حسين عبدالحسين
تعاني العقيدة المؤسِّسة للجمهورية الاسلامية في إيران، تناقضاً، يجمع القومية الفارسية وبعض التعاليم الاسلامية. ويبدو أن حكام إيران لا يهمهم هذا التناقض، بل يستخدمون العناصر المتناقضة لتبرير توسّع نفوذهم السياسي في منطقة غرب آسيا.
ولا يكتفي قادة طهران بالتصريحات السياسية او المقالات التي يكتبونها في الصحافة الغربية للإعلان بأن حدود "خليج فارس" تبلغ عدن، وتشمل البحر الأحمر، بل يرعون — بعيداً من أنظار السياسة والسياسيين — حركة أكاديمية، تصدر نصوصاً تحاول الإشارة الى المدى الجغرافي الذي بلغته الممالك الايرانية القديمة.
وعلى طراز التعليل الاسرائيلي نفسه، يحاول الفرس الاستعانة بأي من آثار ممالكهم البائدة في أراضي العرب لإثبات ملكيتهم للأرض، وهم لهذا الغرض أسسوا "جمعية خبراء الآثار الإيرانيين"، ومقرها طهران، وتصدر دورية يشارك فيها أكاديميون غربيون مرموقون، وغربيون من أصول ايرانية.
هذه الدورية أصدرت عددها الأخير بخلاصة عنوانها: "الخليج الفارسي (هو) بحر الساسانيين (حكام ايران بين 225 و651 ميلادية)". والعنوان حملته دراسة بقلم توراج دريائي، البروفسور في جامعة كاليفورنيا، استعار فيها تسمية الامبراطورية الرومانية للبحر الابيض المتوسط بـ"بحرنا". على أن دريائي تجاهل الفارق في الأهمية الاستراتيجية بين الاثنين، فمساحة المتوسط هي عشرة أضعاف مساحة الخليج، البالغة ربع مليون كيلومتر مربع، والمتوسط يربط ثلاث قارات، فيما الخليج بحيرة منبثقة عن "بحر العرب".
يقول دريائي إن بعض الدلائل تشير الى أن الساسانيين انشأوا بحرية للإفادة اقتصادياً، وإن بحريّتهم هذه ساهمت في الاستيطان الساساني على الساحل الجنوبي والشرقي للخليج، أي التابع اليوم للكويت والبحرين وقطر والإمارات وعمان، لا في شمالي الخليج وغربه التابعين لإيران فحسب.
ربما اضطر دريائي أن يجامل أصحاب الدورية، فلوى التاريخ بعض الشيء ليتناسب مع الخطاب السياسي الإيراني الحالي. إلا أن في نصه ثغرات عديدة. فدريائي نفسه أصدر، في العام 2009، كتاباً بعنوان "فارس الساسانية"، قال فيه ان الزرداشتية كانت تنظر باحتقار لكل من يعمل بالتجارة، مقتبساً من كتابها المقدس "مينوغ اي خاراد" أن الرجال ينقسمون إلى رجال دين ومحاربين ومزارعين، وهو ما قد يفسّر، بحسب كتاب دريائي، اشتغال المسيحيين واليهود في التجارة في إيران. كما ورد في كتاب دريائي أن الساسانيين كانوا، أثناء غزواتهم في العراق وسوريا ولبنان، يختطفون المتخصصين من أصحاب الخبرات، وينقلونهم الى فارس ليوظفوا خبراتهم، مثلاً في الإبحار والتجارة، في خدمة الامبراطورية الإيرانية.
وإذا ما قارنّا النصوص الزرداشتية المعادية للتجارة، مع الثقافة العربية، السابقة على الإسلام واللاحقة له، لوجدنا أن العرب احترفوا التجارة منذ أوقات سحيقة، وأنهم يحترمون التجار، وهو احترام ثبتته التعاليم والتقاليد الإسلامية، ما يعني أن الإبحار والتجارة عند العرب كانا أكثر قبولاً مجتمعياً منهما لدى الفرس.
والممالك الإيرانية المتعاقبة غير معروفة بقوتها البحرية: البارثيون والاخمينيون ينحدرون من مناطق إيران الداخلية، فيما لا يبدو أنه كان لدى الساسانيين تقليد بحري على غرار اليونان والفينيقيين وعرب الخليج. حتى لو نظرنا إلى تقاليد هذه الدول اليوم، لوجدنا أن عرب الخليج يتباهون بتاريخهم البحري أكثر من نظرائهم الإيرانيين، إلى حد أن شعار ثلاث دول خليجية، قطر والإمارات والكويت، هو سفينة.
وارتباط العرب بمهنة الإبحار وثيق إلى درجة أنهم منحوا اسمهم "بحر العرب" لجزء من المحيط الهندي. ويوم أراد البحار البرتغالي الشهير، فاسكو داغاما، الإبحار من شرق افريقيا غرباً، باتجاه الهند، اضطر للاستعانة بالبحار العربي الشهير أحمد ابن ماجد، الذي قاد السفن البرتغالية.
ولأن شهرة البحارة العرب أوسع من شهرة نظرائهم الإيرانيين، فإننا نجد في الآثار الصينية ذكر لبحارة إيران بين الأعوام 650 و750، لكن اسم هؤلاء لا يلبث أن ينقلب الى عرب (طاشي بالصينية من طيائي نسبة الى عرب طي) من العام 760 للميلاد، بحسب المؤرخ الراحل جورج حوراني، شقيق ألبرت.
ثم لو نظرنا الى الشواطئ الشمالية الشرقية للخليج، لوجدنا المرافئ فيها شحيحة، أشهرها يحمل أسماء عربية وتعيش في محيطها غالبية من العرب. ويتهم الإيرانيون هؤلاء العرب بأنهم وفدوا الى الشواطئ الإيرانية مع الاحتلال البرتغالي (بعد القرن السادس عشر)، لكن الاتهامات الإيرانية، عشوائية. وبندر عبّاس، أشهر المرافئ الإيرانية، يحمل اسمه نسبةً الى العباسيين العرب الذين أسسوا الدولة البستكية في محيط المرفأ المذكور. كذلك جزيرة خارك الايرانية، حيث المرفأ الايراني المعروف، يبدو اسمها اقرب الى كرخ، عاصمة مملكة ميسان العربية جنوب العراق. والمعروف أن للكرخيين، بالشراكة مع تدمريي سوريا وأنباط الأردن، تاريخاً تجارياً بحرياً - صحراوياً عريقاً، كان يصل الهند بأوروبا. وفي خارك، قبور ذات مواصفات عربية، منها ضريح يشبه قبر زبيدة في العراق، ويعتقد المحليون أنه قبر الإمام أبي حنيفة.
والمرافئ العربية على الخليج اكثر حضوراً في التاريخ من جارتها التابعة لايران، بسبب توافر المياه العذبة لدى العرب، فاسم البحرين مستقى من المياه العذبة التي كانت تنبع من سواحل الجزيرة. ولأن الماء العذبة لا تخالط ماء الملح، اكتسبت البحرين اسمها. كذلك كانت تتوافر المياه العذبة في واحة الجميرة في دبي، والدور في أم القيوين. ثم جبل الحجر العماني، وهو يتمتع بثروة مائية ابقته اخضر حتى اليوم. أما الجهة الإيرانية، فمعظمها قاحلة، ما عدا الجزء الشمالي في الاحواز ذات الغالبية العربية، وهو ما قلص تاريخياً من فرص تحول مرافىء إيران الى محطات للسفن.
ولأن الدول البحرية العربية تفوقت على نظيرتها الايرانية تاريخياً، اقام العُمانيون سلطنة عُمان وزنجبار التي امتدت من شواطئ إيران ومضيق هرمز، الى القرن الافريقي، وصولاً الى جزر القمر ومدغشقر وتنزانيا، وهي سلطنة فككها الانكليز ومنحوا الإجزاء الايرانية منها الى حليفتهم طهران، ومنحوا إيران كذلك عدداً من الجزر العربية في الخليج، والمعروفة منها ابو موسى وطنب الكبرى والصغرى، وهذه ما زالت مصدر نزاع عربي - ايراني.
لا شك ان الساسانيين اجتاحوا أراضي العرب حتى وصلوا عدن، لكنهم فعلوا ذلك من دون قوات بحرية، واستوطنوا شبه الجزيرة للسيطرة على ثرواتها، خصوصاً المعادن الثمينة، مثل في مهد الذهب القريبة من المدينة المنورة، غربي السعودية. والارجح ان الساسان سلكوا مجرى نهر الباطن - وادي الرمة، البالغ طوله 1200 كيلومترا، والذي يصل شمال غرب الكويت بالجبال المحيط بالمدينة. هذا النهر الجاف منذ 3500 سنة هو الذي يعتقد معلمنا الراحل كمال الصليبي أن يهود التوراة سلكوه في رحلتهم من جنوب العراق الى الحجاز، لكن لجغرافيا الحجاز وتاريخها حديث آخر. إلا أن اعتبار أن الفرس حكموا كل مناطق العرب وخليجهم، عبر كل التاريخ، أمر فيه مبالغة، والأرجح انه أقرب الى الدعاية السياسية الإيرانية منه الى التدوين التاريخي الرصين.