار. أما كيفية قياس النوعية في الصناعة وتحويلها إلى مبدأ قابل للفهم بالأرقام، فهو مجهود قد يتطلب سنوات من البحوث الاقتصادية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق