الثلاثاء، 30 يوليو 2019

صعود الغرب وانحدار "الباقين"

حسين عبدالحسين

على مدى العقدين الماضيين، هلّل العالم للانهيار المرتقب للغرب وديمقراطيته. سال حبر كثير في تحليل "انحدار الغرب وصعود الباقين". وبدا وكأن في العالم قوة تضاهي الغرب وتهدد سطوته، أطلق عليها الغرب تسمية "دول بريكس"، وهي مجموعة دول في طليعتها الصين، واقتصادها الصاعد حينها بشكل صاروخي، ومعها روسيا، القوة العظمى سابقا، فضلا عن الهند، والبرازيل وجنوب أفريقيا.

وفي وقت كان "الباقون" يتمتعون بفوائض في موازناتهم، غالبا بسبب صادراتهم من المواد الأولية (باستثناء الصين)، أطلقت الصين مشروعها "الحزام والطريق"، في العام 2013، وسط تباهيها ببنائها أطول جسر في العالم، وأسرع قطار، وغيرها. بعد ذلك بعام، أعلن رئيس روسيا فلاديمير بوتين إطلاق مصرف "بريكس"، برأسمال قدره 100 مليار دولار، لمنافسة صندوق النقد والبنك الدوليين.

وراحت الدول ذات الاقتصادات الأصغر والنفوذ الأضعف تعلن تمردها على النظام العالمي الذي يقوده الغرب. فأعلن رئيس مصر الراحل محمد مرسي نيته إبعاد بلاده عن أميركا وانضمامها إلى "بريكس"؛ ومثله يردد رئيس تركيا رجب طيب أردوغان الموقف نفسه، الذي تطور ليصل إلى حد إمكانية خروج أنقرة من "تحالف الأطلسي" برمته، على خلفية إصرار تركيا شراء منظومة دفاع جوي روسية تتعارض وبقائها في التحالف. ولم تفوت إيران فرصة إعلان انخراطها في المنظومة العالمية المناهضة للغرب "المستكبر الكافر"، وراحت إيران، ومعها روسيا وتركيا والصين، تعلن ـ بشكل متكرر ـ تحالفها اقتصاديا لدحر التفوق الغربي، وتجاهل النظام العالمي، وحقوق الإنسان، والديمقراطية.

أمام الكونغرس الأميركي، الشهر الماضي، لفت ديريك سزرز، وهو خبير أميركي متخصص بالصين في معهد "أميركان إنتربرايز"، إلى أن حجم الاستثمارات الصينية في الدول المنخرط في مشروع "الحزام والطريق" انخفضت إلى أربعة مليارات دولار ونصف في أبريل، وأنها توزعت على 50 دولة فقط، من الدول الـ 137 التي يفترض أنها منخرطة في المشروع الصيني. وقال سزرز إن بكين لم تقدم نسب نمو استثماراتها، وهي الطريقة الصينية للقول إنها لم تحقق نموا، بل ضمرت. ويعتقد الخبير الأميركي أنه حتى تصل الصين إلى استثمار مبلغ ترليون دولار المعلن عنها، سيستغرقها حتى العام 2040، وهو ما يعني أنه إن كان المشروع "خطة مارشال" صينية، فهي خطة بطيئة جدا.

ومثل تعثر استثمارات الصين في دول المشروع، تعثر إنفاقها على البنية التحتية المرافقة له. وفي حال بقي الإنفاق الصيني على وتيرته، يتحقق المشروع في العام 2069 بدلا من 2049 المعلنة. ويعزو سزرز ضمور مشروع "الحزام والطريق" إلى انخفاض في احتياطي الصين من أربعة إلى ثلاثة ترليون دولار، بالتزامن مع ارتفاع الدين الصيني من 6.5 ترليون دولار في العام 2008، إلى 33 ترليونا اليوم، وهو ما يعني أن النمو الاقتصادي الصيني، الذي انخفض من أكثر من عشرة في المئة إلى حوالي ستة في المئة في السنوات الأخيرة، هو نمو ممول بدين يبلغ 150 في المئة حجم الدين العام الأميركي، وأن الاحتياطي الصيني قد لا يعود للنمو بنفس الوتيرة، بل ربما يتقلص، وهو ما يهدد مشروع "الحزام والطريق" برمته. ولم تمر أسابيع على شهادة سزرز حتى أعلنت الصين، منتصف هذا الشهر، أنها حققت أدنى نمو اقتصادي لها في 30 عاما.

أما روسيا، فهي بعد احتلالها شبه جزيرة القرم، تعرضت لعقوبات أميركية قاسية، فراح اقتصادها يضمر، وعديد سكانها يتناقص، ومبيعات أسلحتها تتراجع حول العالم. هكذا وقف بوتين، في قمة بريكس العام الماضي، وبدلا من تقديم منجزات مصرف بريكس والنظام العالمي الجديد الذي يشيده مع الصين وغيرها، قدم مطالب كان أقصاها حثّ الدول الحاضرة على "تقليص" اعتمادها على الدولار الأميركي كعملة احتياط العالم.

ومع اهتزاز اقتصاد الصين وروسيا، ظهرت قوة أميركا في عقوباتها الأحادية على إيران. ويبدو أن طهران صدّقت، بادئ الأمر، الدعاية الكاذبة التي تبثها عن انحدار الغرب وتقهقره وصعود "الباقين". لكن عقوبات أميركا الأحادية شلّت اقتصاد إيران أكثر من تلك الدولية التي كانت مفروضة على طهران قبل التوصل للاتفاقية النووية معها. حتى الصين، التي تتناوش مع أميركا وتتعرض صادراتها إلى السوق الأميركية لزيادات جمركية، امتثلت للطلب الأميركي بوقف شراء الطاقة من إيران.

لم ينحدر الغرب، ولم يصعد الشرق، ولن يكون القرن الحالي قرنا صينيا يلي القرن الأميركي الماضي، وها قد انقضى عقدان من القرن الحالي، وما زالت أميركا والغرب في صدارة العالم.

لم يأت التفوق الأميركي والغربي بسبب الكولونيالية أو استغلال الشعوب، فهذه أميركا توقف صادرات إيران النفطية، بدلا من السعي لزيادتها والاستيلاء عليها، حسب نظريات المؤامرة السائدة.

بقاء أميركا والغرب في القمة، وتعثر "الباقين" في اللحاق هو لنفس سبب تفوق الغرب أصلا، وهي حرية شعوب هذه الدول، والديمقراطية، فالحرية تطلق عنان مخيلة الناس، وتدفعهم للمبادرة، فتأتي أبرز عشر اختراعات في العقدين الماضيين من أميركا، والغالب أن تأتي أبرز عشر اختراعات في العقدين المقبلين من أميركا كذلك.

أما المفارقة، فتكمن في أن أحد من يقفون خلف أبرز اختراعات هذا العصر، محرك بحث غوغل، هو الروسي سيرجي برين، الذي هاجرت عائلته إلى الولايات المتحدة وهو في عمر السادسة. يبلغ برين 45 عاما من العمر، وتبلغ ثروته حوالي 50 مليار دولار، أو ما يوازي عشرين في المئة من احتياطي روسيا بأكمله.

لم يتدرج برين في الاستخبارات، لم يسرق، لم يقتل، لم يرتق مناصب الدولة بوساطة أقرباء، ولم يكتب تقارير بحق زملائه ليتسلق إلى القيادة على ظهورهم، بل تنعّم برين بالحرية، وأطلق عنان مخيلته، غامر، استدان، بنى واحدة من أكبر الشركات في العالم، ولم يخش أن يطرق بابه أزلام القيصر ليبتزونه ويفرضون أن يشاركهم في رزقه. تحول برين من ابن مهاجرين إلى واحد من أغنى 15 شخصا في العالم. لهذا ستبقى الدول الديمقراطية فوق، وسيبقى "الباقون" تحت.

الاثنين، 29 يوليو 2019

عطلة صيفية منعشة سياسياً للرئيس الأميركي... وتغريدات

واشنطن - من حسين عبدالحسين

رغم استمرار تدني التأييد له في استطلاعات الرأي الشعبية، يتمتع دونالد ترامب بأسبوعين ذهبيين، سياسياً، بدءاً من شهادة المحقق الخاص روبرت مولر امام الكونغرس، والتي لم تفجر أي مفاجآت يمكنها ان تهدد بقاءه في البيت الابيض، وصولاً الى حكم المحكمة الفيديرالية العليا القاضي بالسماح للرئيس الاميركي بمواصلة بناء جدار على حدود الولايات المتحدة الجنوبية مع المكسيك لمنع تدفق اللاجئين. 
وبين الحدثين، نجح ترامب في تمرير المصادقة على تعيين مارك إسبر وزيرا للدفاع، من دون ضجيج. كما نجح في الحصول على موافقة الكونغرس، بما فيه مجلس النواب ذات الغالبية الديموقراطية المعارضة، على المصادقة على عامين من الموازنة الفيديرالية ورفع سقف الاستدانة الى ما بعد الانتخابات الرئاسية، وهو ما يرفع عنه كابوس مفاوضة الديموقراطيين لتحصيل اموال الموازنة وادارة شؤون حكومته. 
ويبدو ان بعض مستشاري ترامب، بمن فيهم ابنته ايفانكا، نجحوا إلى حد ما - ولفترة - في لجم تصريحاته الاستفزازية، فالابنة اوقفت امعان الرئيس في هجمته العنصرية ضد اربعة من النساء من اعضاء الكونغرس الديموقراطيات، ومنهن المسلمتان الهان عمر، ذات الجذور الصومالية، ورشيدة طليب، التي تنحدر من عائلة فلسطينية. 
وكان ترامب دعا النساء الاربعة لـ«العودة الى بلادهن» ان كن لا يرين أي ايجابيات في الولايات المتحدة، وهي دعوة ذات نفحة عنصرية معروفة، كان يطلقها العنصريون البيض بحق السود في زمني العبودية والفصل العنصري. 
وفي سياق مشابه، تقول مصادر البيت الابيض ان مستشاري الرئيس نجحوا في ضبط تغريدات رئيسهم غير المنضبطة في مواضيع اقتصادية، مثل الحرب التجارية مع الصين، وهجماته ضد الفيديرالي الاميركي، مطالباً اياه بخفض الفائدة لمواصلة تحفير النمو. 
على انه ورغم اقصى درجات ضبط النفس التي يمارسها البيت الابيض، لم يتمكن ترامب من تفادي الانخراط في حرب اقتصادية صغيرة مع احدى ابرز حليفات اميركا، اي فرنسا، إذ وعد ، بتغريدة، بفرض تعريفات جمركية على واردات النبيذ الفرنسي، رداً على قيام باريس بفرض ضرائب على شركات التكنولوجيا الاميركية العملاقة، مثل «فيسبوك» و»غوغل». 
على انه في خضم الاسبوعين المنعشين سياسياً لترامب، لم تنغص عليه حياته الا السياسة الخارجية، التي يعاني فيها من تخبط لا قعر له، اذ بعد قيام ايران باسقاط طائرة اميركية للمراقبة من دون طيار، يبلغ سعرها 130 مليون دولار، وبعد احتجاز ناقلة نفط بريطانية مع طاقمها اثناء مرورها في مضيق هرمز، فجرت كوريا الشمالية، التي يتغنى ترامب بصداقته المتينة مع زعيمها كيم جونغ أون، مفاجأة باجرائها تجارب على صواريخ بالستية، رداً على تدريبات عسكرية مشتركة اميركية - كوريا جنوبية، وهو ما ضاعف من مآزق ترامب خارجياً واظهره في صورة اكثر ضعفاً. 
لكن من يعرف ترامب يعرف ان الرجل لا يهمه ما يجري حول العالم، وهو بالكاد يمكنه ان يشير إلى دول العالم على الخريطة، وان ابرز خطوات سياسته الخارجية ترتبط بانعكاساتها الداخلية، خصوصا على حظوظ اعادة انتخابه، وهو لهذا السبب اصر على سحب قواته من الاراضي السورية شرق الفرات، على عكس الاجماع السياسي والعسكري الاميركي، وهو قام بالاعتراف بضم اسرائيل لهضبة الجولان السورية التي تحتلها منذ العام 1967، كذلك لاسباب ترتبط بالسياسة الداخلية حصراً. 
الاسبوعان المنعشان سياسياً اللذان عاشهما ترامب يقدمان له عطلة صيفية، قد تكون الافضل له منذ دخوله البيت الابيض قبل عامين ونصف العام، مع ذهاب الكونغرس وواشنطن عموماً الى عطلة طويلة تمتد حتى ستة اسابيع. لكن الرئيس لم ينجح في ضبط نفسه وتغريداته، «جيداً» وقام بمهاجمة عضو ديموقراطي من أصول أفريقية، ما أثار حفيظة وغضب أميركيين كثر... في انتظار ما ستحمله الأيام المقبلة.

السبت، 27 يوليو 2019

ترامب يشيد بانفصال بريطانيا... أوروبياً ويتنصّل من «مساعدتها»... خليجياً

واشنطن - من حسين عبدالحسين

من مفارقات السياسة الخارجية لرئيس اميركي هاو، مثل دونالد ترامب، انه يثني على انفصال بريطانيا عن الاتحاد الاوروبي، ويعدها باتفاقية تجارة حرة تضاهي، بل تتفوق، على ما يمكن ان تجنيه لندن اقتصادياً وسياسيا من بقائها مع الاوروبيين، ان هي انسحبت من اوروبا. ثم عند اول امتحان، يوم قررت لندن الاتكاء الى الولايات المتحدة للتعامل مع ازمة ضد إيران، لا طاقة للبريطانيين التعاطي معها لوحدهم... تملصت ادارة ترامب، بل ان واشنطن اشاحت بوجهها امام استجداء البريطانيين للاميركيين مساعدتهم على انقاذ ناقلة النفط التي اختطفها الايرانيون قبل اسبوعين. 
هكذا، تسلّم بوريس جونسون رئاسة حكومة بريطانيا كرمز ومدير لانفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الاوروبي، وفي الوقت نفسه، سارع للاتصال بالألمان للتوسط معهم لدى طهران للافراج عن الناقلة البريطانية، وراح ينسّق مع الفرنسيين موقفا اوروبياً يهدف الى «خفض التصعيد» مع طهران، والتوصل مع الايرانيين الى ترتيب امني يحيّد الناقلات الاوروبية عن الصراع بين الولايات المتحدة وايران.
وكانت الجمهورية الاسلامية اختطفت ناقلة نفط بريطانية اثناء مرورها عبر مضيق هرمز. وبررت خطوتها بسبب قيام دولة جبل طارق، التابعة للمملكة المتحدة، بوقف ناقلة نفط ايرانية كانت متوجهة الى سورية، اثناء مرورها في المضيق، بسبب اختراقها العقوبات التي يفرضها الاتحاد الاوروبي على نظام الرئيس بشار الأسد. 
حاولت لندن، بادئ الامر، التواصل مع واشنطن لتحرير الناقلة عنوة، بمساعدة عسكرية اميركية، واعلنت تعزيز قوتها البحرية في الخليج لمشاركة الاميركيين في عملية التحرير، إلا ان واشنطن واجهت الطلب برفض قاطع للقيام بأي عمل عسكري من شأنه تعزيز فرص الانزلاق معها تجاه مواجهة عسكرية شاملة.
وقالت مصادر اوروبية في العاصمة الاميركية، ان الفرنسيين نصحوا البريطانيين بالتخلي عن طموح الانفصال عن اوروبا ومحاولة الاستناد الى الولايات المتحدة للتعويض عن الانفصال، ان في التجارة او في السياسة الخارجية والأمن والدفاع. 
وقدم الفرنسيون للبريطانيين مثالاً عن التباين في اهداف السياستين الدفاعية والخارجية بين العواصم الاوروبية وواشنطن، واشاروا الى تراجع الرئيس السابق باراك اوباما عن ضرب اهداف تعود للأسد، على اثر مجزرة الغوطة الكيماوية صيف 2012، بعدما كان نظيره الفرنسي السابق فرانسوا هولاند وضع قواته على أهبة الاستعداد للمشاركة في العملية العسكرية، قبل ان يعلن أوباما تراجعه، حتى من دون ابلاغ الفرنسيين بالقرار قبل إعلانه. 
وغالباً ما يرد الاميركيون على الاتهامات الفرنسية، بالقول ان ادارة اوباما كانت سمعت، بدورها، عدم مشاركة بريطانيا عبر وسائل الاعلام على اثر تصويت مجلس العموم ضد المشاركة البريطانية بالضربة الاميركية التي كانت مقررة.
رغم صعود اليمين على ضفتي الاطلسي، في أميركا كما في اوروبا الغربية... ورغم التشابه بين خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي وبين انتخاب ترامب رئيساً ونجاح بعض اليمين في السيطرة على بعض الحكومات الاوروبية، إلا ان اليمين الاوروبي لا يبدو جبهة موحدة ومتماسكة حول العالم، حسب ما يزعم قادته، بل ان هؤلاء أكثر انهماكاً في الحشد داخل دولهم شعبوياً، من دون الالتفات الى مصالح حلفائهم. 
هذا الدرس الذي تعلمته بريطانيا من محاولتها ترك اوروبا والاقتراب من اميركا، وهو الدرس الذي يبدو انه سيعيد لندن الى أحضان القارة العجوز، بعيداً عن حليفتها الاقرب، اي واشنطن، وخصوصا بعيداً عن سياسات واشنطن المتشددة تجاه طهران.

الثلاثاء، 23 يوليو 2019

صدام لم يمت

حسين عبدالحسين

أظهر فيديو من محافظة واسط العراقية، الأسبوع الماضي، قيام محافظها محمد المياحي بالاعتداء بالضرب على شرطي مرور. قبل أشهر، انتشر فيديو آخر يظهر محافظ نينوى السابق نوفل العاكوب، في مكتبه، وهو يمارس عنفا لفظيا بحق مدير مدرسة لقيام المدير بضرب وتعنيف تلاميذ في مدرسته.

من جنوب العراق الشيعي إلى شماله السني، يختلف العراقيون على أمور كثيرة، لكنهم يتفقون على واحدة: العنف. كان زوج أم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين يؤدبه بالضرب بعصا. انتقل صدام للسكن مع خاله خيرالله طلفاح، صاحب الكتاب الذي يقول فيه إن ثلاثة لا يستحقون الحياة هم "اليهود والفرس والذباب". ويوم حضر جابي الكهرباء يطالب خيرالله بتسديد ما تأخر عليه من مدفوعات، أوعز خيرالله لابن أخته بالتخلص من الجابي. مات الجابي مقتولا. ثم وسّع صدام نشاطاته، وأقام ـ بصفته رئيسا للجنة الزراعة في "حزب البعث العربي الاشتراكي" ـ جهاز إعدامات صفى بموجبه أعداء الحزب، وأعداءه داخل الحزب. وأطلق صدام النار على رئيس العراق، وأطلق حرس الرئيس النار على صدام، فأصابوه في قدمه، وفر هاربا. ثم ترأس صدام، وخاض حربا قصيرة مع شاه إيران، وتصالحا، فحرب جديدة مع إيران "الخميني الدجّال"، فحرب على الكويت.

وبين حروبه، تفنن صدّام في قتل العراقيين، بعضهم دفنتهم جرّافاته أحياء في قبور جماعية. بعضهم، كالكرد في الشمال، رماهم بالسلاح الكيماوي. بعضهم الآخر رماهم من على سطوح البنايات، أو فتح في جماجمهم ثغرات بمثقاب البناء الكهربائي. المحظوظون من ضحايا صدام، مثل نسيبيه وابني عمّه صدام وحسين كامل، ماتوا برصاص وقاذفات عشيرتهم في حرب صغيرة في أحد الأحياء السكنية في بغداد. ثم يقولون لك إن أميركا تسبب بالحروب والعنف في العراق.

لم يتوان خصوم صدام العراقيين عن محاولاتهم قتله. لاحقوه، رصدوه، حاولوا قتله في الدجيل، لكنه المهووس أبدا بأمنه، شعر بفطرته أن تلك الخالة التي قبلته ووضعت يدها على سيارته رسمت إشارة، فانتقل إلى سيارة أخرى، ونجا من الاغتيال، وأرسل أزلامه، لا لقتل كل من في الدجيل بلا تفرقة فحسب، بل لجرف البيوت، وحتى أشجار النخيل. هكذا كان صدام، داخل العراق وفي الإقليم، إما قاتل أو مقتول.

لم يأت صدام من المريخ. لم يبتكر العنف كوسيلة وحيدة للتواصل البشري، بل هو كان وليد ثقافة العنف، عاشها وتفوق فيها على كلّ أقرانه، إلى أن وضعت الولايات المتحدة حد لحفلة العنف التي كان يمارسها، وحاولت إنصاف ضحاياه. لكن غالبية ضحايا صدام، أي الشعب العراقي، ظهر أنها على شاكلته، تمارس العنف بلا خجل، إن في المدارس، أو في الشوارع.

"راح صدام وجاء مئة صدام" هو القول الذي يردده العراقيون بشكل متواصل اليوم. يوم استعادت الميليشيات العراقية الشيعية تكريت من الميليشيات السنية الإرهابية (داعش)، راح الشيعة يطلقون النار على ضريح صدام، الذي كان أصلا كومة من الركام. حتى الركام لا ينجو من حفلات العنف العراقية.

الأسبوع الماضي، انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات لمتظاهرين في أكثر من منطقة من العراق، في الجنوب وبغداد والشمال، يهتفون لصدام. ربما هتافهم كان لإثارة حفيظة حكام العراق اليوم، الذين يخالط عنفهم الأقل دموية الفساد. ربما يعتقد العراقيون اليوم، بعدما رأوا عنف من خلفوا صدام في الحكم، أن صدام لم يختلف في عنفه وفساده عن حكام العراق اليوم، وأن الفرق الوحيد هو أن صدام كان ثابتا في الحكم، فيما يتناوب خلفاءه على العنف والفساد، بحسب من يختاره العراقيون كل أربع سنوات.

في التعليقات على لقطات ضرب محافظ واسط شرطي المرور وتوبيخ محافظ نينوى مدير المدرسة، يندر أن نقرأ عراقيين يطالبون بالادعاء على المحافظين وإحضارهما أمام القضاء لتقرير عقوبتيهما. يندر أن نقرأ أنه كان على كل من المحافظين اللجوء إلى التدابير الإدارية المتوفرة لإنزال العقوبة بحق شرطي المرور، في حال ثبتت مخالفته، وبحق المدير. 

غالبية العراقيين ترغب في أن ترى كلا من الشرطي والمدير يضربان المحافظين، أي يبادلاهما العنف بالعنف. صحيح أن الضحيتين تعرضتا للعنف، ولكن يمكن لكل منهما اللجوء إلى القضاء، وطلب تعويضات معنوية (اعتذار) ومادية، والتسبب بالإطاحة بالمحافظين وتحويلهما إلى عبرة لأي محافظين قد يلجؤون إلى العنف مستقبلا في إدارة شؤون محافظاتهم.

لم يطالب المعلّقون العراقيون باللجوء إلى القضاء، بل طالبوا بمبادلة العنف بعنف. لم يمت صدّام. مات جسديا، لكن الثقافة التي أنجبته ما تزال حية، وما تزال مسؤولة عن الشقاء الذي يعيشه العراق ومنطقة الشرق الأوسط بأكملها، وبدون التخلي عنها، يستحيل أن تقوم للعراق، أو للعراقيين، ولا للعرب والإيرانيين، قائمة.

الأربعاء، 17 يوليو 2019

هل ينقلب التحالف الأميركي - التركي إلى عداوة؟

واشنطن - من حسين عبدالحسين
جريدة الراي

يأسف عاملون في اللوبي الاميركي المؤيد لتركيا لما آلت اليه الاوضاع بين واشنطن وأنقرة، ويخشون انه - على عكس المرات السابقة - سيتسبب شراء تركيا منظومة «اس - 400» الدفاعية الجوية الروسية بأزمة طويلة، ستكون أعمق وأطول من جفاء وعتاب، وربما تؤدي الى طرد تركيا من حلف شمال الأطلسي (الناتو). 
وبدأت أنقرة بعملية تسلم اجزاء من المنظومة الروسية، التي تعتقد واشنطن ان من شأنها ان تسمح لموسكو بالتجسس على انظمة الاسلحة الاميركية التي تستخدمها تركيا، خصوصا مقاتلات «اف 35» المتطورة، والتي كان من المقرر ان يشارك الاتراك في صناعتها على اراضيهم والحصول على العشرات منها لاسطولهم الجوي. 
لكن مع اصرار الرئيس رجب طيب اردوغان على شراء المنظومة الروسية، قامت واشنطن باعداد مجموعة من العقوبات المالية التي تستعد لفرضها على انقرة. ولم يؤد اللقاء الذي عقده الرئيس دونالد ترامب مع اردوغان، على هامش قمة العشرين في اليابان، في يونيو الماضي، إلى اي اختراق في المفاوضات بين الجانبين. 
وكان من المقرر ان يعلن المسؤولون الاميركيون فرضهم عقوبات على تركيا، إلا ان الاعلان تم تأجيله لاسباب لم تعلن واشنطن عنها. ويتداول العارفون انباء مفادها بان مفاوضات ربع الساعة الاخير تجري على قدم وساق بين صهري الرئيسين ومستشاريهما، الاميركي جاريد كوشنر والتركي بيرات البيرق، وان هذه المفاوضات هي التي أدت الى تأجيل إعلان العقوبات. 
ويتوقع الخبراء ان تؤدي العقوبات على تركيا الى اهتزاز في اقتصادها، الذي يعاني من تراجع قيمة الليرة التركية مقابل العملات العالمية، وهو ما دفع اردوغان الى القول - استباقا لعقوبات اميركية محتملة - ان مصرف تركيا المركزي ينوي تخفيض الفائدة بنسب كبيرة، وهو ما من شأنه تعزيز الودائع بالعملات الصعبة وحماية النقد الوطني. 
ويتوقع المسؤولون الاميركيون ان يؤدي التصعيد مع انقرة الى تصعيد مضاد. وكانت واشنطن رصدت انتشار حشود عسكرية تركية على حدودها مع سورية. ويعتقد الاميركيون ان تركيا ستعمد الى شن هجوم واسع ضد الجيب الذي تسيطر عليه القوات الاميركية وحليفتها الكردية، التي تصنفها تركيا، ارهابية، في المناطق السورية شرق الفرات. وفي حال تقهقر القوات الكردية، قد تضطر واشنطن الى تعزيز عديد جنودها، البالغ حاليا الف جندي، وهي عملية قد تضطر الاميركيين الى اللجوء الى الاردن، كممر بري وحيد والزامي، اذ ستغلق تركيا ابوابها في وجه الجنود الاميركيين. 
كذلك يتوقع المسؤولون ان تعمد انقرة الى المطالبة باغلاق قاعدة انجرليك، التي ترابط فيها قوات اميركية ومقاتلات، شرق تركيا. وتشير تقارير غير مؤكدة إلى ان اميركا احتفظت برؤوس نووية تكتيكية في هذه القاعدة في زمن الحرب الباردة. ومن غير المعروف ان كانت واشنطن لا تزال تحتفظ بهذا النوع من السلاح الاستراتيجي في القاعدة الاستراتيجية. 
والمواجهة مع تركيا ليست اميركية فحسب، اذ ان تسلم انقرة، المنظومة الروسية من شأنه ان يوتر علاقاتها مع اعضاء «تحالف الاطلسي»، الاوروبيين، وسط مواجهة مندلعة بين الاوروبيين والاتراك حول قيام انقرة بالتنقيب عن الطاقة في محيط جزيرة قبرص، التي تحتل تركيا جزءها الشمالي منذ العام 1974. 
ووسط التوتر المتصاعد، طالب بعض خبراء الاستراتيجية الدولية الاميركيين حكومتهم بالتروي قبل الاستغناء عن تركيا والسماح لها بالانضمام الى محور روسيا وايران. وفي هذا السياق، حذر والتر راسل ميد في صحيفة «وول ستريت جورنال»، من مغبة تحول التحالف مع تركيا عداء. 
الا ان خبراء آخرين اعتبروا ان سياسات اردوغان وضعت تركيا في موقع يجعل من الصعب التعاون معه. وأنقرة، التي تعمل على التقارب مع روسيا وايران لاستبدال اميركا واوروبا، ستجد نفسها ايضاً في مواجهة تحالفات اقليمية ليست سهلة، ففي المتوسط، يعاني الاتراك من نشوء تحالف متين بين اسرائيل ومصر واليونان وقبرص، ومع الدول العربية، تنحصر علاقات انقرة القوية بالدوحة دون غيرها، مع فتور علاقاتها مع بقية العواصم العربية. 
«مع تدهور الوضع الاقتصادي، يركب اردوغان حصان القومية كوسيلة للحفاظ على التأييد الداخلي»، يقول جايسون ابستين، رئيس «ساوث فايف ستراتيجي»، وهي شركة علاقة عامة تتمتع باتصالات واسعة مع انقرة. ويضيف: «مع ذلك، للعداء ضد اميركا حدود، ولا يمكن لتركيا ان تواجه عقوبات قاسية قد تفرضها الادارة والكونغرس». 
ويوضح ابستين، لـ «الراي»، ان «ترامب يفضل العمل مع تركيا وكل الدولة السنية في المنطقة للضغط على النظام الايراني وتقليص إمكانية استخدام القوة العسكرية ضد الملالي».

الثلاثاء، 16 يوليو 2019

يوم غرقت سيادة لبنان مع السفينة الإسرائيلية

واشنطن - من حسين عبدالحسين

في التاريخ أحداث تبدو صغيرة أحيانا، ولكنها تشكل منعطفات تاريخية أساسية. في العام 1969، حاولت حكومة لبنان فرض سيادتها على المليشيات الفلسطينية في لبنان للتوصل لتسوية معها برعاية الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. سافر الوفد اللبناني إلى القاهرة، وتأخر رئيس فتح الفلسطينية ياسر عرفات، ولم يحضر إلا بعدما أسقط الفلسطينيون مقاتلة هوكر هنتر عسكرية لبنانية، فبدا واضحا أن الجيش اللبناني غير قادر على الانتصار على عرفات أو فرض الإرادة اللبنانية عليه، فكانت "اتفاقية القاهرة" بين الطرفين.

والاتفاقية المذكورة فصلت بين دولة وحكومة لبنان، من ناحية، ودولة عرفات وميليشياته، من ناحية ثانية، فلم تحمّل إسرائيل بعد ذلك بيروت مسؤولية الهجمات الفلسطينية عبر الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية، بل راح الإسرائيليون يضربون معاقل الفلسطينيين، ويتفادون الالتحام مع دولة لبنان أو جيشه.

أخبرني يوما عميد في الجيش اللبناني من مشايخ آل دحداح، وهي عائلة مسيحية مارونية لبنانية عريقة، أنه كان آمرا لمنطقة الجنوب، وأنه كان يعاني من لا انضباطية أحد ضباطه، وكان اسم الضابط ميشال عون، رئيس لبنان اليوم. في أحد الأيام، صدرت أوامر سياسية إلى الدحداح بالرد على هجوم إسرائيلي على مواقع فلسطينية داخل لبنان. "رفعت استنفار قطعاتي إلى الحد الأقصى، واستهدفنا مواقع إسرائيلية بشكل مباشر"، قال الدحداح، وكان يوم يحدثني لواء متقاعدا. "بعد دقائق، أغارت إسرائيل على كل بطاريات مدافعنا، ودمرتها بالكامل".

كيف يمكن لأي جيش أو ميليشيا عسكرية لبنانية منافسة إسرائيل بدون غطاء جوي ضد التحكم الإسرائيلي الكامل بالسماء؟ من يعرف تاريخ الحروب العربية ـ الإسرائيلية، يعلم أن عبور مصر خط بارليف الإسرائيلي المحصن في قناة السويس، في العام 1973، كان سببه المظلة الجوية التي أمنتها منظومة سام السوفياتية للدفاع الجوي. ثم أصر الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد على نظيره المصري أنور السادات أن تتقدم القوات المصرية أكثر لرفع الضغط عن جبهة الجولان السورية، فأمر السادات قواته ـ على عكس نصيحة ضباطه ـ بالهجوم خارج مظلة سام، فاستعاد الإسرائيليون تفوقهم والأراضي التي خسروها، بل قضوا على الدفاعات المصرية بالكامل، وصارت القاهرة مفتوحة أمام الدبابات الإسرائيلية بقيادة الضابط، رئيس الحكومة فيما بعد، أرييل شارون، فرضخ السادات، وطلب هدنة، وفهم استحالة تفوق العرب على إسرائيل بلا تفوق جوي، وهذا مستحيل طالما أن أميركا هي أقوى قوة جوية في العالم.

لم تقرأ الميليشيات اللبنانية الموالية لإيران التاريخ. ربما هي قرأت تاريخ هزيمة الإمام الحسين في كربلاء في القرن الميلادي السابع، ولكنها لم تقرأ التاريخ العسكري للحروب العربية ـ الإسرائيلية. هكذا، أكمل "حزب الله" اللبناني حرب الميليشيات ضد إسرائيل من حيث توقف عرفات، على إثر حرب 1982.

وفي العام 1996، وبجهود رئيس حكومة لبنان الراحل رفيق الحريري، عاد "اتفاق القاهرة" إلى الحياة، هذه المرة تحت اسم "اتفاق نيسان"، وهو كان يقضي بتحييد دولة لبنان وجيشه عن مواجهات "حزب الله" مع إسرائيل، وهو تدبير بقي قائما حتى صيف العام 2006.

في حرب 2006، التي تصادف ذكراها الثالثة عشرة هذا الشهر، تفادت إسرائيل الالتحام مع الجيش اللبناني أو ضرب دولة لبنان أو مؤسساتها، إلى أن أغرق حزب الله السفينة الإسرائيلية الحربية ساعر. يومذاك، عرفت إسرائيل أن "حزب الله" حصل على إحداثيات موقع السفينة من رادارات الجيش اللبناني البحرية، فدمرت إسرائيل كل هذه الرادارات. يومذاك أيضا، اعتبرت إسرائيل أن الفارق بين دولة لبنان ودولة "حزب الله" انتهى، وأن إسرائيل ستدمر لبنان، "شعبا وجيشا ومقاومة"، في أي حرب مقبلة. لهذا السبب، ولفداحة أي حرب ممكنة، تجمدت جبهة لبنان إسرائيل، وراحت إسرائيل تبحث عمّن يمكنه ضبط لبنان، فعاد الرئيس السوري بشار الأسد إلى الحياة وخرج من عزلته الدولية. لكن الأسد انهار في حربه على شعبه، فصار لبنان في عهدة إيران، وصار جنوب سوريا ساحة مفتوحة لحرب قائمة بين إسرائيل وإيران.

بإغراقه السفينة الحربية الإسرائيلية ساعر، أغرق "حزب الله" سيادة لبنان، وأعلنه محافظة إيرانية، وربط مصيره بمصير إيران، فراحت أميركا تفرض عقوباتها على الاثنين سوية. وحده قطاع المصارف في لبنان يسعى للنجاة من الغرق والحفاظ على ارتباطه بالشبكة المالية الدولية، التي تديرها الولايات المتحدة، مع ما يعني ذلك من نأي القطاع اللبناني المصرفي بنفسه عن إيران و"حزب الله"، وعن نشاطاتهما المالية.

لكن إيران وحلفاءها في لبنان لا يستسيغون استقلال القطاع المصرفي اللبناني، فراحت الدعاية الإيرانية تحرض ضد هذا القطاع، وتتهمه بالعمالة، فإيران تتصور أنه يمكنها مواجهة "الاستكبار" الأميركي والعقوبات بإقامة منظومة اقتصادية إقليمية، أو ما تسميه "اقتصاد المقاومة"، وتعتقد أنها بمساعدة الصين وروسيا، وبعض أوروبا، تستطيع التفلت من القوة الأميركية. لكن حتى الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بالكاد يمكنها حماية نقدها الوطني بدون الحظر الذي تفرضه على خروج النقد الأجنبي من الصين. أما روسيا، فنقدها، كما إيران، يفقد قيمته، وإذا ما انخرطت مصارف لبنان في "اقتصاد المقاومة"، فالغالب أن الليرة اللبنانية ستعاني، وهي أصلا بدأت تهتز في السوق السوداء.

لا سيادة في لبنان، ولا حتى "اتفاقية قاهرة أو نيسان" لتحييد دولة لبنان ومصارفه عن حروب العالم، طالما أن سيادة لبنان ليست حصرية لشعبه، على عادة الدول، بل يشاركه فيها الجيش و"المقاومة"، وهو ما أدى إلى غرق السيادة اللبنانية مع ساعر، التي سحبها الإسرائيليون إلى مرفأ حيفا، لتخرج من الحرب. أما لبنان، فلا يبدو أنه سيخرج من حرب لا ناقة له فيها ولا جمل.

الاثنين، 15 يوليو 2019

الأميركيون يرون أن غياب إيران أثبت ضعف روسيا في شمال سورية

واشنطن - من حسين عبدالحسين

شهدت نهاية يونيو الماضي، تطورين دفعا المسؤولين والخبراء في العاصمة الاميركية إلى اجراء عملية تقييم شاملة للوضع في سورية، وهي عملية تمحورت حول محاولة الاجابة عن سؤال وحيد: هل انتصر الرئيس بشار الأسد في الحرب السورية؟ 
التطوران تمثلا في قيام المقاتلات الاميركية والاسرائيلية، في يوم واحد، بشن غارات ضد اهداف في الاراضي السورية على نحو غير المعتاد. أميركا استهدفت موقعا في إدلب في الشمال، تعتقد انه يعود الى مقاتلين منضوين تحت لواء تنظيم «القاعدة»، الذي تصنفه واشنطن إرهابيا. أما في الجنوب، فهاجمت المقاتلات الاسرائيلية، بضراوة لم تقم بها منذ مايو 2018 حسب تقديرات الخبراء، مواقع يعتقد الاسرائيليون انها تعود لـ«الحرس الثوري الايراني»، والميليشيات التابعة له، ومنها «حزب الله» اللبناني. 
وكانت روسيا أعلنت الشمال السوري منطقة مغلقة جوياً على أي مقاتلات غير روسية او سورية، إلا ان الاختراق الاميركي مثّل ضرورة أجبرت الاميركيين على تسديد ضربتهم من دون طلب اذن مسبق من الروس، وبالاكتفاء بأخطار قبل عشر دقائق من الغارة. كذلك في الجنوب، أخطرت اسرائيل الروس، قبل نحو ربع ساعة من غاراتها، وبقيت منظومة الدفاع الجوي التي زودتها موسكو الى دمشق «اس 300»، والمتمركزة في قاعدة مصياف، صامتة تتفرج، فيما راح الاسرائيليون يدكون المواقع الايرانية في الجنوب السوري. 
عكس التطوران ما تعتقده الولايات المتحدة انحسار سيطرة الأسد وسيادته على معظم سورية. ويقدّر الباحث في «معهد الشرق الاوسط» تشارلز ليستر، ان الأسد وحلفاءه يسيطرون على 62 في المئة فقط من إجمالي الاراضي السورية، فيما تسيطر اميركا وحلفاؤها على 28 في المئة، وتتحكم تركيا وحلفاؤها بالعشرة في المئة المتبقية. 
ومن علامات ضعف الأسد، حسب المتابعين الاميركيين، فشله في اجتياح الجيب الشمالي الواقع تحت النفوذ التركي، والذي يشمل محافظة ادلب وبعض اجزاء حلب. ويشير الخبراء الاميركيون الى ان الأسد عزز صفوفه شمالاً، وشن جولة من القصف الشديد شاركت فيها مقاتلاته والمقاتلات الروسية والدبابات والمدافع. لكن ورغم التفوق الناري الرهيب، لم تنجح قوات الأسد في احراز أي تقدم يذكر بعد 10 اسابيع من القتال ومشاركة تشكيلات النخبة، مثل «قوات النمر» والحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، بل ان القوات السورية والروسية خسرت مئات القتلى، وعشرات الدبابات والمدرعات. 
ويقول ليستر انه «لا دليل افضل من هذا على ان نظام سورية لا يتمتع بالاعداد المطلوبة لاستعادة السيطرة والاحتفاظ ببقية البلاد». 
ومما كشفه فشل روسيا والأسد في ادلب، ان الاعداد التي قدمتها ايران في الحرب السورية كانت حاسمة في القضاء على معارضين الأسد، وانه بلا طهران، لا يمكن للرئيس السوري ولا لموسكو، السيطرة على الجيب الذي الأسد عليه، منذ اندلاع الثورة ضد حكمه في العام 2011. 
ويعزو المسؤولون الاميركيون عدم مشاركة إيران في قتال ادلب الى اسباب متعددة، اولها ان لا أهمية استراتيجية للشمال السوري لدى الايرانيين، وان طهران تفضّل ارضاء انقرة، بعدم انتزاع محافظة ادلب منها، اكثر مما تعنيها صورة الأسد أو هيبة الروس. وتعود العلاقة الجيدة بين ايران وتركيا على طهران بفوائد جمّة، يتصدرها رفض انقرة الامتثال لكل العقوبات الاميركية المفروضة على ايران، ومساعدة الاتراك للجمهورية الاسلامية في اختراق عددا لا بأس به من هذه العقوبات القاسية. 
ثم ان اهتمام ايران في سورية ينحصر في الابقاء على خط طهران - بغداد - بيروت مفتوحاً، وهو ما يتطلب سيطرة إيرانية على وسط سورية، فضلا عن الاولوية الايرانية القاضية بإنشاء بنية عسكرية تحتية في المناطق السورية المحاذية لمرتفعات الجولان السورية التي تحتلها اسرائيل، وهو أمر تفترق فيه عن موسكو، صديقة الاسرائيليين، التي تحاول إقناعهم بأنها قادرة على ضبط الجنوب، وربما طرد ايران منه، في حال سعت اسرائيل لدى اميركا والغرب بفك العزلة الدولية عن الأسد، والافراج عن أموال اعادة الاعمار، والتي تقدر بـ 800 مليار دولار. 
ويتداول المسؤولون والخبراء الاميركيون في وضع المناطق السورية التي استعاد الأسد السيطرة عليها، ويشيرون الى انها مناطق تغرق في الركام، وغياب الخدمات، وغياب الأمن، وان جزءا لا بأس به من مقاتلي المعارضة ممن سلّموا سلاحهم في تسوية مع النظام، عادوا الى شن هجمات ضده، خصوصا بسبب اصرار الأسد على تجنيدهم في صفوف قواته، وهو ما يجبر الروس في الغالب على منع الأسد من اثارة السكان المحليين ضده بوقفهم ممارساته، التي يعتقدونها مثيرة للغضب، والتي تجعل من استمرار سيطرته على الاراضي التي تمت استعادتها عملية مكلفة أكثر، مالياً وبشرياً.

الأربعاء، 10 يوليو 2019

الدوحة وواشنطن تبرمان اتفاقات اقتصادية وعسكرية ضخمة

واشنطن - من حسين عبدالحسين

تمر العلاقة الاميركية - القطرية بـ«فترة جيدة»، حسب تعبير أحد المسؤولين الاميركيين، الذين قدموا انطباعاتهم عن زيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الى واشنطن ولقائه الرئيس دونالد ترامب، أول من أمس. 
من وجهة النظر الاميركية، اكتسبت زيارة الشيخ تميم أهمية من نواح متعددة، اقتصادية وعسكرية وديبلوماسية. في الشق الاقتصادي، تقدم الى الواجهة توقيع قطر مذكرة شراء خمس طائرات شحن من طراز «بوينغ 777»، بمبلغ اجمالي قدره مليار و700 مليون دولار، وهي صفقة اشار اليها ترامب، اثناء استقباله ضيفه القطر في المكتب البيضاوي. وادى تصريح ترامب حول «العقد الكبير» الى رفع سعر سهم الشركة الاميركية في سوق داو للأسهم المالية. 
من الناحية العسكرية، اثنى ترامب، علناًَ وفي اللقاءات المغلقة، على توسيع قاعدة العديد الاميركية في قطر. 
ومع ان الرئيس الاميركي، المعروف بعدم إلمامه بالتفاصيل، لم يقل اكثر من ان القاعدة مهمة لوجودها «في نصف الشرق الاوسط»، الا ان القيادة العسكرية الاميركية غالبا ما تثني على الدوحة لاستضافتها القاعدة الضخمة، التي تؤوي، منذ اسابيع، اربع قاذفات استراتيجية من طراز «بي 52» كانت واشنطن ارسلتها في حال اندلاع مواجهة عسكرية مع ايران. 
اما من الناحية الديبلوماسية، فتشيد ادارة ترامب، ووزارة الخارجية خصوصاً، بالمجهود الكبير الذي تقوده الدوحة لعقد حوار بين كابول وواشنطن، من ناحية، وحركة «طالبان»، من ناحية ثانية، وهي المفاوضات التي يقودها الديبلوماسي المخضرم زلماي خليل زاد، وتعقد ادارة ترامب الامال عليها للتوصل لانسحاب اميركي من افغانستان وانهاء اطول حرب خاضتها القوات الاميركية في التاريخ. 
واشارت مصادر في الادارة الاميركية إلى انه لم يتطرق الزعيمان الى الأزمة الخليجية. 
وخلال المحادثات، دعا الشيخ تميم، الرئيس الأميركي لزيارة قطر وقاعدة العديد. وأوضح أن زيارته لواشنطن تأكيد على القيم التي يتشاركها البلدان. 
وقال: «شراكتنا الاقتصادية تفوق 185 مليار دولار ونخطط لمضاعفة الرقم»، مضيفاً أن بلاده تخطط للاستثمار في البنية التحتية الأميركية. 
ووفقا لبيان صدر عن البيت الأبيض، فقد أبرمت الدوحة وواشنطن، الثلاثاء، 5 اتفاقات بحضور أمير قطر والرئيس الأميركي، هي: 
- اتفاقية بين الخطوط الجوية القطرية وشركة «بوينغ» لشراء 5 طائرات شحن من طراز «بوينغ 777». 
- اتفاقية بين الخطوط الجوية القطرية وشركة «غلف ستريم» للطيران لشراء طائرات. 
- اتفاقية بين شركتي الطاقة «قطر للبترول» و«شيفرون فيليبس» للكيماويات لتطوير مجمع عالمي للبتروكيماويات في قطر. 
- إعلان اتفاق في مجال الدفاع الجوي لتزويد قطر بأنظمة متعددة إضافية للدفاع الجوي من طراز «باتريوت» و«ناسام». 
- اتفاقية بين الخطوط الجوية القطرية وشركة «جنرال إلكتريك» لتوفير وصيانة محركات GEnx وGE9X.

الثلاثاء، 9 يوليو 2019

"جِنّ" نتفليكس يخترق المحظورات

حسين عبدالحسين

أثار المسلسل الأردني "جِنّ"، الذي أنتجته شركة نتفليكس الأميركية، عاصفة من ردود الفعل من جنود الأخلاق وحرّاس الفضيلة الأردنيين الذين طالبوا حكومتهم بحظره لأنه، حسب اعتقادهم، يقدم صورة مشوّهة وغير صحيحة عن المجتمع العربي الأردني الفاضل، ذي الغالبية المسلمة.

أحداث المسلسل تتمحور حول رحلة مدرسية قام بها طلاب ثانوية من عمّان إلى مدينة البتراء الجنوبية، واستحضر بعضهم، من حيث لا يدرون، الجِنّ، بنوعيه ـ الطيب والشرير ـ وراح فريقا الجِنّ يتسابقان للحلول في جسد الطلاب، الفريق الطيب يحاول إعادة الفريق الشرير إلى عالمه الماورائي غير المرئي، فيما الشرير يسعى للتحرر من قيده في الظلام، والذي امتد على مدى عصور.

ولأن الشخصيات هي من طلبة الثانوية، يتضمن المسلسل لقطات لطالب وطالبة يشبكان أيديهما، ويتبادلان القبلات، ويشاركان في حلقات طلابية فيها احتساء كحول وتدخين حشيشة الكيف. وفي المسلسل أيضا حوارات عن علاقات جنسية، أو محاولات لإقامتها، فيما يتضمن الحوار ألفاظا نابية على أنواعها.

أثارت هذه اللقطات والحوارات والإيحاءات حفيظة البعض في المجتمع الأردني، الذي يرى نفسه محافظا، عفيفا، لا كحول فيه ولا حشيشة، فقط صلاة، وصيام، وتعبّد، وغض أبصار.

لكن المسلسل واقعي إلى أقصى حد، ويعكس حقيقة المجتمع العربي المنفصم، الذي يهدي فيه الرجال عشيقاتهم الورود سرا، ويهدون شقيقاتهم الأشواك علنا، وكأن عشيقاتهم لستن شقيقات أحد. والمسلسل يعكس واقع مدارس الطبقتين المتوسطة والعليا، حيث يبدو التحرر من القيود أكثر منه في المجتمع، وحيث الحديث عن الحب والمصادقة والعلاقات قبل الزوجية معروف ومقبول. وحصر التحرر بالميسورين العرب ليس منصفا، فحتى في المجتمعات العربية المتزمتة، حب و"تنمير" (أي تبادل أرقام الهواتف) ونظرات، وتعارف، غالبه في السر، وبعضه مبني على قواعد دينية، مثل زواجي المتعة الشيعي والمسيار السني.

مجلة "المرأة الإماراتية" سألت بطلة المسلسل سلمى ملحس عن رأيها إن كان المسلسل سيغير من النظرة الغربية النمطية حول العرب وأساطيرهم حول الجِنّ، إذ ترتبط في مخيلة الغربيين عبارة "جِنّ" بمصباح علاء الدين والمارد الذي يخرج منه ليلبي طلبات سيده. تقول ملحس إنها تجيب أصدقاءها من غير العرب بسؤالهم: "هل سبق أن قابلتم عربا؟ نحن لسنا مختلفين، وعلى العالم أن يرى أننا مثل كل (الشعوب) الأخرى". ملحس على حق. لا يختلف العرب عن باقي الشعوب. فيهم المحافظون، والمتدينون، والعفيفون، وفيهم أيضا غير المحافظين وغير المتدينين وغير العفيفين، وفيهم مزيج من الاثنين، بعض من الدين وبعض من الدنيا، وحان الوقت أن يتوقف حرّاس الفضيلة، في الأردن وباقي الدول العربية، عن التظاهر وكأن العرب مجتمع متجانس يتطابق أفراده في المعتقدات، والأفكار، والأذواق، والتصرفات الاجتماعية.

"جِنّ" ليس المسلسل الأول الذي يعكس واقعا أصدق مما يحرص عليه صنّاع الصور النمطية المجتمع. مسلسل رائع آخر أنتجته نتفليكس هو الإسرائيلي "فوضى"، الذي تصور أحداثه عمليات الوحدة العسكرية الاستخباراتية الإسرائيلية المعروفة باسم "المستعربين"، وهي وحدة من إسرائيليين يتحدثون العربية بطلاقة، ويختلطون بالعرب في الأراضي الفلسطينية لتنفيذ عمليات اغتيال سرية.

بالكاد انتهى "فوضى" من عرض موسمه الثاني حتى تنطح أحد أشاوس "القضية" لمهاجمته في مقال في مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، وقال إن المسلسل لا يعكس صورة حقيقية عن الفلسطينيين، وأنه لا يصور الحواجز الإسرائيلية ومعاناة الفلسطينيين وانتشار الفقر بينهم. صديقنا الناقد يريد أن يصور مسلسل أحداثه عن الجاسوسية والاغتيالات ارتفاع معدلات الفقر بين الفلسطينيين.

مهارة "فوضى" أنه لا ينحاز إلى أي من الطرفين، الفلسطيني أو الإسرائيلي، بل يسعى إلى تصوير المأساة التي يفرضها العنف المتبادل على كل من الطرفين، لأن كليهما من البشر، يحبّون، يكرهون، يغارون، يتمردون على قياداتهم، وتتحول الأمور بينهم إلى ثارات شخصية، وإلى صداقات شخصية، وحتى حب عابر لطرفي الحرب. العبرة من "فوضى" أن العنف يقوّض الطرفين، وأنه يدمر حياة العائلات على الجهتين. إذن، البعد البشري هو أساس المسلسل، بدون رسائل سياسية معينة.

اختيار الجِنّ كمحور المسلسل غير مألوف بالنسبة للدراما الاجتماعية، ولكن لا بأس بالتنويع. ومن يعرف التاريخ يعرف أن للبتراء وأهلها الأنباط، الذين امتد عمرانهم ودولتهم إلى مدائن صالح شمال غرب السعودية، أساطير كثيرة تربطهم بالجِنّ، وأن من الأساطير ما يعتقد أن الجِنّ هم من "جابوا الصخر في الواد"، أي نقشوه، حسب الآية القرآنية، وأن منها ما يقول إن الجِنّ هم من بنوا هيكل سليمان، وحفروا آبار الماء التي كانت تروي "طريق حجّ زبيدة"، الذي يربط بابل العراقية بالمدينة الحجازية. وفي مدائن صالح السعودية، يرفض المتزمتون السعوديون مشاريع السياحة التي تعدها الرياض لهذه المناطق النبطية الرائعة تاريخيا، لاعتقادهم أن رسول المسلمين حذّر من سكن هذه المناطق الملعونة شعوبها إلهيا.

لا بأس في إغضاب حرّاس الفضيلة العرب، إن في البتراء الاردنية أو في مدائن صالح السعودية. "جِنّ" ينضم إلى المسلسلات الحديثة التي تصور الناس بأكثر صدق وواقعية ممكنة، وتحاول رصد مشاعرهم وتفاعلاتهم، من دون الالتفات إلى الصور النمطية المرسومة لمجتمعاتهم، فنحن بشر، ونحن أفراد، ويمكن لأشاوس "القضية" ولحرّاس الفضيلة الصراخ ما أمكنهم، لكن العالم ينفتح على بعضه البعض، ويتحاور، ويكتشف بعضه البعض، ولا يمكن لصراخهم أن يخفي الحقيقة خلف صور متخيلة.

الأحد، 7 يوليو 2019

دفع أميركي لـ«كبس زر» إنتاج «المقسومة»

واشنطن - من حسين عبدالحسين

وسط عطلة عيد الاستقلال الأميركي والاحتفالات التي تشهدها العاصمة الأميركية والولايات، قطع نفر من المسؤولين في إدارة ترامب إجازتهم لمتابعة أحد المواضيع الجيوستراتيجية التي يولونها أهمية كبيرة، مع تواتر تقارير عن قرب التوصل لاتفاقية بين الكويت والسعودية حول إعادة إنتاج النفط في المنطقة الحدودية بين البلدين.
وعلمت «الراي» أن الصياغة الجديدة لاتفاق الكويت والسعودية حول المنطقة المقسومة وصلت مراحل متقدمة، ومن المرتقب عقد اجتماع مشترك بين الجانبين لوضع اللمسات النهائية لإغلاق ملف منطقة العمليات المشتركة.
ومن شأن إضافة نصف مليون برميل يومياً (إنتاج المنطقة المشتركة) إلى سوق النفط العالمي تسهيل الاستغناء عن آخر الصادرات الإيرانية، التي كانت انخفضت إلى أدنى مستوياتها لتصل معدل 300 ألف برميل يومياً، بعدما كانت حققت نتائج قياسية على إثر التوصل للاتفاقية النووية، لتقارب مليوني برميل يومياً، من دون أن يؤثر إخراج إيران من السوق النفطية على سعر النفط العالمي.
وتسعى الديبلوماسية الأميركية منذ سنوات إلى حضّ الدولتين الجارتين، الكويت والسعودية، على استئناف إنتاج حقلي الوفرة والخفجي، المتوقف منذ 2014.
وتأتي المساعي الأميركية لزيادة إنتاج النفط عالمياً كجزء من استراتيجية أميركية ترغب في تثبيت السعر العالمي، وفي الوقت نفسه معاقبة الحكومات التي تعتبرها واشنطن «مشاغبة»، وفي طليعتها إيران وفنزويلا. 
وعلّق أحد المسؤولين الأميركيين بالقول إن واشنطن «لا ترى سبباً لاستمرار توقف المنطقة الحدودية (الكويتية - السعودية) عن الإنتاج… طالما أن معدات الإنتاج والطواقم حاضرة، والعلاقة بين الكويت والرياض ممتازة، وكل ما يتبقى هو كبس الزر الذي يعيد عملية الإنتاج إلى الحياة». 
وكانت منظمة أوبك للدول المصدرة للنفط توافقت على خفض صادراتها لتفادي انخفاض السعر العالمي والحفاظ على استقراره، وهو ما يعني أن لدى غالبية الدول المصدرة احتياطات يمكن رفد السوق بها في حال أي نقص ناجم عن اهتزازات سياسية، مثل مواجهة محتملة مع إيران أو اهتزاز أكثر في فنزويلا.

الثلاثاء، 2 يوليو 2019

'ألا ليت الاستعمار يعود يوما'

حسين عبدالحسين

مؤلمة كانت صورة الرجل السلفادوري الغارق وابنته، ذات السنتين، على ضفة نهر ريوغراندي، الذي يفصل المكسيك عن الولايات المتحدة. هي كصورة الطفل السوري الذي كان ممدا ميتا على شاطئ تركي بعد غرق أحد مراكب الموت التي تقل اللاجئين عبر المتوسط. قبلهما، كان فيديو لأب سوري يحمل ولده الصغير بيد، وكيس وضع فيه على الأرجح أثمن مقتنياته المتبقية له في هذا العالم، ويركض مع مجموعة من اللاجئين السوريين، عبر الحدود المجرية، هربا من حرس الحدود. كانت صحفية واقفة تلتقط الصور، ومدّت رجلها، فتعثر الأب ووقع مع ابنه.

الأولاد يثقون بأهلهم ثقة عمياء. الأولاد لا يدركون فداحة المشكلة ولا الحلول الممكنة، بل يعتقدون أن أهلهم عظماء، يعرفون كل شيء، يتدبرون كل شيء، ويصلون برّ الأمان. هكذا كنا في حرب لبنان الأهلية: نعرف أن القصف العشوائي مخيف، وأن المرور في طرق محفوفة بمخاطر وجود قنّاص، وأن الحاجز التالي قد يكون من دين مختلف، فيقتلنا بلا تردد. كنا ننظر في وجه أهلنا، صفراء، خائفة، نراهم يركضون، نركض، نراهم يختبئون في الغرفة التي يعتقدونها الأكثر أمنا في البيت، نختبئ.

ثم كبرنا، وصرنا أهلا، وصار أولادنا يثقون بنا في الشدائد كما كنا نثق نحن بأهلنا. لكننا صرنا نعرف اليوم، أنه قبل عقود كثيرة، لم يكن أهلنا يعلمون أننا وإياهم سنخرج من الأزمات أحياء. كانوا يتظاهرون بالقوة ليطمئنونا، وكنا نصدقهم.

في كل مرة أعيد مشاهدة ذاك اللاجئ السوري الذي يحمل ابنه راكضا ويتعثر برجل الصحفية الخسيسة، أحاول ضبط دموعي. لا أعرف ما سرّ هذا الفيديو. الأب يحمل ابنه وكل ما يملك ويركض. إلى أين؟ لا يعرف؟ في أي اتجاه؟ ما الفرق؟ الولد يثق بأن ابيه سيصل إلى الأمان. لكن الأب تعثر مع ولده وما تبقى له في ذاك الكيس. وقف الأب وما زال يحمل ابنه. هذه المرة، راح الأب يبكي كالأولاد! تلك كانت قمة الألم في المشهد.

أحرق بشار الأسد سوريا، ووقف ذاك الرجل على الحدود بين دولتين لا يعرف الفارق بينهما. في يديه ولده وما تيسر. وقع. ثم وقف، وكأنه لم يقف. الدنيا ضاقت به، وبكل السوريين الهاربين من جحيمهم، فراح يبكي، والأرجح أن كلهم بكوا، منهم في سرّهم، ومنهم في العلن. انتهت الإنسانية. بكى الأب، وعرف ابنه ما استغرقني عقود لأعرفه: أن الآباء يبكون، وأنهم لا يقدرون على كل شيء. وأنهم يحاولون، وأنه عندما تنتهي الإنسانية، يقعون، ويبكون، وقد يموتون على ضفة النهر وهم يحاولون إنقاذ أولادهم.

لحسن حظ ذاك الصبي، تحولت كبوته مع أبيه إلى قصة عالمية، ففتحت له أوروبا ذراعيها، وقالت له تمنى، وقال الصبي أنه يحب رونالدو، ففتح له نادي ريال مدريد الإسباني أبوابه، ودبر له لعبة كرة قدم بمشاركة رونالدو، وأبيه، وباقي النجوم.

لكن الحظ لم يبتسم لملايين الآباء والأمهات والأولاد السوريين، والسلفادوريين، والعراقيين، والصوماليين. الملايين ماتوا وهم يركضون، وهم يعبرون، وهم يسبحون في بحار الدنيا وأنهارها. كيف تتعامل الإنسانية مع هذه المآسي؟ كيف توقف الهرب والبكاء والموت؟

لم يتعامل غالبية البشر مع مأساة الغريق السلفادوري وابنته بعقلانية، بل تحركت فيهم الغريزة القبلية، ورفعوا أصابع الاتهام السياسي. اتهموا إدارة ترامب بالمسؤولية، وقالوا إنها إدارة عنصرية لا إنسانية. رد مناصرو ترامب أن السياسات نفسها مارسها سلفه باراك أوباما، الذي قام بترحيل من اللاجئين غير الشرعيين ضعف عدد من رحلّهم ترامب.

في العالم 260 مليون مهاجر، من الشرعيين وغير الشرعيين، ممن يعيشون في أراض غير أوطانهم، حسب تقديرات الأمم المتحدة، والرقم في ازدياد مضطرد. الهاربون إلى الولايات المتحدة غالبهم من ثلاث دول من أميركا الوسطى هي السلفادور وهندوراس وغواتيمالا، وهي دول تعاني من انهيار حكوماتها، وتحولها إلى دول فاشلة، على طراز فنزويلا: معدلات جريمة عالية، وتضخم، وفقر، وفساد حكومي، وانفلات على كل الصعد. مجموع سكان هذه الدول الثلاثة يبلغ 25 مليون نسمة، ولو هاجر ثلثهم إلى أميركا، قد يؤدون إلى اهتزاز في الداخل الأميركي الذي يحاول التعامل مع قرابة 40 مليون أميركي يعيشون تحت خط الفقر، من أصل 325 مليونا في البلاد.

ومثل أميركا التي تحاول ضبط سيل المتسللين إليها، تعطي أوروبا تركيا مئات ملايين الدولارات سنويا حتى تقوم الأخيرة بالحد من هجرة اللاجئين السوريين، فبنت تركيا سورا حدوديا مع سوريا يبلغ طوله 800 كيلومترا، وقام حرس الحدود فيها بقتل 400 من السوريين ممن حاولوا التسلل إليها.

الدول المستقرة يمكنها استيعاب بضعة ملايين المهاجرين سنويا، بمن فيهم اللاجئين. لكن المعدلات الحالية تشير إلى ارتفاعات أكبر بكثير، ما من شأنه تهديد الدول المضيفة، والتسبب بقيام أحزمة بؤس وفقر حول المدن، وهو ما يرفع من معدلات الجريمة.

أما الحلول البديلة، فتكمن بقيام الحكومات المستقرة بالتدخل في الدول الفاشلة، مثل سوريا وفنزويلا، حتى لو عسكريا، والإطاحة بالحكومات الفاسدة، ورعاية قيام حكومات أرشد، والمساعدة في تنظيم انتخابات وحماية الحريات، وكلها عناصر تسمح بنمو الاقتصاد، وتاليا انخفاض الفقر والجريمة، وبقاء السكان في دولهم.

لكن الخطاب الخشبي المعادي للإمبريالية، بما فيه داخل أميركا، لا يسمح بذلك، بل يصرّ على حق تقرير المصير، وترك الناس تحكم نفسها. يرحل الاحتلال الأجنبي، أو الاستعمار، أو الانتداب، فيلحقه مواطنو الدول التي تركها، ويشتكون من إقفال مستعمريهم السابقين أبوابهم، وكأن لسان حالهم يقول: ألا ليت الاستعمار يعود يوما، فأخبره بما فعل الحكم الوطني، والكرامة الوطنية، والعنفوان.

كامالا هاريس... الوجه الديموقراطي الصاعد للرئاسة

واشنطن - من حسين عبدالحسين

أثبتت استطلاعات الرأي ما سبق أن أجمع عليه الخبراء والإعلاميون الأميركيون، على أثر أول مناظرتين بين المرشحين الديموقراطيين للرئاسة، لناحية ان السناتور الديموقراطية عن ولاية كاليفورنيا والمرشحة للرئاسة كامالا هاريس هي التي سرقت الاضواء، فارتفع رصيد شعبيتها، لتحل في المركز الثالث الى جانب زميلتها السناتور الديموقراطية عن ولاية ماساشوسيتس اليزابيث وارن، بواقع 12 نقطة مئوية لكل منهما. 
وحافظ نائب الرئيس السابق والمرشح للرئاسة جو بايدن على صدارته في استطلاعات الرأي بين الديموقراطيين، على الرغم من ادائه الضعيف في ندوة الاسبوع الماضي، خصوصا امام هجوم هاريس عليه، فانخفضت شعبيته من 38 الى 33 في المئة. أما السناتور الديموقراطي عن ولاية فيرمونت، والمرشح للرئاسة للدورة الثانية على التوالي بيرني ساندرز، فحافظ على رصيد 19 في المئة، قبل الندوة الرئاسية وبعدها، وفي الوقت نفسه على المركز الثاني. 
المرشح الخامس، والذي أبلى بلاء حسنا في الندوة الرئاسية، والذي يعتبر من الوجوه الصاعدة مثل هاريس، على الرغم من وقوف رصيده الشعبي على 6 في المئة، هو عمدة مدينة ساوث بند، في ولاية انديانا في الوسط الغربي، بيت بوتيجيج، واصل اسم عائلته بو دجاج، التي هاجرت من مالطا. وبوتيجيج يبلغ من العمر 38 عاماً، وهو من اصغر المرشحين الديموقراطيين، ومن خريجي جامعة هارفرد المرموقة، وسبق ان خدم في الجيش وقاتل في افغانستان. 
الا انه من المبكر اعتبار ان الفائزين الاكبر من أول جولة ندوات، أي هاريس وبوتيجيج، سيتصدران السباق حتى نهايته. 
في المواقف السياسية، يقف بايدن وبوتيجيج في صفوف يسار الوسط. بايدن رشح نفسه على اساس رصيده كنائب باراك اوباما، ووعد باستكمال برنامج الرئيس السابق ورؤيته. اما بوتيجيج، فاللافت فيه رفضه الانصياع للشعارات الشعبوية التي يطلقها اليسار المتطرف، مثل تحويل النظام الصحي بأكمله الى نظام رسمي ترعاه الدولة، ومنع شركات التأمين الخاصة. كذلك، يعارض اقتراحات إلغاء الديون التي يراكمها خريجو الجامعات الاميركية لسداد اقساط تعليمهم الجامعي، مع ان بوتيجيج نفسه يعاني من ديون جامعية. 
أما من نقاط الضعف التي تلاحق مرشحي يسار الوسط بايدن وبوتيجيج، فمنها تقدم بايدن في السن، اذ يبلغ 76 عاما من العمر، وهو سيكون في الـ78 من عمره لدى دخوله البيت الابيض، في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية المقررة العام المقبل. اما بوتيجيج، فصغر سنه قد يعيق طموحاته الرئاسية، التي قد يعيقها - وربما لا يؤثر فيها بل يعزز فرص انتخابه - كونه من مثليي الجنس ومن المقترنين برجل آخر. 
في اليسار المتطرف، يقف كل من ساندرز ووارن، وهما يقدمان برنامجا للتغيير الجذري، مثل تحويل الرعاية الصحية حكومية بالكامل، وإلغاء كل ديون الطلبة الجامعيين، وتسديد تعويضات لسليلي العبيد من الافارقة الاميركيين عن استعباد اجدادهم. على ان ساندرز يعاني من عائقين، الاول سنه المتقدم، الذي يعني انه سيكون في عمر 80 لدى دخوله البيت الابيض، وهو ما يجعل منه اكبر رئيس يتسلم الحكم في تاريخ البلاد، والثاني ان ساندرز خسر بريقه الذي تمتع به في حملة العام 2016، يوم كانت افكاره لا تزال تبدو جديدة ثورية وغير معروفة من قبل. اما وارن، فحظوظها في نيل الترشيح وازنة، خصوصا في حال انسحاب ساندرز لها، اذ هي تقضم من شعبيته رويداً رويداً. 
وترشيح وارن يعني انتصار الجناح المتطرف يساريا داخل الحزب الديموقراطي، وهو ما يجعل حصول مرشح الحزب للرئاسة على اصوات الوسطيين، الذين يتنافس عليهم الحزبان عادة، امرا عسيرا، ويعزز من فرص بقاء ترامب في الرئاسة لولاية ثانية. 
بين اليسارين، الوسطي والمتطرف، تبرز هاريس، التي يعيبها وضوح المواقف، اذ هي تتبنى برامج انتخابية لا تلبث ان تتراجع عنها، مثل اعلانها تبني تأميم الرعاية الصحية، مرتين، والتراجع عن الأمر في كل مرة. وهاريس هي ممن يغيرون مواقفهم بحسب الرأي السائد، وهي لذلك، تتبنى مجموعة من الشعارات التي تندرج تحت مبدأ «سياسات الهوية» العرقية. 
وهاريس تتصرف وكأنها من الافارقة الاميركيين، في محاولة لحصد اصواتهم، رغم انها ليست منهم، فوالدها هاجر من جامايكا، ووالدتها مهاجرة من الهند. أما زوج كامالا، فهو من الاميركيين البيض. كذلك تسعى هاريس لتصوير نفسها على أنها نشأت في عائلة عاشت في فاقة وعوز، على الرغم من ان والدتها بروفسيورة جامعية، ما سمح للعائلة بعيش كريم ورغيد. 
السباق الرئاسي ما زال في بداياته داخل الحزب الديموقراطي لاختيار مرشح لمواجهة الجمهوريين ومرشحهم الرئيس دونالد ترامب. من المبكر الحكم على استطلاعات الرأي واداء المرشحين، فالارقام قد تتغير بشكل جذري، فيصعد من هم في المراتب الدنيا الى الصدارة، على حساب المتصدرين. لكن النتائج الاولية تشير الى ان السباق بدأ يأخذ شكله، وأن المرشحين الخمسة المذكورين أعلاه قد يحافظون على صدارتهم في السباق الذي يضم حالياً 24 مرشحاً.

الاثنين، 1 يوليو 2019

«ارتجالية» ترامب في السياسة الخارجية ترهق الحكومة الأميركية

واشنطن - من حسين عبدالحسين

فيما كان الديبلوماسيون الأميركيون يستعدون للمشاركة في سلسلة من اللقاءات التي كان سبق ان طلبوها من نظرائهم في العواصم الأوروبية، واعدوا «نقاط كلام» تؤكد ان الشركة الصينية للاتصالات تشكل خطرا على الأمن القومي للولايات المتحدة وأوروبا بسبب ارتباطها بالجيش الصيني والاستخبارات، أدلى الرئيس دونالد ترامب بتصريح قال فيه انه لا يعتقد ان «هواوي» تشكل خطرا أمنياً، وهو ما نسف ستة أسابيع من المجهود الديبلوماسي الأميركي المضني لتسويق سياسة مقاطعة الشركة الصينية. وقالت مصادر في الإدارة الأميركية لـ«الراي»، إن «استدارات ترامب في الديبلوماسية تشكل واحدة من اكبر التحديات للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، ولمصداقيتها، وتاليا للأمن القومي برمته». 
وأشارت إلى أن استدارات ترامب الدولية متعددة وكثيرة، ان في المفاوضات التجارية مع الصين، أو في المفاوضات النووية مع ايران وتعزيز الحشود العسكرية الأميركية في الخليج. 
ويقول المسؤولون، بامتعاض، إنه يصعب القيام بديبلوماسية «الترقيع وإصلاح الهفوات وتبرير الاستدارات». 
وسبق للرئيس الأميركي أن أعلن أن «هواوي» تشكل خطراً، وتوعد الصينيين بفرض تعرفات جمركية ما لم يتم التوصل معهم الى اتفاقية تجارية على اسس جديدة. لكن أثناء مشاركته في قمة العشرين في أوساكا اليابانية، التقى ترامب نظيره الصيني شي جينبنغ، وقال ان «هواوي» ليست خطراً على أميركا، وانه لا ينوي فرض تعريفات جمركية بل يود التفاوض، وهذه استدارة مقارنة بمواقف ترامب السابقة. 
هكذا، راح الديبلوماسيون الأميركيون يعملون على إلغاء مواعيدهم الأوروبية، وصار المطلوب منهم شرح سياسة ترامب الجديدة المناقضة لسياسته السابقة. 
ومثل الصين، قبلها في الخليج، رفع ترامب سقف المواجهة، واعلن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية النووية مع ايران، واوعز بوضع الحرس الثوري الإيراني على لائحة التنظيمات الإرهابية، ووافق على إرسال قاذفات استراتيجية وتعزيز القوة البحرية في الخليج ردا على تقارير استخباراتية أشارت إلى قيام إيران بالاستعداد لسلسلة هجمات، وراح يتوعد بتدمير إيران بالكامل... 
ثم، بين كل تصريح حربي وآخر، كان ترامب يطلق تصريحات عن انتظاره الإيرانيين واستعداده للتفاوض معهم من دون شروط، ولم يتراجع الا بعد ان سمع تصريحات من طهران اتهمه فيها مسؤولون بانه «مريض نفسيا»، وهو ما اثار حفيظته، وخفف من اندفاعته في اتجاه مفاوضات كيفما اتفق مع الإيرانيين. 
ومثل ارتجاليته في ملفي الصين وإيران، كذلك تجاه كوريا الشمالية، التي تواعد ترامب للقاء زعيمها و«إلقاء التحية عليه» في تغريدة، من خارج جدول الأعمال أو سياق الديبلوماسية بين البلدين. وكانت الديبلوماسية حول استغناء بيونغ يانغ عن اسلحتها النووية وصلت طريقا مسدودا حملت وزير الخارجية مايك بومبيو على الخروج من آخر جولة مفاوضات من دون نتائج، وإبلاغه البيت الأبيض أن على واشنطن انتظار أن تعود بيونغ يانغ إلى المفاوضات، وإلا، لا حاجة للمزيد من الاستعراضات الديبلوماسية معها. 
لكن ترامب، الذي يعشق الكاميرات، رأى فرصة إعلامية ضخمة للقيام بزيارته «التاريخية» الى الحدود بين الكوريين، الشمالية والجنوبية، فالتقى كيم، لا للمصافحة وإلقاء التحية فحسب، بل عقد لقاء تناول فيه الزعيمان شؤونا تتعلق بتحسين العلاقات، على اعتبار أن كوريا الشمالية ستتخلى عن النووي وتنخرط في المجتمع الدولي. لكنه حديث، حسب المصادر الأميركية، سابق لأوانه، ولا مبرر للانخراط فيه أصلاً، طالما أن بيونغ يانغ لم تصدر اشارات تشير الى نيتها الاستغناء عن النووي. 
هو رئيس متعب لمساعديه وديبلوماسييه. إلمامه بالتفاصيل شحيح، ومعلوماته حول الدول والشؤون الدولية أشح. يتصرف وكأنه يقوم بإنتاج دعايات للتلفزيون، فيجبر الحكومة على اللحاق بما يقوله والتظاهر انه يعبر عن سياسات الدولة، فيما هي سياسات ليست موجودة، وأقصى ما يمكن المسؤولين القيام به هو إصدار بيانات والسعي للتظاهر وكأن ما يعبر عنه ترامب هو نتيجة سياسات مدروسة وناجزة، وهي ليست كذلك.

Since December 2008