حسين عبدالحسين
تباينت ردود الفعل الاميركية حول منطقة الحظر التي تعمل انقرة على فرضها في شمال سوريا الشرقي بالتعاون مع واشنطن. اليسار الاميركي، الأكثر تأييدا للرئيس السوري بشار الأسد منذ اندلاع الثورة ضد نظامه في العام ٢٠١١، لم يستسغ الحرب التركية، فحذرت "النيويورك تايمز" في افتتاحيتها من امعان الادارة الاميركية في الغرق في المستنقعين العسكريين العراقي والسوري. اما اليمين الأميركي، المطالب بدور عسكري اميركي أكبر خصوصا ضد الأسد، فاعتبر عبر "الواشنطن بوست"، صاحبة الافتتاحيات اليمينية، ان فرض حظر تركي - أميركي في الشمال السوري خطوة لا تكفي لوقف الأسد واعماله الحربية ضد شعبه.
على ان يسار أميركي ويمينها تبنيا الموقف نفسه، في افتتاحيتي الصحيفتين، بتوجيههما نقدا لاذعا لتركيا بسبب قيام جيشها بصب حممه -- لا على اهداف تعود لتنظيم "الدولة الاسلامية في العراق والشام" (داعش) فحسب -- بل ضد اهداف تعود لاستقلاليين كرد يتمركزون شمال العراق وسوريا.
وتساءلت الصحيفتان حول جدوى قيام تركيا باضعاف القوات الارضية الوحيدة، اي المقاتلين الكرد، الذين يقاتلون داعش منذ الصيف الماضي بالتنسيق مع التحالف الدولي الجوي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد داعش. واعتبرت الافتتاحيتان انه الأجدى للاتراك ان يتجنبوا في حملتهم العسكرية المجموعات الكردية التي تقاتل داعش، لأن مصلحة أميركا تكمن في القضاء على داعش.
طبعا، منعت الانانية اليسار واليمين الاميركيين من رؤية ان تركيا تراقب بقلق تمدد المجموعات الكردية منذ الصيف الماضي، وان أنقرة رصدت حالات قامت فيها بعض المجموعات الكردية بطرد سكان لا يمتّون الى داعش بصلة في قرى وبلدات يعتقد بعض الكرد انها تعود لهم اصلا، وان استعادة السيطرة عليها اساسية لاقامة وطن كردي متواصل جغرافيا، في حال سمحت الظروف الدولية والاقليمية بذلك يوما.
وغالبا ما يبني الأميركيون ممن يتعاطون شؤون السياسة الخارجية تحليلاتهم ومواقفهم على المصلحة القومية للولايات المتحدة الاميركية، التي يتصدرها أمن الاميركيين حول العالم وفي الوطن الاميركي، وهذا طبعا حق مشروع للأميركيين. لكن ما هو مستغرب هو ان هؤلاء الاميركيين أنفسهم يندر ان يروا القضايا حول العالم من منظار الشعوب او الحكومات الاخرى.
وعندما قصد الاميركيون انقرة لمطالبتها بالانضمام للتحالف الدولي ضد داعش، اعتبر الاتراك انه يمكنهم مقايضة مصلحة أميركا بالقضاء على داعش بمصلحتهم القضاء على الأسد. لكن واشنطن رفضت المقايضة لأنها اعتبرت ان خطر داعش كبير، لكنه ليس أكبر من خطر انهيار الأسد.
منذ مطلع العام، أبدت انقرة لواشنطن استعدادها الانضمام للحملة ضد داعش، على شرط "تنظيف" المناطق العراقية والسورية المجاورة لحدود تركيا الجنوبية، وهو ما يحتم بناء قوة سورية مسلحة قادرة على تولي هذه المناطق كسقف للعملية العسكرية التركية، وهذا اقتراح يشبه، الى حد ما، مطالبة أميركا لثوار سوريا بقتال داعش فقط من دون الأسد، بسبب غياب قوات الأسد الارضية في معظم المنطقة التي تشن فيها تركيا حربها. لكن الرأي الاميركي الذي يعارض عملية "التنظيف" التركية ضد الاكراد يبدو انه لا يرى عدوا غير داعش، ولا يرى مصلحة غير الاميركية.
وكما في لبنان، الذي حرضت فيه أميركا تحالف ١٤ آذار في العام ٢٠٠٥ ورمته في اتفاقية الدوحة في ٢٠٠٨، ثم في العراق حيث رمت واشنطن حلفاءها من الصحوات بين ايدي جلاديهم في بغداد، وبعدها في سوريا التي عاث فيها حلفاء ايران دمارا فيما وقفت أميركا تتفرج، اليوم مع تركيا: لا ترى واشنطن ابعد من مصالحها الآنية. لذا، يبدو ان افضل طرق التعاطي مع الاميركيين تكمن في مقايضتهم بشكل مستمر، وفي الحالة التركية، تؤيد واشنطن عملية تركيا العسكرية شمال العراق وسوريا، فتفتح انقرة قاعدة انجرليك للمقاتلات الاميركية، ما يوفر على أميركا والتحالف مئات ملايين الدولارات ويرفع من فاعلية الغطاء الجوي في دعم المقاتلين على الأرض. مع أميركا، كل شيء بحسابه، ولأن لا حساب لبعض العرب -- مثل السوريين -- في واشنطن، فان اي تحالف مع واشنطن يجب ان يقتصر في الغالب على الضرورة.