العدد 21، كانون الاول / كانون الثاني 2009
ماتت انتفاضة الاستقلال لان صانعيها لم يدروا ماذا فعلت ايديهم، ولانها كانت
انتفاضة شعبية كبيرة بعقول صغيرة ووضيعة.
ماتت انتفاضة الاستقلال لان احزابها، المطالبة بالديموقراطية، لم تجر انتخابا
داخليا واحدا، فكيف ينتج عن هذه الاحزاب الاستبدادية التسلطية ديموقراطية
لبنانية زاهرة؟
ماتت انتفاضة الاستقلال لان عصبها من الصف الثاني كان جيشاً من الجلاوزة،
والمستشارين، ومستشاريهم، ومرتزقة البلاط، من المأخوذين بغرور النفس وحبها، ومن
المتدافعين على حظوة السلطان، وعلى المناصب التي يمنحها اسيادهم لهم في الوزراة
والنيابة وزعامة الازقة.
ماتت انتفاضة الاستقلال لان اهلها تفننوا في كتابة البيانات غير الواقعية، التي
تنتمي الى تاريخ سحيق في اميتها وشعبويتها.
وماتت لان مستشاري السلاطين كسالى، يتداورون في تكرار التحاليل الباهتة،
والنقل عن مصادر غالبا ما تكون وهمية.
ماتت انتفاضة الاستقلال لان القدر يرحم المرء الذي يعرف حده فيقف عنده، وهو لم
يرحم اهل انتفاضة الاستقلال، لانهم تبارزوا في البطولات الكلامية عن قرب نهاية
حاكم طهران ووالي دمشق، واقسموا بالغالي والنفيس، بان يقصوا رأس الافعى
المحلية، ومن يقف خلفها من محاور اقليمية.
ماتت انتفاضة الاستقلال لان السلاطين رعدوا وهددوا وتوعدوا، واشاروا الى الطغاة
بان يركبوا اعلى خيلهم، ورحبوا بالحرب الاهلية، وافاضوا في تزيين الاستقلال
المبين والسيادة المظفرة، ثم انهاروا من جنة وعودهم واحلام اللبنانيين، الى
التفاهات عن اهمية الواقعية السياسية.
ماتت انتفاضة الاستقلال لان احدا لم يقل لسمير قصير – الداعي عبثا لانتفاضة
داخل الانتفاضة – انها بعيدة كل البعد عن نهضة عربية شعبية ونخبوية شاملة،
تستعيد مقارعة الاستبداد، وقهره، واستبداله بشيء يشبه الحداثة.
وماتت لان سلاطينها لم يكونوا يوما اهلا لقيادتها، ولم يتعالوا عن الصغائر
ليشتغلوا بالكبائر، بل تقاتلوا على توزير نعمة طعمه، وحيثية غطاس خوري، وكرسي
آل الجميل، وحفظ حق الشيعة، ومراعاة الخصوصية المسيحية، وترديد اللازمة عن
ضرورة تحرير فلسطين، واي تحرير سيكون على يد لبنانيين مهووسين بالتحليلات
السياسية السطحية عن السوري والاميركي والايراني والفرنسي.
وماتت لان السلاطين لا يأتوا من المريخ، بل هم نتيجة المجتمع الذي ينتجهم
ويحضنهم ويرفعهم الى مقامات الالوهية، ولان المجتمع – كما سلاطينه – مفكك،
مبعثر، يحتاج الى مواطنين بدلا من الرعايا، الذين تشغلهم النزوات العشائرية
والطائفية والغرائزية، والهوس بالجنس المحرم ظاهريا، وضرورة صون العرض وحفظ
الشرف. ماتت انتفاضة الاستقلال.
وعجيب ان ترى "شعب الانتفاضة" مهووس بعرضه وشرفه – كما سائر اللبنانيين – ولكن
لا يحدث ان يشعر بانه مهان حينما يعيش في وطن من دون مواطنين، فيه جرائم من دون
مرتكبين، وفساد من دون سارقين، ومقاومة من دون مقاومين.
ماتت انتفاضة الاستقلال لان "شعب الانتفاضة" كان يصرخ في "ساحة الحرية" في وجه
الطغاة المستبدين، المحليين منهم والاقليميين، فاذ به يتحول، عام بعد عام، من
محب للاستقلال الى غاوي نكايات، ورافع شعارات "كل الشيعة مقهورة من فؤاد
السنيورة".
وماتت انتفاضة الاستقلال لان في طليعة المنتفضين اهل المجتمع المدني، واكثر
اللبنانيين بحاجة الى مدنية تلجم جموحهم الفاضح نحو الفساد، ونهب التمويل
الغربي، واقامة المؤسسات الوهمية الموجودة الكترونيا فقط، وتحويل مؤسسات
المجتمع المدني الى حوانيت، اصحابها تجار سياسة ممن يقفزون مع فسادهم من
المجتمع، المسمى زورا مدنيا، الى عالم الحكومة والبرلمان، حيث تتجلى اللامدنية.
ماتت انتفاضة الاستقلال لانها لبنانية، ولان اللبنانيين شطار وتجار، ويبيعون في
المبادئ كما يبيعون في اسواق الخضار، بالمناداة على الوطنية والاستقلال
والسيادة، ثم استبدالها بالعروبة وفلسطين والعلاقات العربية المسماة المميزة،
مع تبدل المواسم، فينقلب ربيع بيروت خريفا، وصيفها شتاء.
والمناداة ليست حكرا على السلاطين، بل هي مهنة مريديهم، خصوصا الصحافيين من
بينهم من اصحاب المقالات والتصاريح الجاهزة. والسلطان يتزلف لاربابه
الاقليميين، بالضبط كما يتزلف الرعايا لسلاطينهم والمستشارين، فالجميع
بياع، والبضاعة هي الوطن.
ولان اللعبة هي "اونطة" ومناداة، فلا استقلال في لبنان كما لا حقوق في فلسطين.
ولان انتفاضة الاستقلال ولدت عرجاء، من رحم الفساد اللبناني، واعتاشت طفيلية
على الرياح الاقليمية المزعومة، فلا انتفاضة حقيقية، ولا تغيير، الا بانتفاضة
على الانتفاضة لتخليصها من النفاق الداخلي المرتبط غالبا بسيد خارجي.