حسين عبدالحسين
عزيزتي عهد،
سلام وبعد. قرأت باهتمام كتابكِ الصادر مؤخرا بالإنكليزية بعنوان "ينادوني لبؤة" حول تحريضك لشن عمليات ضد إسرائيل وانخراطك في مواجهات مع جنودها، ما أدى لاعتقالك ثمانية أشهر في سجن هاشارون ومنحكِ شهرة عالمية.
اسمحي لي أن أقدم نفسي. أنا أميركي، عربي المولد والنشأة والثقافة. في سني الجامعة والشباب في لبنان، انخرطت في العمل الطلابي وآمنت بقضية فلسطين مستندا إلى نفس التعليل الذي تقدمينه في كتابكِ. يوم زارتنا في "الجامعة الأميركية في بيروت" وزيرة الصحة الأميركية السابقة، دونا شلالا، جلست في الصف الأمامي والكوفية على اكتافي استفزازا. شاركت في كل التظاهرات لدعم الفلسطينيين، ورافقت أعضاء مجلس الشيوخ البلجيكيين في تحقيقاتهم في مجازر مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين، وسهلت تغطية إعلاميين أميركيين لفلسطينيين رفعوا مفاتيح بيوتهم الحديدية القديمة، وسندات ملكياتها في مخيم عين الحلوة. كانت المظلومية الفلسطينية واضحة أمام عيني بنفس وضوحها في عينيكِ اليوم. ثم كَبِرت.
ربما تعرفين المثل القائل أنك إن لم تكن ثوريا في شبابك فأنت بلا قلب، وإن بقيت ثوريا بعد عمر الشباب، فأنت بلا عقل. تقولين أنك تسعين لشهادة في الحقوق لتثقيف الفلسطينيين حول حقوقهم في حالات اعتقالهم. هذا يشي بأنك تخالين أن الصراع أزلي، وأنك تختارينه — للأسف — طريقة حياة لك وللفلسطينيين. الصراع، أي صراع عسكري أم مدني، هو وسيلة لحياة أفضل، ويصبح عبثيا إن تحوّل إلى طريقة عيش، وأنت الأدرى بذلك إذ أنكِ نشأتِ في ظلّه. هو دوامة من العنف والثأر. الموت يخطف بعض من تحبين. السجن يصبح عادة، فتخرجين وأمكِ من السجن ليدخل أبوكِ وأخواكِ وعد وأبو يزن. هذه ليست حياة.
الحياة هي السعي للاستقرار، وتحصيل العلم، والعمل الدؤوب، وحرية العبادة أم عدمها، وحرية التعبير عن الرأي، والسعي لتأمين حياة أفضل للجيل الذي يلينا من التي عشناها، لا إعداده للتعامل مع نفس حياة البؤس والمواجهات والاعتقال التي عشناها.
أنا ولدت وترعرت في حرب لبنان الأهلية وحروب العراق كلها. كان هروبنا مستمرا من جحيم متواصل في نقاط مختلفة: بغداد، بحمدون، بعلبك، بيروت. خسرنا في كل منها أراضٍ، وبيوت، وأقارب، وأصدقاء. لذا، قطعت عهدا على نفسي أن أسعى لحياة أفضل لي أولا ولأولادي من بعدي.
هكذا انخرطت في التغيير في العراق ولبنان. لكن الثورة والتغيير في دنيا العرب عبث ولا تؤثران في مجرى الأمور، بل إن أوضاع البلدين هي اليوم أسوأ بكثير عما كانت عليه في زمن سكني في المنطقة. أما المفارقة فهي أن لبنان والعراق — على عكس فلسطين — يتمتعان بسيادة كاملة. لكن السيادة لا تؤثر في دنيا العرب، بل أن المشكلة هي في انعدام الثقافة المدنية والدستورية لدى الغالبية.
إن أجمل فكرة وردت في كتابِك هي أنه "علينا كفلسطينيين أن نكون صادقين مع أنفسنا، وأن نعترف أن مشاكلنا لن تصل لحلول فورية عندما ننهي الاحتلال (الاسرائيلي)"، والأرجح أنها فكرة تواترت اليكِ في السجن تحت تأثير "خالتو خالدة" جرار، التي تنتمي لـ "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، ذات التوجه العلماني الماركسي الذي يولي تحرر المرأة في المجتمعات العربية أهمية كبيرة.
ما أختلف فيه معك، ومع "خالتو خالدة"، هو أن حلول مشاكل الفلسطينيين، كباقي العرب، لا ترتبط بإسرائيل، ولا بالاحتلال، ولا بالسيادة العربية أو عدمها، بل أن استمرار الاحتلال سببه الفشل الفلسطيني — كما اللبناني والسوري والعراقي — في انجاب دول حديثة قادرة على استلام السيادة من الإسرائيليين.
والفشل العربي يتجلى في معتقدات مثل التالية التي أوردتها: "حتى يحقق الفلسطينيون أي شيء ذي معنى، نحتاج أولا إلى وحدة وطنية وقيادة قوية". طبعا هذه فكرة قديمة وردتك من المحيط العربي الذي نشأتِ فيه، والذي يتخيل أن سر النجاح هو الانضباط، والعسكر، والقوة، فيما الواقع هو أن سر نجاحات الدول الغربية وإسرائيل هو عكس ذلك تماما. نجاح الدول مبني على تعدد الآراء وتضاربها، والقدرة على تنظيم الاختلاف في الرأي، ومنح القيادة للرأي الذي يحوز على الغالبية في الانتخابات.
وتعدد الآراء ينحصر في صنع السياسات، أما الأمور المصيرية فتحتاج لإجماع. عندما تبنت "منظمة التحرير" حل الدولتين ودعت المجتمع الدولي لإقراره وفق قرارات ملزمة صادرة عن مجلس الأمن الدولي، كان ذلك باسم الشعب الفلسطيني ككل، وهو ما يعني أنه لما استلمت حماس الحكم بالانتخابات، كانت مجبرة على التزام هذه الاتفاقيات والتنسيق أمنيا مع إسرائيل. لكن حماس لا تعترف بالمجتمع الدولي ولا بقانونه، وهي شنت عمليات انتحارية في زمن المفاوضات أظهرت أن عرفات لا يمثل الفلسطينيين، وتاليا لم يبصر حل الدولتين النور، وتعثّر في منتصف الطريق، وصار عبارة عن كائن هجين: لا هو حرب ولا هو سلم.
على أن حماس لو التزمت وعود "منظمة التحرير" لإسرائيل والعالم، لكانت حكومة فلسطينية اليوم تتمتع بسيادة على كل الضفة، بما فيها "المنطقة ج"، حيث بلدتك النبي صالح، وحيث نبع مياهِك المفضل عين قوس، ولكانت دولة فلسطين تحكم الضفة وغزة من مقرّ لها في القدس الشرقية، ولكنتِ أنتِ قادرة على زيارة عكّا في إسرائيل متى شئتِ، كما يزور أي أردني أو مصري أو إماراتي أو بحريني أو تركي عكّا وحيفا ويافا وباقي إسرائيل.
أما عرب إسرائيل، فدعيهم يتحدثون عن أنفسهم. هم أوضاعهم أفضل من كل عرب المشرق، فيما تظهر الانتخابات الإسرائيلية أنهم ينقسمون إلى ثلاث كتل: واحدة تتبنى الصهيونية وتنخرط في أحزابها مع حفاظها على ثقافتها العربية كأقلية، وثانية عربية غير صهيونية تشارك في دولة إسرائيل مثل كتلة رعم، وثالثة تعارض وجود دولة إسرائيل بالكامل مثل كتلة المشتركة وحزب بلد في الكنيست. أما لو شاء عرب إسرائيل الانضمام إلى دولة فلسطين لو قامت، فيمكنهم ذلك إما بضم مناطقهم المجاورة للضفة إلى الدولة الفلسطينية، أو بحمل جوازات فلسطينية مع إقامة دائمة في إسرائيل، أي يصبحون مواطني فلسطين ويعيشون في إسرائيل بدون حق الترشح والانتخاب.
عزيزتي عهد،
كل الأفكار التي أوردتها حول "المقاومة" و"الصمود" هي أفكار عفا عليها الزمن، وأثبتت فشلها على مدى القرن الماضي. حتى يحيا الفلسطينيون حياة أفضل، عليهم التخلي عن حلم إزالة إسرائيل وإقامة دولة فلسطينية مكانها، وعلى الفلسطينيين تقديم أفكار قابلة للحياة للمجموعتين. مثلا، عندما تغمضين عينيك وتتخيلين أن "فلسطين تحررت"، تقصدين تحررت ممن؟ إذا كنتِ تعتقدين أن العرب واليهود سيعيشون بمساواة في دولة واحدة، هذا يعني أن كلمتي احتلال وتحرير لا تصفان الوضع لأن التحرير من الاحتلال يقضي بجلاء المحتل، فيما أنتِ تقترحين العيش بمساواة مع المحتل نفسه، وهذا تناقض. لو كنتِ ساعية للعيش بمساواة فلن تنشدي التحرير، بل لطالبتِ بحقوق متساوية مع الإسرائيليين بعد قسمك الولاء لإسرائيل. أما إن كان هدفك السيادة الفلسطينية، فلا مناص من حل الدولتين.
وحتى يصبح حل الدولتين ممكنا، على الفلسطينيين التخلي عمّا يسمونه "حق العودة"، الذي ينص عليه قرار صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقرارات الجمعية هذه غير ملزمة. لكن قرارات مجلس الأمن، التي تكرّس حل الدولتين، ملزمة، وهو ما يعني إن كان القانون الدولي هو ما تصبين إليه، فهو يملي بالتخلي عن الدولة الواحدة وتبني حل الدولتين، فلسطين عربية خالصة إلى جانب إسرائيل، يهودية خالصة بدورها.
إن مفتاح خلاص الفلسطينيين هو تخلصهم من ثأر الماضي، وتطلعهم نحو مستقبل أفضل، وهو ما يقتضي نظرهم إلى الأمور بواقعية، ومقارنة إمكاناتهم وإمكانات الإسرائيليين، وهنا لا أقصد العسكرية، بل التفوق الإسرائيلي في البنية السياسية والثقافية والعلمية والاجتماعية والحريات الخاصة والعامة.
في اليوم الذي يدرك فيه الفلسطينيون أنهم متأخرون عن الإسرائيليين في قدرتهم عل بناء دولة وإدارتها، سيدركون أيضا أن مصلحتهم تقضي بتسليم السيادة للخبّاز حتى لو أكل نصفها. فقط تأملي كيف يتظاهر عرب إسرائيل كل مرة تعرض إسرائيل ضم مناطقهم إلى حكم السلطة، ففلسطينيي الداخل يدركون أنه على الرغم من تمتع اليهود بحظوة أكبر لدى الدولة، إلا أن وضعهم أفضل بكثير من سائر عرب المشرق.
عزيزتي عهد،
عندما ابتعتُ كتابك كان أملي أن أطالع أفكارا خلّاقة يقدمها جيل جديد. ثم خاب أملي عندما رأيتني أقرأ سطورا قلتِ فيها أن مانديلا لم يكن مناضلا سلميا بل كان داعية مقاومة مسلحة وحرب. خاب ظني أني بدلا من قراءة أن الجيل الجديد ملّ الموت والثأر والاعتقال، قرأت أنه يستعد لجولة جديدة منها. للأسف.