الثلاثاء، 27 ديسمبر 2022

جنود الرب في دولة حزب الله

حسين عبدالحسين

انشغل اللبنانيون بسطوع نجم مجموعة جديدة من الناطقين باسم الله، مسيحيين هذه المرة، يسمون أنفسم جنود الرب. التقارير اللبنانية تشير الى أن نواة المجموعة تشكلت من مساجين سابقين عملوا حراسا لمصارف لحمايتها من غضب اللبنانيين الذين أحرقوا وكسّروا مصارف بسبب افلاسها وضياع جنى عمر كثيرين. 

كما تشير التقارير الى أن عديد المجموعة يصل الى 300 عنصرا، يستعرضون أعدادهم في الشوارع من حين لآخر وهم يرتدون قمصانا سوداء رسموا عليها صليبا ذي أجنحة. ويبدو أن جنود الرب هم الذين تصدوا، قبل عام، لمتظاهري حزب الله الذين عرّجوا على حي عين الرمانة المسيحي في طريق عودتهم من تظاهرة ضد العدالة لضحايا انفجار المرفأ، فاندلعت اشتباكات مسلحة أدت لوقوع قتلى.

على أن أبرز وجوه ”جنود الرب“ يرفضون وصفهم بميليشيا، ويصرّون أنهم مجموعة دعوية غير مسلحة. لكن التنظيم شبه العسكري والقمصان السود تشبه بدايات صعود ميليشيات النازية والفاشية في أوروبا، وحتى بدايات صعود أحزاب لبنانية تمثلت بالفاشية وتسمت بأسمائها، مثل ”الكتائب اللبنانية“ التي بدأت رحلتها كمجموعة قبضايات تشتبك بالعصي والحجارة مع خصومها، ثم تحولت الى ميليشيا ساهمت في تدمير لبنان أثناء حربه الأهلية. 

هذه المرة، خصوم ”جنود الرب“، أي ”حزب الله“ الشيعي المسلم، أقوى بما لا يقاس من نظرائه المسيحيين، والأرجح أن لدى أجهزة استخبارات الحزب ومخابرات الجيش اللبناني، التي يسيطر عليها الحزب كذلك، ملفات وصور وأسماء جنود الرب كلهم، وقد يكون عدد المخبرين بين صفوف ”جنود الرب“ أكثر من الجنود أنفسهم.

قد يلجأ ”حزب الله“، على عادته، الى تضخيم خطر ”جنود الرب“ لأسباب متنوعة، غالبا لاثارة الرعب في صفوف مناصريه الشيعة، كما لتبرير الابقاء على دويلته والميليشيا. وسبق لـ ”حزب الله“ في الماضي أن قام بتضخيم خطر داعش السنية في لبنان للأسباب نفسها ولتبرير اشتراكه في الحرب التي دمرت مدن السوريين على رؤس ناسها. وقام فعلا نوّاب سابقون بادعاء أن الولايات المتحدة تكدس الأسلحة في بكركي، في واحدة من نظريات المؤامرة الكاذبة الهادفة الى تلطيخ سمعة المسيحيين المعارضين لاستمرار وجود ميليشيا حزب الله.

جنود الرب هم "مجموعة أولاد" حسب التعبير اللبناني. على أن ما يخيب الآمال في هذه المجموعة هو كمية الضحالة التي تعاني منها. حتى أعتى مجموعات الزعران والقبضايات والميلشيات الفلسطينية واللبنانية التي تشكلت في لبنان على مدى القرن الماضي قدمت أفكارا تنظيمية أفضل، وان كانت أفكارا رديئة وبائسة ومستوحاة من تفاهات راحلين من أمثال المصري جمال عبدالناصر والسوري ميشال عفلق واللبناني انطون سعادة. هذه المرة، لا يقدم جنود الرب فكريا غير الرثاثة التي يعزونها الى نصوص دينية. 

ولأن "جنود الرب" أضعف بكثير من مواجهة "حزب الله"، فهم راحوا يستقوون على أضعف فئات المجتمع، خصوصا من مثليي الجنس. 

واستخدام الدين ذريعة للعنف والحرب هو سمة المجتمعات السابقة للحداثة. وفي الفكر السحيق أن من علامات التطويب الإلهي لملك ما هو انتصاره على خصومه. لذا حمل الملوك غالبا أسماء تفيد النصر، مثل سلوقس نقفور (اسمه يعني المختار المنصور) مؤسس الامبراطورية السلوقية الاغريقية في ايران والعراق والمشرق، والقادة في التاريخ الاسلامي كالحجاج (الحجة) الثقفي والمختار الثقفي (واسمه يعني المختار المنصور كذلك)، ومثلهم الخلفاء ممن حملوا ألقاب المنصور والمنتصر. كما صكّ غالبية ملوك الاغريق والرومان نقودهم باستخدام نقش النسر نايكي (نفس اسم الماركة الرياضية اليوم) وهو اله النصر الاغريقي، ومنه ينحدر رسم النسر الذي تتخذه دولا متعددة شعارا لها.

وفي الماضي، كانت الرهبنات جمعيات مقاتلة كذلك، وبها ارتبطت أساطير متعددة لأفراد آثروا الموت على التخلي عن دينهم، وفي طليعة هؤلاء سيرجيوس وباخوس. وسيرجيوس، أو جورج أو سركيس، كان يحمل سيفا أو صليبا ويمتطي حصانا، وتحدث من قبره بعد موته وقام بمعجزات، وكانت عبادته واسعة الانتشار بين العرب، حتى أن رسوما في الأردن تظهره وهو يمتطي جملا ويحمل صليبا. حتى القديس سمعان العمودي، الأكثر شعبية في المشرق والأناضول، تروي الأساطير المختلفة أنه نزل أحيانا عن عموده حيث كان يعيش متنسكا، للاشتراك في القتال مع هذه الجهة أو تلك.

لكن هذه الصور القتالية الدينية تابعة للقرون الوسطى. مع انتشار الحداثة، تبنت التنظيمات المسيحية أشكالا أكثر علمانية، فحزب الكتائب — الذي تشكل منتصف القرن الماضي — لم يعلن هوية مسيحية، بل استعاض عنها بقومية، وان يمينية دينية، فكان شعاره ”الله الوطن العائلة“. 

والتدين كان سبق أن طال ”حزب البعث العربي الاشتراكي“ بفرعه العراقي، الذي انقلب من علماني الى ديني متطرف، فتنظيم ”الدولة الاسلامية في العراق والشام“ (المعروف بداعش) تشكّل على أيدي بقايا أجهزة استخبارات صدّام ممن أبدلوا بذّاتهم الحزبية الزيتونية بسوداء، واستبدلوا شواربهم بلحى. لكن تهور هؤلاء العراقيين في استخدام العنف المطلق أودى بداعش كما سبق أن أودى بالبعث. 

موجة الأصولية الدينية في الشرق الأوسط بدأت شيعيا في ايران مع الثورة الاسلامية في 1979، وسنيا في السعودية مع استيلاء جهمان العتيبي على الحرم المكي في العام نفسه. في السعودية، قضى ولي العهد محمد بن سلمان على التطرف الديني، واعاد البلاد الى الاسلام المعتدل. أما ملالي طهران، فلم يفعلوا ذلك، وهو ما أدى لانفجار شعبي في وجههم على شكل تظاهرات شعبية عارمة ضد الحجاب والتدين، وهي تظاهرات تحولت للمطالبة بالاطاحة بالنظام الاسلامي بأكمله. 

أما سبب وصول الأصولية الدينية الى سنة العراق ومسيحيي لبنان فسببه الخواء الفكري والاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يعم العراق والمشرق على مدى القرن الماضي، اذ في غياب الحكمة، يسود العنف ويختبئ خلف الدين، الذي يفترض أن يكون مصدر السلام والسكينة.

قد يكون الأفضل لو يدرك ”جنود الرب“ في لبنان أن انتصارهم على ”حزب الله“ لا يكون بالعنف، بل بالحكمة والعلم، وتمكين المسيحيين من الصمود في العراق والمشرق فكريا، واقتصاديا، واجتماعيا، فمن انتصر في عقله وروحه لا ينهزم في جسده، أو هكذا علّم يسوع أتباعه يوم علّقوه على خشبة.

الثلاثاء، 20 ديسمبر 2022

السعودية لسلام مع إسرائيل والفلسطينيون لكفاح مسلح

حسين عبدالحسين

سجّل الموقع الإنكليزي لقناة العربية السعودية سابقة بإجرائه مقابلة مع رئيس حكومة إسرائيل المنتخب بنيامين نتانياهو. ومع أن موقع القناة حرص على اخفاء هوية السائلين، ربما لحمايتهم من العواقب قانونية في الدول العربية التي تطبق القوانين البائدة لمقاطعة إسرائيل، إلا أن مقابلة وسيلة إعلام سعودية لرئيس حكومة إسرائيلي يؤشر الى رغبة سعودية في التوصل لسلام مع الدولة العبرية. وفي ختام المقابلة، تمنى نتانياهو الموفقية للسعودية.

حاول محاورو نتانياهو معرفة موقفه من مبادرة بيروت العربية للسلام، والتي تقضي بانسحاب إسرائيل من كل الأراضي العربية، أي الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان السورية، مقابل سلام شامل بين كل حكومة عربية ودولة إسرائيل. يوم أقرّت جامعة الدول العربية بالإجماع في 2002، نسف محور الرفض والشقاء والممانعة المبادرة بتضمينها بند عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى إسرائيل، لا إلى فلسطين المزمع قيامها. وربما لعلمهم أنها ولدت ميتة، سأل صحفيو العربية نتانياهو إن كان يوافق على اعتبار المبادرة منطلقا لمفاوضات سلام جديدة، وذكّروه أن السعودية كررت أنها لن توقع سلاما قبل قيام دولة فلسطينية.

أبدى نتانياهو مرونة عالية، واعتبر كل المواضيع، مثل ترسيم الحدود مع الفلسطينيين أو مع لبنان، تفاصيل صغيرة. المهم، حسب نتانياهو، هو اعتراف الفلسطينيين بدولة إسرائيل. لكن "منظمة التحرير الفلسطينية" سبق أن اعترفت بإسرائيل. 

ما لم يقله نتانياهو صراحة هو أن الاعتراف الفلسطيني الذي تنشده إسرائيل من الفلسطينيين، والعرب عموما، هو الاعتراف بأن إسرائيل دولة يهودية، أو أن السيادة تبقى في أيدي اليهود في دولة إسرائيل. هذا هو الهدف الأساس للصهيونية أصلا: سيادة يهودية وعدم تسليم مصير اليهود لأي كان من غير اليهود بسبب تجارب الاضطهاد التي عاشها اليهود على مدى الألفيتين التي فصلت بين طرد الرومان لهم من القدس وحوض الأردن، وإعلان قيام دولة إسرائيل في 1948.

اعتراف العرب بالسيادة اليهودية يعني أن يتخلى العرب عن حلم أن يصبح عدد العرب الإسرائيليين، الحاليين واللاجئين الذي يطالب الفلسطينيون بعودتهم، أكثرية سكانية في إسرائيل. وقتذاك يمكن للعرب انتزاع السيادة في إسرائيل من أيدي اليهود، وتحويلها الى دولة فلسطين. ربما يعتقد بعض العرب أن حلمهم هذا سر، لكن إسرائيل تعرفه منذ يوم تأسيسها، وتعتبر أن لا سلام بدون اعتراف الفلسطينيين بالسيادة اليهودية، وأنه لا يمكن للفلسطينيين استخدام عودة اللاجئين كحصان طراودة لتقويض هذه السيادة.

بعض العرب من غير الفلسطينيين، كما في السعودية، يبدو أنهم صاروا يدركون عبثية الإصرار على سيادة عربية في إسرائيل تتحكم باليهود، وصاروا يعرفون أن العناد الفلسطيني لا يؤدي إلا إلى تأخير العرب، واعاقة نموهم اقتصاديا، وفكريا، واجتماعيا فحسب، بل يؤخر اندماجهم في الاقتصاد العالمي وسباقهم للحصول على حصة من هذا الاقتصاد المبني على المعرفة.

الفلسطينيون وحدهم لا يبدو أنهم يعرفون، أو يكترثون، لتخلّف العرب عن العالم. ويبدو أن هؤلاء يصرّون على ما كان أساسيا في الماضي وصار اليوم ثانويا، مثل ملكية الأرض والسيادة عليها، في وقت صارت اقتصادات المعرفة، التي لا تعرف حدودا، هي سر العيش الكريم للشعوب.

وفي وقت كانت السعودية تحرك مياه السلام الراكدة، كان الفلسطينيون يعيشون أوهام الوحدة العربية والالتفاف العربي المزعوم حول فلسطين في انتصارات منتخب المغرب في كأس العالم لكرة القدم في قطر.

ولأن الفلسطينيين يعيشون في عالم أوهامهم، أظهرت استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أن 55 في المئة منهم ترى أن مواجهة إسرائيل عسكريا والانتفاضة هما الحل الوحيد لكسر الجمود القائم، فيما أعرب 66 في المئة من الفلسطينيين عن معارضتهم حل الدولتين، على عكس ما تعلن منظمة التحرير والسلطة الفلسطينيتين. وكان لافتا، أنه على عكس ما يعلن فلسطينيو أميركا، الذين ينصبون أنفسهم ناطقين باسم الفلسطينيين، يرفض 71 في المئة من فلسطينيي الضفة وغزة دولة واحدة ثنائية القومية للعرب واليهود.

رفض غالبية الفلسطينيين لحل الدولتين وللدولة الواحدة الثنائية القومية، وتأييدها للكفاح المسلح والانتفاضة ضد إسرائيل، كلها تشي بأن الغالبية الفلسطينية تتمسك بالموقف الفلسطيني الأقدم، والقائل بمحاربة اليهود حتى طردهم واسترداد "كامل التراب" من النهر إلى البحر. 

من حق الفلسطينيين أن يتمسكوا بتدمير إسرائيل عسكريا وإقامة دولة فلسطين على "كامل التراب"، فهذا رأيهم وهذا مستقبلهم. لكن ليس من حق الفلسطينيين الطلب إلى باقي العرب والعالم الاصطفاف خلف مشروعهم الواهم، الغارق في الموت والدم والأسى، بلا نتائج واضحة ولا جدول زمني منظور. ما يريده هؤلاء الفلسطينيون هو صراع أجيال.

لكن من حق العرب أيضا أن لا يشاركوا الفلسطينيين هذه الأوهام الانتحارية، وأن يطلبوا خططا يمكن تحقيق أهدافها في فترة قصيرة، لا على مدى عصور، لأن الجسم العربي سيبقى مريضا طالما بقيت الأمور على ما هي عليه، وهو ما يضع العرب، مكرهين، أمام خيارين: إما البقاء في الشقاء، أو بتر العضو المريض للتعافي بدونه.

مصر والأردن والبحرين والإمارات والسودان والمغرب كلها بترت العضو المريض باختيارها مصلحتها القومية على أوهام وأحلام تدمير إسرائيل. السعودية، بدورها، تبدو ماضية في الطريق نفسه. 

طبعا لا تسعى السعودية لسلام مع إسرائيل لتؤذي الفلسطينيين، لكنها تسعى لسلام هو في مصلحة السعوديين، فإن انتصح الفلسطينيون ووافقوا على حلول معقولة تنهي شقائهم، وإن بدون سيادتهم على "كامل التراب"، يمكن انتظارهم أسابيع أم أشهر. أما إذا تمسكت الغالبية الفلسطينية بصراع الأجيال، كما هو الوضع حاليا، فلكل طريقه وخياراته التي تناسب مصالح ناسه وشعبه.

الثلاثاء، 13 ديسمبر 2022

العقل العربي

حسين عبدالحسين

"العقل العربي"، كتاب صدر في 1973 بقلم عالم الاجتماع اليهودي المجري رفائيل باتاي، الذي يختلط اسمه لدى بعض العرب مع رفائيل بطّي، والد الراحل فائق بطّي، السرياني الأرثوذكسي وأحد مؤسسي الصحافة اليومية العراقية. إبان حرب العراق، وزّع الجيش الأميركي على جنوده الكتاب، فاعترض البعض، مؤكدين أن اعتبار كل العرب عقل واحد، أو شخصية واحدة يعد تعميما وتبسيطا وعنصرية.

لكن علم الاجتماع مبني على تحديد طباع وتصرفات يشترك فيها أفراد المجتمع الواحد، وهذه الطباع معظمها اجتماعية، كالعادات والتقاليد. علماء كثيرون، كعالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي، دأبوا على فهم مساهمة الجماعي في صناعة الفردي. مثلا، يشعر الفرد بالطرب عند استماعه لأغان أو موسيقى من تراثه ولكن لا تطربه موسيقى شعوب لا ينتمي إليها. كذلك الأمر في خيارات المأكل والملبس وبعض العادات، كالصبر والانفعال، أو احترام الحيز العام أو عدمه. هذه خيارات فردية متأثرة بشخصية جماعية وعاداتها وطبائعها.

في كأس العالم لكرة القدم في قطر وبلوغ منتخب المغربي نصف النهائي، تجلّى عقم العقل العربي في الآفات التالية:

أولاً، عقدة النقص، والتي يستحضرنا فيها القول التالي للعزيز السوري الراحل صادق جلال العظم: "لقد تم صنع العالم الحديث دون مشاركة العرب أو حتى استشارتهم.. أُدخِلوا في نسيج العالم الحديث عنوة وإقحاماً وإلحاقاً. هذه الحقيقة هي مصدر العقدة النفسية الهائلة التي يعاني منها الفكر العربي". 

عقدة النقص هذه بدت جلية في حاجة العرب للظهور باستضافتهم بطولة رياضية يحسدونها وهم ليسوا منها، فتصرفوا كحديثي النعمة، وقاموا بشرائها واستضافتها لتعزيز شعورهم الذاتي أنهم كباقي الشعوب، فيما الواقع هو أن كرة القدم العربية تعاني من غياب مدارس وأكاديميات تنتج أجيالا من اللاعبين والمدربين والمنتخبات، على الرغم من "فلتات الشوط" بين البطولة والأخرى، على غرار منتخب السعودية أو المغرب أو تونس.

وانتصار المغرب حصل غالبا على أيدي أوروبيين من أصول عربية. المغربي الذي سجل ركلة الجزاء الحاسمة أشرف حكيمي هو من مواليد مدريد، ويلعب في نادي باريس سان جيرمان الفرنسي، وكذلك عدد كبير من اللاعبين المغاربة الذين لم يصقلوا مواهبهم في الدوريات، ولا في الأكاديميات العربية، بل في نوادي أوروبا. 

ثانياً، حب التباين للظهور. في العالم الذي صنعه الغرب وتعيش فيه الدول العربية كمستهلكة ولا تساهم في صناعة الأفكار ولا العلوم، إلا فيما ندر، يشعر بعض العرب أن عليهم التباين عن باقي العالم لإظهار شخصيتهم الفريدة وهويتهم. المشكلة هنا أن الفرادة التي يقدمها العرب قروسطوية تتضارب مع مفاهيم الحداثة وعصر الأنوار، خصوصا لناحية الحرية الفردية. 

لا ترى هذه الفئة من العرب أن تفوق الشعوب مبني على إطلاق عنان الحرية الشخصية والمبادرة الفردية. يعتقدون أن كل أمة، عربية أو فارسية أو غربية، هي جسد واحد متناسق يتطابق فيه الأفراد في الآراء والأذواق. المجتمع الغربي، حسب الاعتقاد العربي، منحل ويتبنى المثلية الجنسية ويحاول فرضها على باقي الشعوب. 

من نافل القول، أن الغرب ينقسم حول المثلية بين مؤيد ومعارض، وهو لا يشجع عليها، بل هو يشجع على الحرية، أي حرية تقبّل الخيار الجنسي للمثليين كما غيرهم. هكذا، تتحول مطالبة الغرب لقطر باحترام حرية المثليين إلى "فرض المثلية" على مجتمع عربي يخال أن المثلية غريبة عنه، وكأن أبو نؤاس، وخمرته، وغلمانه بدع يسعى الغرب لإدخالها على العرب.

وهكذا يتحول القمع إلى تراث عربي، وينغمس بعض العرب في صياغة قواعد سطحية، مثل أن "حرية الفرد تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين"، وكأن الحرية كمية محددة يتم تقاسمها. ثم يتباهى هؤلاء العرب أن قطر فرضت على العالم احترام التقاليد العربية، وكأنهم لا يدرون أن الصورة التي قدمتها قطر للعالم هي أن القمع هو تقليد عربي.

هذا لا يعني أن التقاليد العربية مصدر خزي، بل على العكس تماما. فبين العرب محبة وألفة وكرم ضيافة قلّ مثيلها بين شعوب العالم. وللعرب تراث ثقافي وموسيقي جميل، ومآكل وملابس واختراعات، كالقهوة والكاميرا، وهي القُمرة التي اكتشفها عرب الأندلس.

وبدا جميلا لما ارتدت الشعوب غير العربية الغترة والعقال، الزي العربي، على ألوان أعلام بلدانها، وكان يمكن لقطر إظهار الكرم العربي بالحرص على أن يتصرف زوارها وكأنهم في بيتهم، وأن يمارسوا مثليتهم أو غيرها، لا أن يتم فرض القيود — التي يفرضها العرب على أنفسهم — على زوار قطر. ويمكن استعادة أمجاد الأندلس بمحاولة تكرار حرية ناسه، ومساهماتهم الفكرية والعلمية للبشرية، لا التمسك بالفتح، والسيف، والحرب، والقمع وكأنها هي التراث العربي.

ثالثاً، النكاية. بسبب الشعور بالدونية، يعتقد بعض العرب أن العالم المتقدم يعاديهم، ويستهدفهم، ويسعى لإعاقة تقدمهم. عربية في أميركا كانت تشاهد نفس القناة التي كنت أشاهد مباراة المغرب وإسبانيا عبرها، قالت إن معلقي القناة التزموا الصمت التام بعد تسجيل حكيمي ركلة الجزاء التي أهلّت المغرب لربع النهائي (على اعتبار أنهم حاقدون على العرب والمسلمين فيما انتصار المغرب أسكتهم). في الواقع، لم يصمت المعلقون الأميركيون، بل راحوا يشيدون بنجاحات حكيمي المنحدر من عائلة متواضعة، إذ كانت والدته عاملة تنظيف ووالده بائع متجوّل في الشارع. 

على وسائل التواصل الاجتماعي، استعرض بعض العرب كل خيباتهم. هنا صورة للاعبي المغرب يسجدون في الملعب، مع أن صلاة المسلمين تقام في عموم المعمورة بدون أي اعتراض. هناك علم فلسطين وعبارة "فلسطين تجمع العرب"، فيما الواقع أن فتح وحماس، من أكبر التنظيمات الفلسطينية، لم يتواصلا منذ 2007. أما من تحمّس كثيرا، فاستعاد أمجاد الأندلس، مع أنه ماض استعماري استعبادي يعاديه كثيرون في العالم اليوم، وفي طليعتهم عرب العالم الغربي. لكن العرب يعادون استعمار الآخرين لهم ويمدحون استعمارهم للآخرين.

لن تقوم قائمة للعرب قبل أن يدركوا أن الحرية الفردية هي حجر زاوية نجاح الشعوب، وهي تتضمن حرية الرأي في دعم فلسطين أو في تفضيل إسرائيل عليها، وتتضمن حرية العبادة وخصوصيتها، لأن في المغرب مسيحيون ويهود، وحتى يفخر هؤلاء بمنتخبهم، لا يجوز أن يؤدي المنتخب صلاة الجماعة الإسلامية أمام الإعلام، بل يمكن للاعبين المسلمين إقامة صلاة جماعة للاحتفال بالانتصار في فندقهم فور عودتهم إليه. 

كذلك في الحرية، حرية الناس في اختيار ملبسها أو عريها، واختيار مأكلها ومشربها، مع كحول أو بدونه، واختيار تفضيلها الجنسي، مثلي أم متحول أم السائد المعروف أم كل هؤلاء سوية. 

الحرية التي انتزعتها أوروبا من فم الكنيسة هي التي سمحت بتطور الفلسفة والعلوم والصناعات. الحرية هي التي تسمح لروسي بابتكار محرك البحث غوغل في أميركا ولا تسمح له بذلك في بلده الأم. الحرية هي مفتاح الانتصارات، في كرة القدم، والعلوم، والتنظيم المجتمعي ،والعام. 

أما استضافة كأس العالم بعائدات النفط وفوز المغرب، ففلتات شوط وانتصارات على شكل فورات، تظهر بين الفينة والأخرى ثم تذوي، ويعود العرب الى شقائهم بسبب عقم عقل كثيرين منهم.

الثلاثاء، 6 ديسمبر 2022

الكويت في قبضة المتشددين الإسلاميين

حسين عبدالحسين

تواصل الكويت - الدولة العربية التي تصدرت لسنوات التصنيفات الدولية في حرية الرأي والفكر والإعلام -غرقها في مستنقع المتشددين الإسلاميين وخضوعها لهم.

آخر تجليات التحول الكويتي إلى "قندهار الخليج"، حسب التسمية المحلية تيمنا بقندهار الأفغانية التي تحكمها غالبية إسلامية متشددة، كان فرض وزارة الداخلية تغييرات على سباق ماراثون يقام سنويا، منذ 28 عاما، بطلبها إلى المنظمين منع الاختلاط بين الجنسين في السباق، وإلغاء الفقرات الغنائية والاستعراضات التي ترافقه.

وجاءت تعليمات وزارة الداخلية الكويتية إلى المنظمين بعد طلب من "لجنة الظواهر السلبية" البرلمانية، التي تعكف على فرض منهجها المتشدد وآراءها على الكويت، وعلى تقاليدها الاجتماعية المعتدلة، وعلى فعالياتها.

ولكن كيف تحولت دولة ذات تقاليد طويلة في الاعتدال والانفتاح إلى "قندهار الخليج"؟ الإجابة الأرجح تكمن في السياسة، حيث تعاني أسرة الكويت الحاكمة، آل صباح، من غياب قيادة موحّدة، وهو ما فتح الباب أمام صراع الأجنحة داخل الأسرة، في محاولة كل جناح لاقتناص منصب أمير البلاد، وهو منصب يتولاه عادة ولي العهد تلقائيا عند وفاة الأمير. لكن اختيار ولي العهد يتم بمشاركة "مجلس الأمة"، وهو ما يعطي حركات إسلامية متطرفة، مثل الإخوان المسلمين - العاملة في الكويت تحت اسم "الحركة الدستورية الإسلامية" (حدس) - قدرة على الانخراط في الصراع بين أجنحة أسرة أل صباح الحاكمة والمنقسمة على بعضها البعض.

تاريخيا، الغالبية في الكويت ناصرية، أي من مناصري رئيس مصر الراحل جمال عبدالناصر وتياره القومي العربي العلماني. القومية العربية في الكويت دفعتها للعب دور طليعي في مناصرة الفلسطينيين وقضيتهم، فياسر عرفات كان مقيما في الكويت، وقام مع مقيمين آخرين، وبدعم كويتي مالي سخي، بتشكيل حركة فتح، التي سيطرت فيما بعد على "منظمة التحرير الفلسطينية".

ظلّ الكويتيون يدعمون عرفات والفلسطينيين حتى اجتاح العراقي صدام حسين الكويت في 1990، فأيد عرفات والفلسطينيون صدام، وهو ما أغضب الكويتيين، فكان أول ما قاموا به بعد استعادة بلادهم طرد الفلسطينيين المقيمين بينهم، وخروج الكويت من محور "جبهة الرفض"، أي الديكتاتوريات العربية التي كانت ترفض السلام مع إسرائيل.

أدرك الكويتيون منذ اجتياح بلادهم أن مصلحتهم تقضي بالتحالف الوثيق مع الولايات المتحدة. لكن الكويتيين تمتعوا بحنكة كافية دفعتهم لتبني سياسة عدم انحياز في المواجهات الإقليمية، على الرغم من صداقتهم الوطيدة مع السعودية وأميركا. كذلك وقفت الكويت بعيدة عن الصراع العربي الإسرائيلي، وتفادت الشعبوية، والتزمت مواقف الجامعة العربية، ذات البيانات الخشبية، حول حل الدولتين. ولم يكن مستغربا أن يخرج بين الحين والآخر أصوات كويتية تدعو لسلام وتطبيع مع إسرائيل، من دون أن تتعرض هذه الأصوات لأذى.

الحياد الإقليمي الكويتي وتفادي الشعبوية قدما مساحة واسعة للحرية في الكويت، حيث كان ممكنا انتقاد أي كان أو أي شيء ما عدا انتقاد رمز البلاد، أي الأمير، وهذا قانون معقول. حتى رئيس الحكومة، وهو عادة من الأسرة، لم يسلم من استجوابات النواب وانتقادات الإعلام القاسية.

لكن خلل ما حدث. بدأ الأمير الراحل المحنك صباح الأحمد يتقدم في السن، واندلعت معركة خلافته، وشمّ الإسلاميون رائحة دم في الماء، فباشروا هجماتهم ضد نظام الحكم بأكمله، وتحالفوا مع قبائل وناشطين مستقلين للإطاحة بالأسرة واستبدالها بجمهورية، في الغالب إسلامية.

لم يتردد الأمير عن المواجهة، فأقام تحالفا مع أعرق الأسر الكويتية، ورمى من اعتدى عليه كلاميا إما في السجن أم في المنفى، وعدّل القانون الانتخابي لمنع قيام محادل انتخابية.

لكن إجراءات الأمير الراحل لم تكن كافية، ما اضطره للاستعانة ببعض الشعبوية لإسكات المتطرفين الإسلاميين. ولأن لا علاقات للكويت مع إسرائيل، ولأن معاداة إسرائيل تبدو مجانية، ولأنه يمكن الاستعاضة عن معاداة الإمبريالية (خصوصا الولايات المتحدة التي تحتفظ بقواعد عسكرية في الكويت) بشتم إسرائيل، أوعز الأمير صباح لحلفائه بانقلاب في الموقف الكويتي من لا مبال تجاه القضية الفلسطينية إلى موقف متطرف، كما بدا واضحا في مواقف الكويت أثناء عضويتها في مجلس الأمن الدولي قبل أعوام.

خلف صباح الأحمد شقيقه نوّاف، العليل، وصار الحكم فعليا في أيدي ولي عهده مشعل، الذي يبدو أنه ارتأى أن يواصل الشعبوية في موضوع إسرائيل وفلسطين، لكنه عمل على عكس سياسات الأمير صباح المتبقية، فأعاد المنفيين، واستبدل حلفاء الحكم بتحالف مع المعارضة، على أمل أن ينجح ذلك في شراء المعارضين. لكن ثمن المعارضين يبدو مرتفعا جدا، ويتضمن الغاء حفلات موسيقية، وفصل الجنسين في الأماكن العامة، وربما إقامة "شرطة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر"، وهي الشرطة التي كانت معروفة بالمطاوعة في السعودية والتي فككها ولي العهد محمد بن سلمان في اندفاعته نحو تحديث السعودية اقتصاديا واجتماعيا.

هكذا، فيما تمضي السعودية في تحديثها، وفيما توصلت الإمارات - التي تتصدر المنطقة في الاقتصاد ورفاهية الحياة - الى اتفاقية سلام مع إسرائيل، وفي وقت استضافت قطر كأس العالم لكرة القدم واستقبلت 15 ألف إسرائيليا، وجدت الكويت نفسها تغرق في قبضة الاسلاميين المتشددين، وهو ما أقلق الإعلام الكويتي، فتصدرت الصحف عناوين تشي بامتعاض الكويتيين من الاتجاه الذي تمضي فيه البلاد.

الاتكاء على الإسلاميين للتغلب على المنافسين ليس فكرة كويتية فحسب. في مصر، استغل جناح العسكري عبدالفتاح السيسي تحالفه مع الإخوان المسلمين ليتولى وزارة الدفاع ويقضي على منافسيه حسين الطنطاوي وسامي عنان. ثم بعد اقصاء خصومه، انقلب السيسي على الإسلاميين واستلم الحكم.

قد ينجح ولي العهد الكويتي مشعل الأحمد في استغلال الإسلاميين للتغلب على الأجنحة المنافسة له، لكنه رهان محفوف بالمخاطر، اذ قد يقوى عود المتشددين الإسلاميين إلى درجة تسمح لهم بالقضاء، لا على أجنحة في أسرة آل صباح فحسب، بل على الحكم بأكمله.

Since December 2008