الثلاثاء، 26 يوليو 2022

حرب "حزب الله" على الكنيسة المارونية

حسين عبدالحسين

اعتقلت قوات الأمن اللبنانية رجل الدين اللبناني المسيحي الماروني موسى الحاج فور عودته من إسرائيل وبعد عبوره بوابة الناقورة الحدودية اللبنانية، وحققت معه على مدى 12 ساعة، وصادرت أموالا كانت بحوزته وتراوحت، حسب التقديرات، بين ربع مليون ونصف مليون دولار، فضلا عن أدوية كان ينقلها الحاج إلى لبنان العاجز — بسبب انهياره الاقتصادي — عن استيراد أدوية أساسية بشكل يهدد حياة المرضى فيه.

السلطة اللبنانية "التي يديرها حزب الله" الموالي لإيران علّلت الاعتقال والاستجواب بالإشارة إلى أن الحاج عاد من دولة عدوة، وحاولت التلميح الى أن المطران الماروني كان ينقل أموالا من حكومة إسرائيل الى أزلامها وتابعيها الذين يسعون لتخريب قدرة لبنان على "المقاومة". 

لكن قانون مقاطعة إسرائيل، الذي أقرته جامعة الدول العربية قبل عقود وتبناه لبنان، يستثني رجال الدين والعمل الرعوي، وهو استثناء سمح لبطريرك الموارنة نفسه اللبناني بشارة الراعي بزيارة إسرائيل في العام 2014. 

ومنذ تأسيس الرهبانية المارونية والبطريركية، قبل ألف عام على الأقل، يعيش الموارنة في المشرق (سوريا ولبنان وإسرائيل) وقبرص، وينتشرون منذ قرنين في أصقاع العالم، خصوصا في الأميركيتين، ولهم كنائس (بما في ذلك هنا في واشنطن) يديرها رجال دين يتبعون الكنيسة المارونية في لبنان.

لبنان نفسه وُلِدَ بمجهود كنيسة الموارنة في انطاكية وسائر المشرق، التي استقت اسم البلد من العهد القديم ومنحته شارتها، أي الأرزة المذكورة في الكتاب نفسه. ومع ترسيم الانتداب الأوروبي للحدود في الشرق الأوسط، حاولت بريطانيا جعل نهر الليطاني الحدود بين لبنان وفلسطين، لكن الفرنسيين، بتحريض من الكنيسة المارونية، رفضوا ذلك، وتم رسم الحدود بشكل فصل شمال فلسطين، ذات الغالبية السنية شبة المطلقة، عن جنوب لبنان، ذات الغالبية الشيعية والمارونية، باستثناء سبع قرى مارونية تمّ رسمها مع فلسطين، فضلا عن قرى مارونية كانت أكثر بعدا عن الحدود.

ويصل انتشار الموارنة في الشمال الإسرائيلي أصلا حتى عكّا، آخر نقطة عاش فيها الفينيقيون في الماضي السحيق، ثم توسعوا جنوبا ليصلوا حيفا والناصرة، فيما تعيش حوالي عشرات العائلات في القدس، ويبلغ اجمالي عددهم أقل من عشرة آلاف.

هكذا، بسبب وجود موارنة إسرائيليين، تم استثناء العمل الرعوي من قانون مقاطعة إسرائيل. والموارنة الإسرائيليون يزورون مقاماتهم الدينية في لبنان دوريا بحصولهم على جوازات أردنية من السلطة الفلسطينية، ثم انتقالهم إلى بيروت جوا من عمّان.

كل هذه التفاصيل لا تعني "حزب الله"، الذي ينصّب نفسه حامي المسيحيين في المشرق من خطر التطرف الداعشي. ما يزعج الميليشيا الموالية لإيران هي أن الكنيسة المارونية صممت لبنان في الماضي، ولاتزال تسعى اليوم للحفاظ عليه، كبلد يعيش فيه الموارنة بكرامتهم، لا كذميين — أي مواطني درجة ثانية — كما عبر عصور الحكم الاسلامي وكما في ايران اليوم. 

كما سعت الكنيسة المارونية تاريخيا، وتسعى اليوم، إلى استقرار أحوال رعيتها، روحيا ونفسيا واقتصاديا وماليا وأمنيا، وهو ما يتطلب أن يكون لبنان مزدهرا يعيش في سلام مع جواره، لا أن يكون قاعدة صاروخية تستخدمها إيران لابتزاز إسرائيل والغرب. لكن للأسف، لبنان هو اليوم قاعدة صاروخية إيرانية، أقصى ما يمكن لزعيمها حسن نصرالله تقديمه للبنانيين هو خيارين: الموت إما جوعا أو حربا.

ولأن "حزب الله" منزعج من الكنيسة المارونية وسيدها الراعي، يمضي بمضايقتها لعلمه أن اغتيال الراعي أكبر بكثير من كل عمليات الاغتيال التي نفذها ضد سياسيين لبنانيين في الماضي. أما مضايقات "حزب الله" للكنيسة المارونية وبطريركها الراعي، فتكون غالبا على شكل تخوين يشنه إعلام الحزب ضدها.

لكن اعتقال سلطات دولة "حزب الله" المطران الحاج ذهب أبعد بكثير من التخوين الإعلامي وأدى لارتباك أكبر حليفي الحزب المارونيين. النائب السابق والطامح للرئاسة سليمان فرنجية هاجم الاعتقال، وقال إن من قام به هم "طابور خامس"، أي عناصر مندسة، وهو نوع من الاتهامات التي تستهبل الناس. أما النائب الحالي وصهر الرئيس ميشال عون والطامح للرئاسة كذلك جبران باسيل، فحاول استهبال الناس بدوره بالتلاعب على الموضوع، وغرّد قائلا إن "القانون اللبناني يحرّم نقل الأموال من الأراضي المحتلة" لكن من غير الجائز اعتبار المطران عميل "لأنه يحاول مساعدة عائلات تم افقارها". وختم باسيل تغريدته بالهجوم الشعبوي العوني المعتاد على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.

هكذا، وقف "حزب الله" في هجومه على كنيسة الموارنة عاريا، بدون تأييد أقرب حلفائه الموارنة، فاضطرت وسائل إعلام الميليشيا الموالية لإيران إلى تبرير الاعتقال باللجوء إلى كلمة تسييس. وكلمة تسييس هذه يستخدمها "حزب الله" للتغطية على كل موبقاته، فهو وصف المحكمة الدولية التي أصدرت حكما بتورطه في اغتيال رئيس حكومة لبنان السابق رفيق الحريري بالتسييس، واتهم التحقيقات في انفجار المرفأ بالتسييس، واليوم يتهم الصرخة التي علت ضد تعليماته باعتقال المطران الماروني الحاج بالتسييس كذلك.

ولأن "حزب الله" وقف عاريا في هجومه على كنيسة لبنان المارونية، لم يجد من يعينه إلا حفنة من مناصريه الشيعة، فكتب أكاديمي يعيش في أميركا أن الحاج خرق القانون والأخلاق، ودعا إلى تفتيش سيارات البطريركية ذهابا وإيابا من إسرائيل كضرورة وطنية وأمنية، واستذكر معاهدة سرية بين الكنيسة والحركة الصهيونية قبل عقود، وأخذ على بعض الموارنة تلفظهم بكلمة إسرائيل بدلا من قولهم "فلسطين المحتلة". 

في هذا العقل البسيط أن كل من يعترف بوجود دولة اسرائيل يخرق الأخلاق، أي أن لا حوار ولا اختلاف رأي في الموضوع، ولا مساحة لحرص المواطن اللبناني على مصلحته الفردية والوطنية كأولوية تعلو على كل الأولويات في المنطقة والعالم، ولا خيار للمواطن اللبناني في التضامن أو عدمه مع الفلسطينيين. الأخلاق، برأي الأكاديمي الفاضل، هي أن تنحصر خيارات اللبنانيين بين الموت من الجوع أو الموت في الحرب، وهذا "وجه الصحارة"، وهؤلاء هم من يحكمون لبنان.

الثلاثاء، 19 يوليو 2022

السعودية وقطر والتطبيع مع إسرائيل بلا سلام

حسين عبدالحسين

لخّص الوزير السعودي للشؤون الخارجية عادل الجبير قرار بلاده فتح أجوائها أمام الطائرات الإسرائيلية بالقول إن السعودية، بحكم موقعها الجغرافي بين آسيا وأوروبا وأفريقيا، هي مفترق طرق عالمي، وأن اتفاقية شيكاغو للطيران المدني للعام 1944 تفرض على الدول فتح أجوائها لكل الدول الأخرى، حتى التي لا تتمتع بعلاقات دبلوماسية معها.

وتابع الوزير السعودي أن فتح أبواب بلاده لكل الدول — بما فيها إسرائيل من دون أن يذكرها — لن يقتصر على المجال الجوي، بل سيشمل أيضا مرافئ السعودية، لافتا إلى أن 14 في المئة من التجارة العالمية تمر عبر البحر الأحمر.

وقال الجبير إن السعودية سترحب برياضيين من كل الدول في البطولات الدولية التي ستستضيفها، في إشارة ضمنية إلى إمكانية مشاركة رياضيين إسرائيليين في مسابقات رياضية في السعودية.

في السياق نفسه، قال الجبير إن بلاده لن توقع سلاما مع إسرائيل قبل تحقيق حل الدولتين وقيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، مع حل عادل للاجئين (لا يعني عودة العرب إلى الدولة اليهودية).

على عكس الأنظار العربية والعالمية المسلّطة على موقف السعودية من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لم تعد القضية الفلسطينية في رأس قائمة الأولويات السعودية، وذلك لأن السعودية بقيادة ولي عهدها محمد بن سلمان قامت بتعديلات جذرية طالت رؤية السعودية لنفسها.

على عكس العقود الماضية، لم تعد المملكة تتصور نفسها الدولة التي تقود العالم العربي أو الإسلامي، ولا هي منخرطة مع صراع على زعامة العرب، مثل الذي خاضتها مع مصر عبدالناصر في الخمسينات والستينات، ولا في سباق على قيادة العالم الإسلامي، كالذي خاضته مع إيران في الثمانينات والتسعينات.

أولوية السعودية اليوم هي السعودية أولا وأخيرا، وهو ما يعني تحويل الاقتصاد السعودي من ريعي يعتمد على عائدات النفط إلى خدماتي يعتمد على الموارد البشرية والمعرفة. والاقتصاد الخدماتي يشبه نموذج "نمور آسيا" وفي وقت لاحق الإمارات والبحرين وتركيا، وهو نموذج يجعل من السعودية عاصمة الإقليم المالية والاقتصادية والسياحية والرياضية.

أي أن السعودية تعمل على بناء وتنمية كل القطاعات غير النفطية، بما في ذلك قطاع الترانزيت، أي جباية رسوم مرور طائرات وسفن دول أجنبية، إسرائيل أو غيرها، واستقبال سيّاح من كل سكان المعمورة، بمن فيهم الإسرائيليون، رياضيون مشاركون في بطولات دولية أو رجال أعمال ومسؤولين في الشركات المتعددة الجنسيات.

أما الفارق بين الإمارات والبحرين وتركيا، من ناحية، والسعودية وقطر، من ناحية ثانية، فهو أن أبوظبي والمنامة وأنقرة تتمتعان باتفاقيات سلام وعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل، فيما الرياض والدوحة تربطان علاقتيهما الدبلوماسية مع إسرائيل بقيام دولة فلسطينية. وسبق لقطر أن استضافت بطولات رياضية مختلفة شارك فيها متسابقون إسرائيليون وتم عزف النشيد الوطني الإسرائيلي في الدوحة. كذلك تستعد قطر لاستقبال إسرائيليين سيشاهدون مباريات كأس العالم لكرة القدم المقرر إقامتها في قطر في نوفمبر المقبل. 

وعلى الرغم من الحملة الإعلامية التي تشنها الشبكات الإعلامية القطرية ضد إسرائيل، إلا أن التنسيق الاستخباراتي بين الاثنين قائم، ويتضمن سماح الدولة العبرية للدوحة بتقديم مئات ملايين الدولارات لتنظيم حماس في غزة لأسباب لا مجال لشرحها هنا. 

لكن على عكس قطر، التي تسعى لموائمة متطلبات الحفاظ على اقتصاد منفتح على العالم (بما في ذلك إسرائيل) مع قيامها بلعب أدوارا قيادية إقليمية وحول العالم، لا تسعى السعودية لأي أدوار إقليمية أو عالمية إلا التي تخدم المصالح السعودية، فالانخراط في الاقتصاد العالمي يتطلب "تصفير المشاكل" مع دول العالم، وهي السياسة التي أتقنتها تركيا، التي مدّت السجاد الأحمر للرئيس الإسرائيلي في مارس فيما تشارك هذا الشهر في قمة تجمعها مع رئيسي روسيا وإيران في طهران. 

أما غالبية الفلسطينيين، فلا يتغيرون منذ وعد بلفور، ومن بعده النكبة، فالنكسة، فالانتفاضتان، فالانهيار الشامل الذي يعيشونه اليوم. على عكس السعوديين والإماراتيين والقطريين والأتراك، يعلي هؤلاء الفلسطينيون مشاعرهم على مصالحهم، إذ هم لا يهتمون لما بين أيديهم من أراض فيسعون لإدارتها وتطويرها والإفادة من مواردهم البشرية الهائلة، ولا هم أقاموا دولة في سنوات سيطرة العرب على أراضي 1967، بل هم انهمكوا دائما في ما ليس بين أيديهم، أي فيما انتزعه الإسرائيليون منهم. 

لذلك، يعيش عدد من الفلسطينيين في التاريخ، ماضين غالبا في عبادة رئيس مصر الشعبوي الراحل جمال عبدالناصر، الذي دمّر كل ما طالته يداه، إن مصر واقتصادها، أو فلسطين أو اليمن، أو علاقة مصر بالغرب — خصوصا الولايات المتحدة. 

والمفارقة أنه يندر أن يعرب هؤلاء الفلسطينيون عن غضب أو كراهية تجاه الأتراك، الذين يتمتعون باتفاقيات سلام مع إسرائيل منذ عقود، ربما بسبب عواطف يحركها الماضي العثماني الذي يتخيلونه مجيدا. في الوقت نفسه، يتمسك هؤلاء الفلسطينيون بغضبهم على السعوديين وشعوب الخليج بغض النظر عمّا يفعله هؤلاء، إن موّل الخليج الميليشيات الفلسطينية واللاجئين أو لم يموّل، وإن التزمت السعودية حل الدولتين كشرط لإعلان سلام مع إسرائيل أو لم تلتزمه.

وربما في عداء هؤلاء الفلسطينيين للسعودية وعموم الخليج ما هو أعمق من القضية الفلسطينية، إذ يبدي عدد كبير من المشرقيين (فلسطينيين وسوريين ولبنانيين) عجرفة واستعلاء على الخليجيين، ويتهمونهم بأنهم من البدو الأقل حضارة، وأن الثروة النفطية لا تليق بهم، وأن المشرقيين هم من بنوا الخليج، إلى ما هنالك من عنصرية لا تحمل جميلا للخليجيين الذي آوت ثرواتهم النفطية مئات آلاف العائلات الفلسطينية واللبنانية والسورية والأردنية والمصرية وغيرها. 

السعودية ماضية في تطبيع مع إسرائيل يخدم مصالح المملكة، مع أو بدون اتفاقية سلام مع الدولة العبرية، والسعي للمصالح هو حجر أساس الدول المتقدمة، لعلّ وعسّى أن يدرك المشرقيون يوما — في فلسطين ولبنان وسوريا ومعهم العراق — أن البكاء على أطلال فلسطين لم يعد استراتيجية تطعم خبزا، وأن العالم يسير قدما بدونهم، وأن في مصلحتهم اللحاق في هذا العالم والانخراط فيه بدلا من النحيب المكرر والممل.

الثلاثاء، 12 يوليو 2022

الأسد و"شبعا السورية".. و"انسحاب" نتانياهو من الجولان

حسين عبدالحسين

في كتابه "وصول المرتفعات"، قدم الدبلوماسي الأميركي السابق، فرد هوف، معلومات شيقة حول إدارته ملف السلام السوري الإسرائيلي، وهو مجهود بدأ عام 2009 وتوقف عقب إطلاق قوات أمن الرئيس السوري بشار الأسد النار على المتظاهرين السلميين في عموم البلاد عام 2011. 

اهتمام هوف بسوريا بدأ في السبعينات عندما أمضى فيها سنة أو أكثر بعد فوزه بمنحة دراسية أميركية. في المفاوضات العربية الإسرائيلية، انصب اهتمام هوف على المسار السوري، قبل أن يتقاعد من وزارة الخارجية وينخرط في العمل في القطاع الخاص. لكن وصول باراك أوباما ووعوده الكبيرة إلى البيت الأبيض أعادت إطلاق مفاوضات السلام على مسارين: فلسطيني إسرائيلي وسوري إسرائيلي. هوف اختار إدارة المسار السوري. 

في صفحاته الأولى، يعلن هوف أن حافزه لتحقيق السلام السوري الإسرائيلي كان أبعد من السلام نفسه. "رأيت سلام إسرائيل - سوريا وسيلة حتى تسدد الولايات المتحدة ضربة قاصمة لإيران، ضربة تكسر لها ذراعها اللبنانية"، أي "حزب الله". أما أسباب حقد هوف على الحزب المذكور، حسب كتابه، فتتضمن تفجيري السفارة الأميركية ومقر القوة الأميركية للسلام في بيروت في 1983، والأخير راح ضحيته 241 أميركيا، ثم اغتيال رئيس الجامعة الأميركية في بيروت مالكوم كير. وكان لافتا أن هوف لم يشر إلى قيام "حزب الله"، في 1988، بخطف وتعذيب وقتل صديقه المقدم الأميركي ريتش هيغينز، الذي كان يعمل مع قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان "يونيفيل"، مع أن هوف كان أشار إلى ذلك في مقالة في بوليتيكو في 14 أكتوبر 2015، وكانت بعنوان "لقد كنت مخطئا في سوريا".

في مراجعته وإقراره بالخطأ، اعتقد هوف أن مشكلته أنه لم يتوقع كمية العنف والدموية التي مارسها الأسد فيما بعد بحق السوريين. لكن خطأ هوف الأكبر قد يكون بعدم فهمه نموذج حكم عائلة الأسد. 

يتذكر هوف أنه قابل الأسد على مدى ساعة في 28 فبراير 2011، وعرض عليه خطة سلام مع إسرائيل، كان هوف عمل عليها بالتنسيق مع وزير الخارجية الراحل وليد المعلم، ورئيس حكومة إسرائيل السابق بنيامين نتانياهو، ووزير دفاعه إيهود باراك. وافق الأسد على الخطة كاملة، وقال إن مزراع شبعا سورية، وأن لدى الأسد خرائط تثبت ذلك، وأن لبنان سينضم لسوريا بتوقيع السلام مع إسرائيل، وأن زعيم "حزب الله" حسن نصرالله سيتعذر عليه مواصلة "المقاومة" بدون دمشق. كما حمّل الأسد هوف سلامه إلى أوباما.

تفاجئ هوف وقال إن الإيجابية وصلت إلى حد أن الخطوة التالية كانت تقضي بإجراء مفاوضات بين وفدي سوريا وإسرائيل في مدينة أوروبية شرقية مطلع شهر أبريل 2011. لكن قمع الأسد الدموي للمتظاهرين السوريين علّق المفاوضات وقضى عليها بالكامل. ويتحسّر هوف ماذا كان الوضع سيكون عليه لو لم تندلع الثورة السورية ولو تم فعليا توقيع السلام بين الأسد وإسرائيل، وهنا فعليا خطأ هوف في فهم نموذج حكم الأسد.

لطالما استخدم رئيس سوريا الراحل والد بشار، حافظ الأسد، إسرائيل والسلام معها كأداة، لا كهدف، أداة كان يلوح لها بالسلام عند الشعور بالضعف، إن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ووقوف أميركا كقوة عالمية منفردة في 1991، أو عندما أراد حافظ توريث بشار وضمان موافقة الغرب. في المرتين، أقترب الأسد كثيرا من السلام، ليتراجع عنه بعدم تمر لحظة الضعف هذه.

بشار التزم نموذج أبيه. بعد اغتيال الحريري في 2005 ومعاناته من عزلة دولية، لجأ إلى محادثات سلام مع إسرائيل في تركيا عام 2008. الدبلوماسي المحنك جيفري فيلتمان قال يوما في معهد هدسون إن تلك المفاوضات هي التي فتحت الباب لبشار الأسد للخروج من عزلته. ثم بعد خروجه، تراجع الأسد عن السلام، معللا ذلك باندلاع مواجهات عسكرية بين إسرائيل وحماس في غزة.

في آواخر العام 2010، أحرق بائع الخضار التونسي محمد بوعزيزي نفسه من الفقر، فأطلق شرارة الربيع العربي، وانهار في يناير 2011 نظام زين العابدين بن علي بعد عقود على حكمه بالحديد والنار، وانهار في 11 فبراير نظام المصري حسني مبارك. أحسّ الأسد بالنار فاستقبل هوف في 28 فبراير، ووافق على خطة السلام كاملة وبدون شروط ووعد بسلام إسرائيلي مع لبنان فوق ذلك. هدف الأسد من وعود السلام تلك هي إطلاق أميركا والغرب يده في قمع الثورة السورية. طبعا لم تجر الرياح كما يشتهي الأسد إذ جاء ثمن قمعه عقوبات أميركية ودولية عليه هي الأقسى.

لم يعرف هوف، لا في 2011 ولا اليوم، أن الأسد حاول استخدامه والسلام كأداة لمواجهة "الربيع العربي" الزاحف على دمشق.

بعيدا عن خطأ هوف الفعلي وانخداعه بوعود الأسد الزائفة لسلام سوري مع إسرائيل، يحفل كتابه بصور مثيرة للاهتمام من داخل أروقة القرار، مثل أن نائب مستشار الأمن القومي توماس دونيلن كان يسمي الأسد ومساعديه "مهابيل"، وأن انطباع مبعوث السلام جورج ميتشل بعد لقائه الأسد في 2009 أن الأخير بدا متوترا وثرثارا، وكرر أقواله واحتكر 80 إلى 90 في المئة من الحديث. 

وقال هوف إن الأسد أبلغه أنه طلب من نظيره اللبناني الاستعداد لتوقيع سلام مع إسرائيل، وأن الأسد قال إن نصرالله سيمتثل للسلام السوري اللبناني مع إسرائيل لأن "نصرالله عربي وليس فارسيا". 

لكن الكتاب أظهر أن الإسرائيليين أكثر معرفة وواقعية بنظام الأسد، إذ شكك نتانياهو بقدرة الأسد على إجبار نصرالله على توقيع سلام مع إسرائيل. وفي جلسة لاحقة، بعدما أكد هوف موافقة الأسد على كل بنود الوثيقة التي تم التوصل إليها لسلام سوري مع إسرائيل، أبدى نتانياهو استعداده لانسحاب كامل من الجولان حتى خط الرابع من حزيران 1967، وحثّ هوف أن يطلب من أوباما أن يتصل بالأسد هاتفيا لضمان توقيع السلام (وهذا بالضبط ما كان يريده الأسد، عطف دولي يغطي على دمويته في قمع السوريين).

كتاب هوف رحلة سريعة في سلام يراهن عليه الأميركيون ويعرف الإسرائيليون أن عائلة الأسد لا تريده بل تعتاش على الصراع المفتوح مع إسرائيل، كما على التلويح الدائم بالسلام معها.

قبل الختام، لا يسع القارئ إلا أن يلاحظ مرارة هوف من أوباما وأسلوب حكمه وتعاطيه مع الموضوع السوري، فهوف يمتعض أن كل خطوة قام بها دبلوماسيون مخضرمون في الخارجية كانت ملزمة أن تمر أمام عشرات من العاملين في مجلس الأمن القومي التابع للبيت الأبيض، والذي كان يعج بحديثي السن والمتعدي على مهنة الشؤون الدولية. يلمّح هوف أنه صدّق أوباما أولا ثم اكتشف مع الوقت أن الرئيس السابق كان أكثر اهتماما بصورته وشعبيته منه في مساعدة السوريين أو إنقاذهم من مخالب الأسد ونظامه.

الثلاثاء، 5 يوليو 2022

حرية المثليين حريتنا

حسين عبدالحسين

في الأسابيع القليلة الماضية، غرقت دول لبنان والعراق والكويت ومصر وتركيا في رهاب المثلية، وشن المحافظون في كل هذه الدول حملات تشنيع ضد مجتمع الميم - عين، وصلت حد العنف، وأظهر هذا العداء غير المبرر للمثليين أمية فاقعة وجهل، لا بالشؤون الطبية فحسب، بل بكل الأمور المتعلقة بالحرية الفردية والديمقراطية. كما صوّر معادو مجتمع الميم المثليين على أنهم شبكة عالمية خطيرة ذات أذرع في كل مكان وتمويل ضخم، تسعى إلى ترويج المثلية بين الصغار ونشرها، وذلك كجزء من مخطط غربي، أو حتى صهيوني، لتفتيت المجتمع العربي والمسلم. 

لن نناقش هنا بلاهة معادي المثلية في الشؤون الطبية التي تؤكد، عكس ما يدّعون، أن المثلية ليست مرضا، إذ يكاد الجسم الطبي يجمع أن المثلية هوية فردية تشبه باقي الهويات: جزء منها وراثي لا إرادي وجزء آخر طوعي اختياري.

ما سنناقشه هنا هي الأهمية القصوى لمنح مجتمع الميم - عين الحرية المطلقة حتى يعيش المثليون بيننا، لنا ما لهم وعلينا ما عليهم. والدعوة للحرية الكاملة للمثليين ليست منّة عليهم، بل هي من باب "عامل الناس مثلما تريد أن يعاملوك". هذا يعني أن منح المثليين حرية كاملة يقابله تلقي من يمنحون هذه الحرية للآخرين حرية كاملة لأنفسهم، وهذا يندرج تحت بند الحريات الفردية (ليبرتي بالإنكليزية).

و"ليبرتي" هذه هي أساس الديمقراطيات الحقيقية في العالم، وهي في إعلان الاستقلال الأميركي "الحياة والحرية والسعي للسعادة" وهي في شعار الثورة الفرنسية "حرية مساواة تآخ". 

و"ليبرتي" هي ضمانة ألا تتحول أي حكومة منتخبة إلى هيئة متسلطة على المواطنين، فالحكومة المنتخبة مولجة إدارة البلاد وسن السياسات، لكن لا صلاحية للحكومة في التدخل في حياة الأفراد. مثلا، لا يحق لأي حكومة منتخبة وتمثل الغالبية أن تفرض على الناس ما يلبسونه أو من يعبدون، وإذا ما قامت الحكومة المنتخبة بفرض خيارات من هذا النوع، يُطلق على ممارستها اسم "طغيان الأكثرية".

وليس صحيحا أبدا أن لكل بلد تقاليد متعارف عليها يجب احترامها. التقاليد هي ما يمارسه طوعيا أفراد ينتمون إلى جماعة. مثلا، يصوم المسلمون في رمضان. هذا تقليد ولا يمكن فرضه على المواطنين كما لا يمكن لأي حكومة منعه. حتى كتاب المسلمين قال إن "لا تزر وازرة وزر أخرى" وأن كل فرد مسؤول عن أعماله وأفعاله.

المشكلة في المجتمعات العربية أنها لا تفقه معنى المواطنية الفردية، بل تنظر إلى الشعب كوحدة متجانسة تتألف إما من مواطنين متطابقين في معتقداتهم (غالبية من المسلمين مثل في تونس) أو من مجموعات مختلفة دينيا وانما متعايشة (مثل في لبنان).

الإشكالية في الحالتين، الغالبية الإسلامية الساحقة أو التعايش بين مجموعات مسلمة وغير مسلمة، هي أن مواطني هذه الدول ينظرون إلى أنفسهم كمجموعات لا كأفراد، وهو ما يلغي الحرية الفردية، ويتوقع الناس أن يتبنى كل واحد منهم معتقدات متطابقة وخيارات متشابهة للمجموعة التي ولد فيها. 

كاتب هذه السطور، مثلا، خرج على التقاليد باختياره شريكة عمره من مجموعة دينية تختلف عن التي ولد فيها في دولة كلبنان لا تمنح حرية الزواج المدني العابر للمذاهب. هكذا، حاولت الحكومة، باسم الغالبية والتقاليد، فرض خياراتها علينا، ونحن رفضنا، وبحثنا عن أمثالنا ممن خاضوا قبلنا تجربة زواج مدني عابر للمذاهب، وأفدنا من تجربتهم وتعاطفهم. ومثل بحثنا عمن تشارك معنا في المشكلة نفسها، كذلك يبحث المثليون عن مثليين مظلومين من أمثالهم حتى يدعموا بعضهم البعض، وهذا أمر طبيعي وليس مؤامرة.

زواجي وشريكة عمري كان خيارا فرديا خارجا عن التقاليد والعادات، فهل كنا جزء من مؤامرة لتدمير المجتمع العربي ونسيجه؟ الإجابة هي لا قاطعة. المشكلة هي لدى الغالبية العربي التي لا يبدو أنها تفهم معنى وأهمية الحرية الفردية، بل تعتقد أن فرض العادات والتقاليد على كل الناس — أي الهندسة المجتمعية — هي باب الخلاص لإبقاء المجتمع ملائكيا متجانسا على شكل ما كان عليه في زمن الآباء والأجداد.

الأسبوع الماضي، كتب مصري التالي: "المثلية الجنسية هي فكر علماني متطرف تصدر لنا من بلاد الغرب وانتشر في مصر". لو أخذنا القصص الديني وحده في عين الاعتبار، لتبين أن قوم لوط (وهم كانوا يسكنون الأردن على الأرجح)، مارسوا المثلية الجنسية قبل آلاف السنين. حتى في ذروة الحضارة الإسلامية، لا يخفى الشاعر العباسي أبو نؤاس ميوله المثلية. مع ذلك، يتحفنا الكاتب المصري — كعرب كثيرين غيره — أن الدول العربية والإسلامية كانت تعيش كالملائكة وفقا لتقاليد وعادات، ثم جاء الغرب بفكره المنحل، وعكّر صفوة الحياة الإسلامية، ونشر المثلية في صفوفها.

أما في العراق، فقد دعا رجل الدين مقتدى الصدر إلى إقامة يوم لمناهضة المثلية، وهو ما يطرح السؤال: ماذا لو قامت دولة ذات غالبية مسيحية بإعلان يوم لمناهضة الدين الإسلامي على اعتبار أن هذا الدين بدعة غريبة عن تقاليده السويسرية أو الدنماركية أو البرازيلية؟

إن التمسك بحقوق المثليين في خياراتهم وعيشهم بأمان وحرية ليست انحيازا لخياراتهم، بل انحياز للحرية التي لا تكون مجتزأة، ولا تكون لناس من دون ناس، فالحرية إما للجميع، أو هي طغيان الأكثر والأقوى على الأقل والأضعف، والطغيان هو شريعة الغاب وهو الشذوذ.

ختاما، لا بد من الإشارة إلى حق المثليين في الزواج والأولاد. الزواج أمر بسيط لأنه شراكة طوعية بين راشدين. أما الأولاد، فللسلطة والمجتمع وصاية أكبر عليهم. معارضة أن يكون للمثليين أولاد تنبع من اعتقاد أن أولاد المثليين سيكبرون مثليين كأبويهم. ومع أنه لا ضرر في ذلك، لكن في الوقت الحالي، غالبية المثليين هم أولاد عائلات تقليدية. ثم أن هناك حالات كبر فيها أولاد المثليين ولم يصبحوا مثليين كذويهم. أضف إلى أن نشأة الأولاد في عائلات مثلية متماسكة فيها حب وعطف ودعم أفضل من نشأتهم في عائلات تقليدية فيها عنف وبؤس وشقاء. 

إن حرية المثليين هي جزء لا يتجزأ من حريتنا جميعا، إما نعيش جميعا أحرارا نحترم خيارات بعضنا البعض، خصوصا الخيارات التي لا نوافق عليها والتي لا نتبناها لأنفسنا، أو نعيش وفق قاعدة أن الأكثر والأقوى هو الذي يسود ويفرض خياراته ودينه وتقاليده وطغيانه على الباقين.

Since December 2008