الثلاثاء، 25 يناير 2022

حان وقت الحرب العالمية على الإرهاب الإيراني

حسين عبدالحسين

قد لا تدرك غالبية الناس أن الإرهاب لا يعني العنف ضد المدنيين، فهذا عنف تحظره قوانين الحرب والمعاهدات الدولية. الإرهاب هو حيازة مجموعات غير حكومية قدرات عسكرية واستخدامها، إن ضد أهداف مدنية أو أهداف عسكرية. 

من التنظيمات التي ينطبق عليها تعريف الإرهاب في القانون الدولي ميليشيا "حزب الله" اللبنانية، و"أنصار الله" بقيادة عبدالملك الحوثي في اليمن، والميليشيات العراقية على أنواعها، باستثناء البيشمركة الكردية، حيث يسمح الدستور العراقي لأي ثلاث محافظات بإقامة حكم ذاتي مع قوة عسكرية على طراز "الحرس الوطني" في الولايات الأميركية. 

أما الحكومات فلا ينطبق عليها تعريف الإرهاب حتى لو قامت جيوشها بإيقاع ضحايا في صفوف المدنيين. مقتل المدنيين هو جريمة تحاسب عليها القوانين الدولية، لكنها لا تندرج تحت خانة الإرهاب. لهذا، لم تقم الأمم المتحدة أو العواصم الغربية بإسباغ صفة "إرهاب" على أي حكومة في العالم، بل اكتفت بوصف بعض الحكومات على أنها "راعية للإرهاب"، وهي صفة ثابتة على حكومة "الجمهورية الإسلامية في إيران" و"الجمهورية العربية السورية"، وسابقاً على أنظمة الحكم في العراق والسودان وليبيا. 

وقبل هجمات 11 أيلول - سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، لم يستحوذ الإرهاب على اهتمام يذكر، إذ أن الهجمات اقتصرت على أهداف صغيرة لا تعرقل اقتصاد الدول، كخطف طائرات أو وزراء أو ما شابه. لكن هجمات 11 سبتمبر أقنعت واشنطن أن المشكلة تتطلب معالجة جذرية، بما في ذلك اقتلاع حكّام الدول الفاشلة واستبدالها بديمقراطيات، وافتتحت الولايات المتحدة خطتها في أفغانستان ثم العراق. 

قدمت إيران، المساعدة لأميركا والعالم في التغلب على خصوم طهران من المجموعات الإرهابية السنية، وهو ما دفع واشنطن إلى التغاضي عن رعاية طهران لمجموعات إرهابية كانت حتى ذلك الوقت تنحصر بـ"حزب الله" اللبناني وحماس الفلسطينية. ووسعت واشنطن في عهد الرئيس باراك أوباما تعاونها الأمني والعسكري غير المباشر مع طهران للقضاء على داعش في العراق، واعتقد مستشار شؤون الإرهاب لدى أوباما ومدير "وكالة الاستخبارات المركزية" (سي.آي.إيه) لاحقا، جون برينان، أنه يمكن التعاون مع الحوثيين في اليمن للقضاء على تنظيم "القاعدة في الجزيرة العربية". بسبب قصر نظره، فتح برينان الباب في اليمن والخليج أمام ميليشيا الحوثي، فقامت الأخيرة باجتياح صنعاء والإطاحة بالحكومة الشرعية التي تسيطر اليوم على أجزاء من اليمن بدعم من السعودية والإمارات. 

رأت طهران في الانفلات في اليمن فرصة ممتازة للإمعان في نشر الموت والفوضى في المنطقة، فقدمت رعاية للحوثيين، الذين اخترقوا كل قانون محلي (بإطاحتهم بالحكومة) ودولي، وراحت ترمي الصواريخ على أهداف مدنية في السعودية والامارات، كان آخرها الأسبوع الماضي ضد أبوظبي. 

ومثل عادتهم، هبّ الغربيون من ذوي الضحالة الفكرية للدفاع عن إيران وميليشياتها، فبدلا من المطالبة بمعالجة جذور أزمة اليمن بحلّ ميليشيا الحوثي وإعادة الحكومة الشرعية وإقامة انتخابات، راحوا يصرخون في كل مرة يسقط فيها مدنيون في هجمات التحالف العربي ضد الميليشيا اليمنية الموالية لإيران. ولا شك أن سقوط المدنيين مكروه، ومطلوب محاسبة المسؤولين عن هذه الأخطاء، لكن ردة الفعل على الإرهاب ليست مشكلة مثل الإرهاب نفسه، والإرهاب لا يزال لبّ المشكلة في اليمن وعموم منطقة الشرق الأوسط.

الأمم المتحدة أصدرت قرارات لفرض هدنة ووقف إطلاق نار غير مشروط في اليمن، ووافق التحالف العربي بقيادة السعودية، وحتى اليوم لم يوافق الحوثيون لأنهم يربطون الهدنة بشروط مسبقة، مثل رفع الحصار الذي يفرضه التحالف على مرافئ اليمن ومطارها لمنع تدفق الأسلحة الإيرانية على الميليشيا الحوثية. 

مع ذلك، يبدو العالم غافلا بمساواته بين المشكلة، أي إيران ورعايتها للإرهاب في المنطقة بما في ذلك الحوثي في اليمن، ومحاولات معالجة المشكلة، أي الحرب التي شنها التحالف العربي لوقف تمدد الحوثي في اليمن ومنع سيطرته على المحافظات التي ما تزال تحت سيطرة الحكومة اليمنية، وخصوصا مأرب وشبوة حيث مخزون الطاقة اليمنية.

إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب أدركت أن الحل في اليمن يبدأ بتصنيف الحوثيين تنظيما إرهابيا، ورفعهم في حال وقفهم الحرب ودخولهم في تسوية. أما إدارة الرئيس جو بايدن، ففريقها المولج الملف الإيراني يتصرف من منطلق عقائدي قائم على ضرورة "انهاء الكولونيالية" الغربية، وتقليص النفوذ الأميركي في العالم، وهو ما يقدم منطقة الشرق الأوسط على طبق من ذهب لإيران والميليشيات الإرهابية الموالية لها.

على أن إدارة بايدن تدرك أن الحوثيين ينطبق عليهم تعريف الإرهاب بالتمام، لذا، يوم قامت برفع "أنصار الله" عن لائحة الإرهاب، لم تبرر ذلك بالقول أن تعريف الإرهاب لا ينطبق على الحوثيين، بل قدمت تبريرا ضعيفا مفاده أن الحوثيين يسيطرون على صنعاء ومعظم أجزاء اليمن، وأن وصمهم بالإرهاب يعرقل جهود الإغاثة الإنسانية في البلاد.

والتذرع بإغاثة المنكوبين، إن في اليمن أو سوريا أو لبنان، صار مدخلا لأنصار إيران في العاصمة الأميركية لتقويض العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على نظام إيران لرعايته الإرهاب وعلى الميليشيات الإرهابية التابعة له، كما على نظام الرئيس السوري بشّار الأسد، وهو ما يطرح السؤال: إن كان أصدقاء إيران في واشنطن يعارضون الحرب لمواجهة إيران وميليشياتها والأسد، ويعارضون العقوبات كذلك، فما هي الوسائل المتبقية لردع الإرهاب الإيراني وتمدده في المنطقة.

الإجابة على الأرجح تكمن في أن أنصار النظام الإيراني من الغربيين لا يمانعون تمدد إيران وميليشياتها في المنطقة، وهو ما يعني أن الأمل الوحيد لدول الخليج ذات الاقتصادات المزدهرة، والتي تعاني بلطجة وقرصنة النظام الإيرانية، يكمن في الديمقراطية الأميركية، أي أن تعجّل الانتخابات الأميركية في استبدال الفريق الأميركي الحالي بآخر أكثر وعيا وأقل عقائدية في السياسة الدولية. يومذاك، لا بد لأميركا أن تقود حربا عالمية للقضاء على الإرهاب، الذي ترعاه إيران بمثل الزخم الذي شنته للقضاء على إرهاب القاعدة ومتفرعاتها.

الثلاثاء، 18 يناير 2022

هل يقتل نظام إيران مقتدى الصدر؟

حسين عبدالحسين

يتداول متابعو السياسة في لبنان أنه يوم ذهب رئيس الحكومة السابق سعد الحريري للاتفاق مع ميشال عون على انتخاب الأخير رئيسا للبلاد، اقترح الحريري على عون أن تقوم كتلتيهما البرلمانيتين وحلفاء الحريري، وهذه كتل كانت تشكل غالبية الثلثين في "مجلس النواب"، إصدار قانون يجبر "حزب الله" على تسليم سلاحه للجيش اللبناني وحل ميلشيا الحزب، فأجاب عون: "يقتلوني (أي حزب الله)".

كما في لبنان، كذلك في العراق، العنف والاغتيالات هي التي تلجأ إليها الميلشيات الموالية لمرشد إيران علي خامنئي لمنع صدور قوانين أو قرارات حكومية تنص على حلّها وتسليم سلاحها. لكن اللعبة في العراق أصعب على طهران، إذ من اليسير شراء شيعة لبنان الذين يبلغ عددهم مليون نسمة، لكن من العسير شراء شيعة العراق، الذين يبلغ عددهم 15 مليونا ويتمتعون بعائدات نفطية ومرجعية دينية أرفع وأعلى من مرجعية خامنئي.

هكذا، انتفض شيعة العراق على نظام الولي الفقيه، وكبّدوه خسارة انتخابية برلمانية ساحقة، في أكتوبر، شهدت تراجع عدد مقاعد أزلام إيران إلى حوالي الثلث، فيما حصدت كتلة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر أكبر كتلة برلمانية.

وحاول أزلام ايران - المنتظمون في ستة أحزاب أطلقوا على اتحادها اسم "الإطار التنسيقي"- نسف الانتخابات وعدم الاعتراف بنتائجها أو بشرعيتها، لكن الاعتراف الأممي بشرعية الانتخابات، والتدقيق القضائي وإعادة الفرز والعدّ، كلها ثبّتت النتائج والهزيمة الإيرانية.

ثم ساهم الصدر في تعميق أزمة "الإطار" إذ هو باشر يفاوض باقي الكتل في "مجلس النواب" العراقي بهدف تشكيل تحالف حاكم. هكذا وجد "الإطار" نفسه على الهامش فيما القوى الباقية تتحالف بدونه - بل ضدّه - فحاول أزلام إيران تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر بالاتحاد مع الصدر، تحت عنوان لمّ الشمل الشيعي.

لكن الطائفية لم تعم عيون الصدر، فخلافه وحلفاء إيران عميق وجذري، إذ أن الصدر أعلن مرارا أن مهمة الحكومة المقبلة سيكون حلّ كل الميلشيات في البلاد، وحصر استخدام القوة بأيدي المؤسسات الأمنية التي تأتمر بأوامر الحكومة المنتخبة.

ومن شأن حلّ الميليشيات أن يقوّض نموذج الجمهورية الإيرانية المبني على دولة رديفة زعيمها المرشد وجيشها الميلشيات وتدير الدولة المنتخبة وجيشها الضعيف من وراء الكواليس، وهو النموذج الذي فرضه الإسلام السياسي الشيعي في إيران، وبعدها في لبنان واليمن، وما زال يسعى لفرض النموذج نفسه في العراق.

هكذا، تصبح كل سياسة نظام إيران في العراق ولبنان مبنية على ضمان بقاء الميليشيات، وهو وجود محفوف بالمخاطر القانونية لعدم دستوريته، وهو ما يدفع طهران دائما أما إلى محاولة الفوز بالانتخابات والسيطرة على برلمانات وحكومات الدولة التي تسعى لاستتباعها، أو - في حالة خسارة الانتخابات - تعطيل العملية الدستورية ووقف تشكيل الحكومات وعرقلة صدور القرارات بحلّ الميليشيات.

وفي التجربة اللبنانية، بعد خسارة "حزب الله" الانتخابات وإصدار الحكومة المنتخبة قرارات بحلّ جوانب ميليشيا الحزب، لجأ الحزب للعنف في جولة سريعة من العنف ضد خصومه.

والعنف لدى إيران هو آخر الحلول، يسبقها محاولات التعطيل، مثلما عطّلت إيران انتخاب رئيس لبنان وانتخاب برلمان. ويعطّل اليوم "حزب الله" انعقاد مجلس الوزراء اللبناني لإجبار قضاء لبنان على التوقف عن تحقيق قد يظهر فداحة تخزين الأسلحة التي أدت لانفجار كارثي في مرفأ بيروت قبل عامين.

في العراق، الصدر يعي مناورة طهران ويرفضها من مبدأ وطني، وبالاستناد إلى دعم شعبي هائل أهداه أكبر كتلة للقيام بمهمة حلّ الميليشيات. في جلسة افتتاح "مجلس النواب" الجديد، انسحب رئيس السن الموالي لطهران، ولما لم تتوقف الجلسة، انسحب نوّاب "الإطار"، ولكن قلّة عددهم لم تكسر النصاب، فاستمرت الجلسة، وأعادت انتخاب السني محمد الحلبوسي رئيسا للبرلمان للمرة الثانية، على الرغم من معارضة طهران له، وتم انتخاب نائبين له، واحد شيعي من الكتلة الصدرية وثان كردي من "الحزب الديموقراطي الكردستاني" المناوئ لنظام إيران.

هكذا بدأت ملامح تحالف عراقي وطني جامع تتشكل بدون أزلام إيران، وهو ما أغضب طهران، فعمد أزلامها فورا إى تصدير تغريدات هددوا فيها بالحرب الأهلية في حال سار العراق بدونهم. وفي الأيام التالية، تعرض مقرّ حزب الحلبوسي لهجمات بقنابل يدوية، كما تعرض مقرّ الحزب السني الثاني، والتابع لخنجر خميس، إلى هجوم بمسيرة مفخخة، وكذلك تعرضت مكاتب "الحزب الديموقراطي الكردستاني" لهجمات، وتعرضت البيشمركة الكردية في الشمال الى هجمات بالصواريخ، ونجا قيادي في الحزب الكردي من عملية اغتيال في بغداد.

وكانت الميليشيات الموالية لطهران أعلنت مسؤوليتها قبل أشهر عن محاولتها اغتيال رئيس حكومة تصريف الأعمال مصطفى الكاظمي لأنه، بسبب عدم ترشحه للانتخابات، بدا حياديا وعاقلا وموزونا، وتاليا أسبغ مصداقيته على الانتخابات التي رفضتها إيران.

هذه المرة، يقف مقتدى الصدر عقبة في وجه محاولات طهران الإبقاء على ميليشياتها في العراق، وهو ما يعني أن حياة الصدر مهددة.

ومن نافل القول إن شيعية الصدر لا تحميه من العنف الإيراني، إذ أن لطهران تاريخ طويل في استهداف رجال دين شيعة ممن هددوا النفوذ الايراني. ويعتقد البعض أن للثورة الخمينية دور في اختفاء رجل الدين اللبناني موسى الصدر (من أبناء أعمام مقتدى الإيرانيين). 

أما الأدوار الإيرانية الأكثر وضوحا فكانت في مقتل عبدالمجيد الخوئي، نجل المرجع الراحل أبو القاسم، وبعد ذلك اغتيال رجل الدين محمد باقر الحكيم، على إثر عودة كل منهما الى العراق. وكان كل من الرجلين يتمتع بشعبية شيعية عراقية واسعة، وكذلك بعلاقات مع واشنطن، وهو ما هدد مشروع سيطرة نظام إيران على العراق.

مقتدى الصدر هذه المرة تجاوز الخطوط الحمراء للنظام الايراني، وهو أن مضى في تشكيل حكومة غالبية برلمانية، بدلا من حكومة "الوحدة الوطنية" المفروضة إيرانيا، قد تصبح حياته في خطر، وهو ما يبدو أن الرجل يدركه إذ هو قلّص من ظهوره العلني، وانتقل إلى الحنّانة في النجف، حيث تسود ميليشيات حماية المراقد التابعة للمرجع علي السيستاني، وهي ميليشيات محلية دفاعية لا تمارس أعمال بلطجة أو محاولات للاستيلاء على الدولة كنظيرتها الولائية.

من المتوقع أن يكبّد الصدر، ومعه عراقيون من كل الأطياف والألوان، طهران وأزلامها في العراق خسائر برلمانية وحكومية وسياسية تصل حد حلّ الميلشيات، وهو ما قد يؤدي إلى حرب ميليشياوية ضد دولة العراق، وهو ما سيمتحن العراقيين وقدرتهم على اجتثاث سرطان الميليشيات، الذي أدى الى موت لبنان، قبل أن يستفحل هذا السرطان ويقضي على العراق كذلك.

الثلاثاء، 11 يناير 2022

غنّوم لرئاسة لبنان

حسين عبدالحسين

يتداول لبنانيون فكرة في قمة السذاجة، مفادها أن خلاص دولتهم الفاشلة ممكن على أيدي زعيم قوي، ربما قائد الجيش اللبناني جوزيف عون، الذي عليه القيام بانقلاب يرمي بموجبه كل الزعماء السياسيين في السجن، ويفرض محاكمتهم، ويفرض تطبيق الدستور والقوانين، وهكذا تستوي الأمور في البلاد.

ربما لا يعرف اللبنانيون أن ميليشيا "حزب الله" الموالية لايران أقوى من جيشهم الوطني بأضعاف مضاعفة، ويمكنها رمي الجيش وكل ضباطه في الزنازين في ساعات وإحكام قبضتها الحديدية على لبنان. 

لكن الحزب المذكور يتفادى ذلك، لأن الحكم المباشر يضعه في واجه المسؤولية أمام الناس فيما الحكم غير المباشر — كما يحكم "حزب الله" لبنان حاليا من خلف السياسيين الذين يحرّكهم — يسمح للحزب بأن يحكم بدون أن يتحمل مسؤولية، محلية أم دولية.

ثم أنه يندر أن قدمت الانقلابات العسكرية في الدول العربية نماذج حكم يحتذى بها، فالعراق وسوريا وليبيا كلها أمثلة عن طغيان العسكر، وفشله في الحكم، ولا دليل على أن الاستبداد وحده كفيل بتفادي فشل الدول واندثارها كما يحصل حاليا في الدول العربية المذكورة.

غير الانقلابات العسكرية، لا يقدم اللبنانيون حلولا تذكر. حتى الثوار، مع كل الاحترام لعدد كبير خصوصا الأصدقاء منهم، لا يقدمون أساليب مختلفة في السياسة والحكم، بل يعيدون تقديم الضحالة السائدة نفسها، ويخالون النميمة السياسية سياسات، ويغيب عنهم في الغالب أن المطلوب هو استعادة رؤية رئيس حكومة لبنان الراحل رفيق الحريري، رجل الأعمال الأسطوري الذي تحول من مدقق حسابات بسيط إلى مؤسس وصاحب امبراطورية مقاولات وأعمال.

والحريري حاول إدارة لبنان كشركة، وهو أسلوب حمله معارضوه ضده على الرغم أنه الأسلوب الأكثر نجاحا في تجارب الدول من ماليزيا وهونغ كونغ (سابقا) إلى دبي اليوم، والتي ينتشر على رفوف مكتباتها كتاب بعنوان "الحكم كرئيس تنفيذي لشركة"، بقلم حاكمها محمد بن راشد، الذي قال يوما أنه استوحى نموذجه الاقتصادي من خطة الحريري للبنان.

اليوم، يحكم لبنان فعليا رجل دين لم ينه تعليمه الثانوي وتعثر في دراسته الحوزوية الدينية، فانضم لميليشيا أمل، قبل أن تجنده الاستخبارات الإيرانية وتعيد تقديمه كمرشد أعلى للبلاد. المرشد هذا هو زعيم "حزب الله" حسن نصرالله، الذي زادت في بهدلته خطاباته المضحكة عن الاقتصاد عن تصدير البطاطا اللبنانية إلى العراق، كحل للانهيار الاقتصادي، وزراعة العدس على شرفات المنازل. 

يعاون نصرالله في الحكم، أو بالأحرى يحشد له بعض التأييد المسيحي، رئيس لبنان ميشال عون، وهو قائد سابق للجيش يمكن تلخيص سجله العسكري بالخيانة وعدم الانضباط مذ كان برتبة نقيب، وصولا إلى إحراقه البلاد عن بكرة أبيها ليترأسها للمرة الأولى في حربيه "التحرير" و"الإلغاء"، وللمرة الثانية التي أوصل فيها لبنان إلى نهايته. وبين نصرالله وعون، قائد ميليشيا أمل نبيه بري، الذي يتزعم العملية التشريعية في لبنان، فيساهم في تمزيق أحشاء دولة تناقض فقرات دستورها بعضها البعض منذ يوم الاستقلال.

لكن الحريري لم يكن آخر اللبنانيين الأذكياء وأصحاب الرؤية، بل أن الانتشار اللبناني يعج بأمثال الحريري، ممن أنجزوا في اغترابهم وقدموا نماذج نجاح. الحريري كان من المغتربين القلائل ممن راهنوا على لبنان، وأدى رهانه إلى مقتله، وهو ما أقنع كل الاغتراب اللبناني باستحالة انتشال لبنان من أيدي "الزعران" الذين يحكمونه.

من هؤلاء المغتربين مؤلف كتاب "العرض متحررا" للصديق أحمد غنّوم، الذي يروي رحلته في عالم الأعمال، منذ انخرط في سلسلة استيراد المواد الغذائية في تركيا، أبان تبني الأخيرة اتفاقية التجارة الحرة، ودخولها في عضوية منظمة التجارة العالمية في العام 1999. على مدى ست سنوات، أقام غنّوم شراكات مع لبنانيين من أمثاله، منهم فادي نحّاس وقريبه سمير صيداني، وأنشأوا شبكات استيراد وتوزيع في تركيا والدول المجاورة لها، خصوصا الدول السوفياتية والاشتراكية سابقا، مثل أرمينيا وأذربيجان وجورجيا ورومانيا وغيرها.

في كتابه الشيّق، يروي غنّوم تفاصيل كثيرة، منها سعي كبار التجّار الدوليين، من أمثال اللبناني الأصل روجيه تمرز، إلى تمويل عمليات شراء نفوذ، بما في ذلك داخل العاصمة الأميركية واشنطن، والاستناد إلى القوة الأميركية في فرض قوانين التجارة واقتصاد السوق على بعض حكومات العالم.

و يروي غنّوم كيفية التعاطي مع دول أدمنت على الفساد وتواطئ حكامها مع عصاباتها في التحايل على القوانين وترهيب المنافسين، وكيف تواجه الشركات المستوردة والموزعة، مثل شركة غنّوم وأصحابه، عمليات القتل والخطف والابتزاز التي تتعرض لها في باكو أو تبليسي.

مع ذلك، لا يتراجع غنّوم وأصحابه، بل يواصلون العمل الدؤوب، بصبر وثبات، فينجحون أحيانا ويفشلون أحيانا كثيرة، ولكنهم في نهاية المطاف يبنون مؤسسات وشبكات ويجنون أرباح. هكذا هي الدول، كالشركات، مشاكلها كثيرة ومتشعبة ويتطلب نجاحها علاقات وصداقات، بعضها محلي وبعضها عابر للقارات، بعضها في مزارع الدجاج في البرازيل وبعضها الآخر في أروقة الكونغرس في الولايات المتحدة، فالحكم ليس بيانات وخطابات حماسية، بل رؤية، وتحديد مصلحة مع عمل دؤوب للوصول إليها.

أمثال غنّوم، وعددهم يتجاوز الآلاف بين المغتربين اللبنانيين وبعض المقيمين، هم الخلاص للبنان. هم أصحاب الدماء الجديدة والأفكار الخلاقة والخبرة الدولية. أما رجال الدين المنغمسين في السياسة، وقادة الجيش اللبناني، السابقين والحاليين والمستقبليين، وقادة الميلشيات، السابقين والحاليين، وزعماء الإقطاع المندثر، كل هؤلاء هم فشل أكيد منذ الاستقلال اللبناني في 1943 حتى اليوم، تخلله لمحتا نجاح في زمن الحيادية المفروضة دوليا بين 1958 و1969 ثم في زمن الفذّ رفيق الحريري بين 1993 و2005.

في حديثي الأخير مع غنّوم، قال إنه حزين لحال لبنان وأنه قلّص علاقته ببلده الأم إلى أدنى درجة. ومثل غنّوم كثر. لم يعد لبنان يشبههم أو يشبه نجاحاتهم، بل صار صورة عن كل من تعثّر في دراسته ومهنته فالتجأ إلى المؤسسة الدينية أو العسكرية للتغطية على فشله. وعلى ما يقول اللبنانيون: ضيعانك يا لبنان.

الثلاثاء، 4 يناير 2022

الإمارات في قلب العالم

حسين عبدالحسين

يخبرني صديقي اللبناني المقيم في دبي أنه يستضيف والديه المتقاعدين من بيروت، وأن إخوته وعائلاتهم توافدوا من أوروبا وأميركا إلى الامارات، وأن عائلته الكبيرة التقت على مدى أسبوع واحتفلت بأعياد نهاية السنة. ومثل اللبناني طارق كذلك قريبي السوري سليم، الذي قررت عائلته الاجتماع في دبي، ومثلهما أقرباء وأصدقاء لي عراقيين وفلسطينيين، كلهم توافدوا إلى الإمارات لقضاء عطلة عائلية بعدما تعذرت زيارة هؤلاء المغتربين دولهم الفاشلة القاحلة، التي تحولت إلى مكبات نفايات لا تتوافر فيها أدنى مقومات الحياة.

وإلى اللقاءات العائلية، يتمتع زوار الإمارات بسياحة في مدن لا تختلف عن كبرى دول أميركا الشمالية وأوروبا، مدن تختلط فيها الشعوب من أقطار العالم: الاسكندنافيون والهنود إلى جانب الصينيين والأفارقة. شعوب ولغات وثقافات تسير جنبا الى جنب، وتجلس في المقاهي والمطاعم، وتتمتع بالخدمات السياحية المتفوقة التي تقدمها دبي وأبوظبي. 

المشعوذون الثوريون وأصحاب "فلسطين القضية المركزية" يستخفون بالرفاهية التي تعيشها الإمارات وتقدمها للمقيمين فيها والوافدين إليها. مثلا، أشار يوما زعيم "حزب الله" اللبناني حسن نصرالله الى مدن الإمارات على أنها "مدن الزجاج" للدلالة على أنها برّاقة وتلمع ولكنها لا تصمد أمام الحروب والشدائد. 

ويوجّه مناصرو المشعوذين انتقادات أخرى للإمارات، إما بالتعييب عليها في أن لا فضل لقيادتها في إنجازاتها الاقتصادية الباهرة لأن الإمارات تعتاش من عائدات صادراتها النفطية الكبيرة، أو بالإشارة إلى أن توزيع الثروات في الإمارات لا يطال كل العاملين فيها وأن أوضاع العاملين في المهن البسيطة، خصوصا من الآسيويين، لا يتمتعون بمستوى رفاهية كباقي المواطنين والمقيمين. 

لكن في نبرة المشعوذين الثوريين وأنصارهم الكثير من الحقد والغيرة تجاه الإمارات، وفي نبرتهم محاولة تبرير فشلهم وفشل قضاياهم ودولهم، وفيها محاولتهم البحث عن أي فجوات إماراتية يمكنهم الاشارة اليها، على هامشيتها، للانتقاص من النجاح الإماراتي الباهر. 

على أن نجاح الإمارات لم يكن وليد الصدفة، ولا سببه ثروة البلاد النفطية، فالبلاد حريصة على حياديتها في الحروب الإقليمية الكبرى، مثل في زيارة مستشارها للأمن القومي الشيخ طحنون بن زياد ايران قبل أيام قليلة من استقبال أبوظبي رئيس حكومة إسرائيل نفتالي بينيت. الحفاظ على علاقة مع كل الأفرقاء، والتزام الحياد في حال اندلاع أي حرب بين اسرائيل وإيران، هي سياسة في قلب الاستقرار والبحبوحة الإماراتية، وهو نفس موقف الحياد الذي انتهجه لبنان بين 1958 و1969 مفيدا من تفاهم استثنائي بين الولايات المتحدة ورئيس مصر الراحل جمال عبدالناصر قضى بتحييد لبنان عن الصراع العربي الإسرائيلي.

هكذا، فيما كانت الدول العربية منخرطة في حربها الكارثية ضد إسرائيل في العام 1967، تحول لبنان إلى الوطن البديل للعرب الهاربين من حروب مشعوذي القضية الفلسطينية، فتوافد العرب وأموالهم على بيروت، فتحولت ملتقى الحضارات وقبلة أنظار العالم، تماما مثل الإمارات اليوم. لكن بعد هزيمته أمام إسرائيل، لجأ عبدالناصر الى حرب العصابات لحفظ ماء الوجه، ورعى عمليات المنظمات الفلسطينية من الأردن ولبنان. الأردن أثبت سيادته بطرده الميليشيات الفلسطينية، أما لبنان، فارتكب خطيئة مميتة بتنازله عن سيادة لم يستعدها حتى اليوم. هذا عن حياد الامارات الإقليمي الممتاز. 

أما في أن ثروة الامارات النفطية هي صاحبة الإنجاز الاقتصادي، ففي الأمر إغفال أن الإمارات ليست الدولة النفطية الوحيدة في المنطقة، بل أن إيران والعراق تتمتعان بمخزونات نفطية وغازية أكبر بكثير من الثروة الإماراتية. مع ذلك، تقف الامارات كقبلة للمهاجرين والسيّاح فيما الناس تفرّ من جحيم الإسلام السياسي والقضية في إيران والعراق. 

وسبب الفورة الاقتصادية المذهلة في الامارات هو فهمها لمتطلبات إقامة اقتصاد معرفي حديث. استخدمت الإمارات أموالها النفطية أولا لإقامة بنية تحتية لا تضاهى، وأرفقتها بتشريعات مغرية للمستثمرين، فتدفقت الاستثمارات العالمية، ولحقتها أبرز العقول من شتى أصقاع الأرض، ولخدمة هذه العقول الوافدة نشأ اقتصاد سياحي خدماتي استقطب بدوره السيّاح حتى صارت دبي من أكبر خمس مدن في العالم في عدد السيّاح الذين يزورونها سنويا، في مصاف نيويورك وباريس وغيرها من كبرى مدن العالم. 

أما عن الانتقادات القائلة إن الإمارات تعاني من انعدام المساواة وشقاء تعاني منه العمالة اليدوية الوافدة، فحقد غير مبرر، إذ أن من مزايا الرأسمالية نشوء طبقات متفاوتة المدخول، مقارنة بالاقتصادات المفلسة التي يعيش كل ناسها — ما عدا حفنة من حكامها — في فقر وبؤس، مثل في لبنان وسوريا والعراق والأراضي الفلسطينية، ويقينا أنه لو سنحت الفرصة لأي من سكان الدول الفاشلة بالانتقال للإمارات لفعل ذلك، فالكسب من عرق الجبين — حتى لو بمدخول أدنى بكثير من أصحاب العمالة الماهرة — أفضل من الغرق في البطالة والفقر.

لكن مشعوذي القضية وأنصارهم لا يرضون بأقل من دولة فاضلة فيها تساو تام بين الناس، وفي حال عدم توفّر هذه الدولة الفاضلة، يصبح البديل برأيهم هو الحروب والمقاطعة والاغتيالات والفوضى، أو على ما يحلو للثوريين قوله أن "لا سلام بدون عدالة"، إذ ذاك يعيش أنصار القضية في دول فاشلة بدون سلام ولا عدالة، فقط حروب، وفقر، وتسلط الإسلام السياسي المنافق، وانهيار بدون قعر، ويأس بلا نهاية. 

كان الشاعر اللبناني الراحل سعيد عقيل يقول التالي: بيتي في منتصف زحلة، وزحلة في منتصف لبنان، ولبنان في منتصف الكون… بيتي في منتصف الكون. لم يعد لبنان اليوم في منتصف الكون، بل حلت مكانه الأمارات. الإمارات اليوم في قلب العالم.

Since December 2008