الثلاثاء، 29 نوفمبر 2022

قطر والسعودية وصورة العرب والمسلمين

حسين عبدالحسين

بالتزامن مع استضافتها كأس العالم لكرة القدم، أطلقت الدوحة حملة إعلامية ضخمة تضمنت دعايات بين شوطي المباريات المختلفة لتسويق قطر كوجهة سياحية ومركز أعمال وأموال، فضلا عن دعايات حول مشاريع وبرامج ”مؤسسة قطر“ وأخواتها.

كما أوعزت قطر للمستفيدين من مخصصاتها، بمن فيهم دكاترة من الجامعات الأميركية المرموقة الستة التي تمولها الدوحة وتستضيف فروعا لها، ومعهم كتّاب الأعمدة الأجانب والعرب، لنشر مقالات في الإعلام الغربي والعربي حملت عناوين تتراوح بين ”شكرا قطر“ و“فخورون بقطر“. حتى حركة حماس الفلسطينية في قطاع غزة أرسلت أطفال المدارس إلى الشوراع وهم يحملون العلم القطري ويلوحون بلوحات كتبوا عليها ”نحبك يا قطر“.

لا عتب على قيام قطر بتسويق نفسها. العتب هو في الصورة النمطية التي تحاول قطر تعميمها حول العرب والمسلمين، الذين تحاول اقناعهم أن استضافة قطر كأس العالم هي صورة إيجابية عنهم، وأن عليهم أن يفخروا بحكومة الدوحة وقادتها، وأن يهللوا لها وللصورة التي تبثها عن نفسها وعنهم.

مشكلة أن تعتقد قطر أن بثّ مشاهد افتتاح كأس العالم، التي تصدرها الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة ونجله الأمير الحاكم الشيخ تميم بن حمد، ؤا داخل منازل خمسة مليار بشري، هي مشاهد تندرج تحت خانة” تحسين صورة العرب والمسلمين“. ما الإيجابية في هذه الصورة؟ أن العالم العربي تحكمه مشيخات وراثية؟ ما النموذج الذي تحاول الدوحة تقديمه للعالم؟ إنفاق ربع ترليون دولار من عائدات مبيعات الغاز القطري لشراء لحظات مجد عابرة في استضافة البطولة وافتتاحها؟

لم يتأخر الواقع عن الصورة الوهمية للعظمة القطرية، اذ لم تمض ساعات حتى قدم المنتخب القطري عرضا مزريا في كرة القدم وخسر أمام ضيفيه الإكوادوري والسنغالي، هذا على الرغم من أن الدوحة أنفقت أموالا طائلة لبناء منتخبها، وتجنيس سودانيين وعراقيين وجزائريين وغانيين للعب في فريق باهت. صورة عظمة أميري قطر شيء، وضعف قطر رياضيا شيء آخر.

أما عن تسامح العرب والمسلمين الذي حاولت قطر تعميمه على البشرية، فهي قامت بتعميم عكس ذلك تماما. قضية منع الكحول في الملاعب أظهرت أن قطر ما تزال متأخرة عن دول العالم بإصرارها على هندسة التصرفات الاجتماعية في المساحات العامة، متجاهلة أن الحرية الفردية هي حجر الزاوية للدول المتسامحة.

ثم جاءت قضية رهاب المثلية الجنسية التي تعاني منها قطر. حاول قادة منتخبات أوروبية ارتداء شارة تأييد حرية المثلية، لكن الفيفا فرضت عليهم التراجع. قائد فرنسا هوغو لوريس قال أنه لم يتحمس لفكرة ارتداء شارة تأييد حقوق المثليين لأنه يعتقد أنه عندما يكون في ضيافة دول ما، عليه احترام تقاليد هذه الدول. هذه بالضبط هي المشكلة. تخال بعض الدول أن تقاليد الغالبية فيها تسمح لها بتنظيم حياة البشر الشخصية، إن المثلية، أو ممارسة الجنس خارج الزواج، أو احتساء الكحول. في المحصلة، بثّت قطر للعالم صورة مفادها أن بعض الدول العربية والإسلامية لا تمنح الأفراد حرياتهم، بل تقيدها وتفرض عليهم التزام تقاليد أو أديان معينة دون أخرى.

على أن مفارقة قطر وكأس العالم تكمن في أن الدوحة أنفقت ربع ترليون دولار حتى يتباهى العرب والمسلمون بها، ثم تباهى العرب والمسلمون بالسعودية، التي حقق منتخبها مفاجئة مدوية بانتصاره على الأرجنتين، أحد أعرق منتخبات العالم. لا مجنسين في المنتخب السعودي، الذي شارك للمرة السادسة في تاريخه في البطولة الدولية، مقارنة بنظيره القطري، الذي كلفت مشاركته الأولى في تاريخه ربع ترليون دولار.

الانتصار السعودي جاء في وقت تعيش الرياض في سباق مع الزمن لمنح السعوديين، والمقيمين، والسياح حرياتهم الفردية، وترسيخ أن السعودية دول معتدلة، متسامحة، لا تهندس المجتمع، ولا تفرض دينا على الناس، ولا تمانع تعدد الأديان، والأفكار، والآراء، والمذاهب، والأعراق.

لا توجد قبيلة أو شعب أو دين أو أمة متجانسة في العالم يتطابق أفرادها في كيفية العبادة، أو المعتقد، أو التصرف، أو الأهواء. حتى في قطر الصغيرة نفسها، تنقسم الآراء بين قطريين يعتقدون أن الدين لله والوطن للجميع، وقطريين من المتطرفين ممن يخالون أن الدولة الفاضلة هي التي قامت في زمن الرسول وخلفائه الراشدين، وأن رخاء الانسانية يكمن في إعادة إحيائها. 

الصورة التي كان الحري بقطر أن تبثها للعالم عن العرب والمسلمين هي أن شعب وحكام قطر (وشعوب العرب والمسلمين) يدركون أن دور الحكومات هو إدارة الدولة وسياساتها، وتنظيم الحياة العامة حصرا، لا هندسة المجتمع وتصرفات الأفراد، وأن لكل فرد رأي ومعتقد وذوق يختلف عن الفرد الآخر، بعضنا من مثليي الجنس، وبعضنا الآخر ممن لا تستهويهم المثلية. بعضنا من يؤمن بالله والرسول واليوم الآخر، وبعضنا من يراها أساطير الأقدمين. بعضنا من يؤمن بأن المسيح لم يُصلب، وبعضنا الآخر ممن يعتقده المخلص الذي افتدى خطايا البشر بموته على الصليب وقيامته من الموت. بعضنا ينسب نفسه لموسى وداود ومملكة إسرائيل، وبعضنا الآخر ممن يرى أن ديانة اليهود تحريف للتوحيد. بعضنا يتمنى زوال دولة إسرائيل وقيام دولة فلسطين بدلا منها، وبعضنا الآخر ممن يرى أن إسرائيل في ثنايا العرب دليل على قبول التنوع وفرصة للإفادة من علوم الآخرين وتقدمهم. 

لم تبث قطر الى العالم أي من صور التسامح المذكورة أعلاه، بل بثت لهم أمراض العرب والمسلمين المزمنة. الحاكم شيخ ابن شيخ، والمحكوم مغلوب على أمره يهلل، والمجتمع يمسكه الدجّالون من رجال الدين بإسم الحاكم وإطالة حكمه. هذه ليست صورة تستأهل انفاق ربع ترليون دولار لتعميمها على البشرية، بل هو واقع كان على قطر استثمار كل هذه الأموال لتغييره.

الثلاثاء، 22 نوفمبر 2022

كأس العالم.. ونفاق "حركة مقاطعة إسرائيل"

حسين عبدالحسين

"حركة مقاطعة إسرائيل"، المعروفة بأحرفها الإنكليزية الأولى "بي دي أس"، هي جمعية فلسطينية غير حكومية، تتمتع بانتشار عالمي وشهرة تضاهي القطبين الفلسطينيين "السلطة" و"حماس".

تم تصميم هذه الحركة على طراز حركات مقاطعة نظام الفصل العنصري آبرثايد، في جنوب أفريقيا، التي توسعت عالميا حتى اقتلعت نظام البيض وأنهت نظامهم العنصري. 

و ”حركة مقاطعة إسرائيل“ حنبلية، على ما نقول في العامية الشامية والمصرية، أي أنها متشددة لا تساوم. صحيح أنها حركة لا تدعو للعنف (ولا تدينه كذلك)، لكن مطالبها قصوى، ومواقفها قاسية.

يكفي أن يشارك مراهق إسرائيلي في دورة كرة مضرب وتوقعه القرعة ضد لاعب عربي حتى تنهال "حركة مقاطعة إسرائيل" على اللاعب العربي بطلبات لمقاطعة المباراة وترك اللاعب الاسرائيلي يفوز. 

كذلك الأمر في المؤتمرات. يكفي أن يشارك كاتب إسرائيلي واحد في مؤتمر فيه أكثر من مئة كاتب وأديب عربي وعالمي، مثلا في الإمارات، حتى تنهال طلبات "حركة مقاطعة إسرائيل" على المشاركين العرب للانسحاب من المؤتمر بأكمله، لا من الجلسة التي يشارك فيها الأديب الإسرائيلي.

ولا يهم إن كان الأديب الإسرائيلي مع أو ضد الفلسطينيين. يكفي أن يكون إسرائيليا حتى تصبح مقاطعته إلزامية وتصبح المشاركة معه، أو حتى الحديث اليه، من الكبائر الموجبة لتخوين العربي الذي لا يلتزم المقاطعة. 

والدعوة الى المقاطعة ليست ضد الإسرائيليين فحسب، بل ضد العرب "المتخاذلين" ممن لا يقاطعون إسرائيل. مثلا، دعت "حركة مقاطعة إسرائيل" العرب والعالم، بمن فيهم "الحكومات والشركات والفنانين" إلى مقاطعة "معرض إكسبو" الذي استضافته دبي العام الماضي، وجاء نص الدعوة على الشكل التالي: "قاطعوا إكسبو دبي: نشاط (هدفه) تبييض دكتاتورية الإمارات والآبرثايد الإسرائيلي". 

ثم حان موعد كأس العالم الذي تستضيفه قطر، والذي بدأت أولى مبارياته أول من أمس. 

أعلنت الدوحة، قبل أسابيع من انطلاق البطولة، إقامتها خط رحلات مباشرة بين مطاري حمد بن خليفة وبن غوريون بهدف السماح لآلاف المشاهدين الإسرائيليين والفلسطينيين زيارة قطر على مدى شهر كامل. وفي الدوحة، وقف الاعلاميون الإسرائيليون يستعرضون الأحداث مباشرة من الدوحة على قنوات التلفزة والراديو الإسرائيلية. 

أمام "الخيانة القطرية" هذه، ومع تعامل قطر وإسرائيل بصورة طبيعية، حتى لو في إطار الرياضة، كان متوقعا أن تصدر "حركة مقاطعة إسرائيل" دعوة، على غرار التي أصدرتها ضد الامارات العام الماضي، تكتب فيها "قاطعوا كأس العالم في قطر: نشاط (هدفه) تبييض دكتاتورية قطر والآبرثايد الإسرائيلي".

لكن "حركة مقاطعة إسرائيل" الفلسطينية لم تدعُ إلى مقاطعة قطر أو كأس العالم، بل حاولت الاستعاضة عن صمتها هذا — الذي ينم عن تآمرها مع الدوحة وانحيازها إليها — بحملة سمتها ”فلنسجّل هدفا للحقوق الفلسطينية“، دعت فيها إلى رفع العلم الفلسطيني حيثما يتيسر، والمشاركة في "عواصف على وسائل التواصل الاجتماعي"، ومقاطعة شركة بوما للمنتجات الرياضية لأنها ترعى المنتخب الإسرائيلي. 

لماذا تنحاز "حركة مقاطعة إسرائيل" (بي دي أس) لقطر، ضد الإمارات والبحرين والسعودية؟ الإجابات متعذرة، خصوصا أن الحركة الفلسطينية المذكورة لا تتمتع بشفافية حول مصادر تمويلها. ربما كانت الدوحة من أكبر ممولي هذه الحركة، ومن يغمّس في صحن السلطان يضرب بسيفه. لكن في غياب أي بيانات واضحة، لا يمكن إقامة ربط من هذا النوع الا من باب التكهنات. 

أيا تكن الأسباب، يشكل انحياز "حركة مقاطعة إسرائيل" لدول عربية دون أخرى، أو لإيران وتركيا ضد الدول العربية، امتدادا لسياسة انتهجها معظم قادة الفلسطينيين تاريخيا، إذ راهنوا على ديكتاتوريات شعبوية تطعمهم شعارات لا تغني ولا تسمن، منذ ارتماء مفتي القدس أمين الحسيني في أحضان طاغية العالم الألماني هتلر، ومصادقة رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات طاغية الغرب صدام حسين، حتى بعد قيام الأخير باجتياح الكويت وابتلاعها، ثم ارتماء حماس في أحضان دكتاتور سوريا بشار الأسد. 

اليوم، يواصل فلسطينيو "حركة مقاطعة إسرائيل" ربط أنفسهم بالجبهة المسماة "الجنوب العالمي"، التي تتألف من كل الأنظمة والحركات في العالم المعادية للغرب والديمقراطية والليبرالية، ويتمسكون بالإسلام السياسي، وقطر، والأسد، ونظامي إيران وتركيا الإسلاميين. 

أما النصيحة لهؤلاء الفلسطينيين فهي أن يعملوا بموجب قاعدتين، أولهما "أعرف نفسك"، أي أن غالب شقاء الفلسطينيين مصدره تعذّر قدرتهم على بناء أي مؤسسات سياسية أو اجتماعية لادارة شؤونهم، بل أن التجربة الفلسطينية في بناء دولة — مع أو بدون أرض — هي تجربة تشبه الدول العربية الشقيقة التي كانت تشكل ما يعرف بـ "جبهة الرفض" في الماضي، أي التي رفضت اتفاقية السلام المصرية مع إسرائيل، وكانت تتألف من العراق وسوريا وليبيا واليمن، وكلها دول فاشلة اليوم تشبه قطاع غزة، حتى وإن بدون حصار إسرائيلي. 

القاعدة الثانية هي أن يدرك الفلسطينيون ممن يكررون الخطأ في رهاناتهم الإقليمية والدولية أن صديقك هو من صادقك لا من صدّقك، وهو ما يعني أن صديق الفلسطينيين الحقيقي هو الذي يخاطبهم بواقعية حول فشلهم الذريع، المسؤول عن النسبة الأكبر من شقائهم اليوم، والذي ينصحهم بالتخلي عن المطالب الخيالية المتعذر تحقيقها، والقبول بتسوية "ما تيسر"، يمكن البناء عليها، وتحسينها مستقبلا، وتوسيعها. أما من صدّق الفلسطينيين، أو تظاهر بذلك، وانخرط معهم في الشعارات الخشبية الشعبوية المتكررة على مدى القرن الماضي، فهؤلاء ليسوا أصدقاء الفلسطينيين، بل هم يستغلون قضية الفلسطينيين وشعاراتهم لأسباب خاصة ومصالح غير فلسطينية، إذا ماذا يضير مناضل يتمتع برغد العيش في الدوحة أو أنقرة أن يدعو للقتال والنضال في الضفة الغربية وغزة؟ 

السلام الفوري مع إسرائيل والتطبيع الشامل يحرران كل العرب من قضية أعجزتهم، فأقعدتهم، وأعاقت تطورهم، وكما كتب العزيز الراحل سمير قصير يوما، إن الخيار الأمثل لتعافي العرب يكمن في بتر العضو المصاب حتى يتماثل المريض للشفاء.

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2022

الديمقراطية سبب تفوق الولايات المتحدة

حسين عبدالحسين

في 21 كانون الأول يناير 1997، جلسنا — مصطفى وهنّاد ورياض وأنا — ندردش مع معلمنا المؤرخ الراحل كمال الصليبي قبل بدء الحصة الدراسية عن تاريخ بيزنطية. بادر الصليبي الى الحديث بالسؤال ان كان أحد منا شاهد خطاب قسم الرئيس الأميركي بيل كلينتون لولاية ثانية، وهو خطاب اعتبر فيه كلينتون أن القرن العشرين كان قرنا أميركيا. قال الصليبي: ”لقد كان قرنا أميركيا بالفعل“. 

وراح الصليبي يتحدث عن إبداع الديمقراطية الأميركية ويقول: ”ترى أقوى رجل في العالم، في يديه ترسانة نووية قادرة على تدمير الكوكب، يخرج من البيت الأبيض في دقائق، ويسلّم منصبه لخلفه، ويعود مواطنا عاديا“. 

أزعجني، أنا اليساري المعادي للإمبريالية يومذاك، إعجاب الصليبي بالولايات المتحدة. ولأن الراحل كان منطقيا وموضوعيا، ولأنه كان ملهما لآرائي، بدأت ذاك اليوم رحلة تقصي فكرية أفضت إلى انقلابي على آرائي السابقة، التي كانت ترى كل أمة جسدا واحدا، لا خليطا من الأعراق والمذاهب والأذواق والآراء. 

بدلا من فكري القومي البدائي، حلّ إعجابي المطلق — لا بديمقراطية الولايات المتحدة فحسب — بل بمبادئ عصر التنوير، التي ألهمت الثورتين الأميركية والفرنسية. ومبادئ عصر التنوير تُعلي من حرية الفرد، وتعتبر أن الدولة هي أداة لسعادة الأفراد، على عكس الفكر القومي، الذي يرى أن الأفراد وقود لعظمة الأمة المتخيلة.

هكذا، عندما ظهرت السفن الحربية في الخليج لتحرير العراق من طاغيته صدام حسين في 2003، اقتنصت الفرصة وشاركت، قلبا وقالبا، في المشروع الأميركي لنشر الديمقراطية، وهو مشروع تعثر لأسباب عديدة لا متسع للخوض فيها هنا. ومع حلول 2006 وهزيمة الجمهوريين الساحقة في الانتخابات النصفية، استبدل الرئيس السابق جورج بوش فريقه للسياسة الخارجية، الذي كان يتألف من المحافظين الجدد بقيادة نائب الرئيس ديك تشيني، بفريق من الواقعيين، تصدرتهم وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس. هكذا انتهت المحاولة الأميركية لنشر الديمقراطية.

في هذه الأثناء كنت قد توطنت في الولايات المتحدة، وصرت أراقب عن كثب، ومن داخل أروقة القرار، عظمة الديمقراطية الأميركية التي حدثنا عنها يوما الصليبي. 

وطغاة العالم، العرب والفرس والروس والصينيين، يخشون النفوذ الأميركي الثقافي الذي يجتاح كل بيت من بيوت العالم، ويخشون أن يحمل هذا النفوذ في طياته ديمقراطية، فتستطيبها هذه الشعوب، وربما تتبناها وتستبدل طغاتها بها. 

لذلك، راحت دعاية الإسلامويين واليسار العربي الخشبي تتهم أميركا بالإجرام في حرب العراق، التي قتلت من العراقيين نذرا يسيرا مما قتله صدام في حروبه وطغيانه، وراحت تشير الى الانحطاط الأميركي كما بدا في فضيحة سجن أبو غريب، التي أظهرت سجانين أميركيين يوقعون الذلّ بسجناء عراقيين. طبعا لم تقل دعاية الإسلامويين واليساريين أن الذي فضح أبو غريب هو الإعلام الأميركي، وأن الجنود الذي ثبت تورطهم واجهوا محاكمات وقضوا سنوات في السجن. 

وراحت الصين تشير إلى صعودها الاقتصادي لتثبت أن رفاهية الشعوب لا تحتاج حرية المواطنين ولا ديمقراطية، وسلطت روسيا دعايتها على الأميركيين أنفسهم، وأقامت حسابات وهمية على مواقع التواصل الاجتماعي بهدف بثّ الفرقة وانتخاب من تتصور أن بامكانه تحطيم الديمقراطية الأميركية من الداخل، عن قصد أم عن غباء. أما إيران، فواصلت دعايتها بث أكاذيب خيالية، من قبيل أن أميركا، التي تكبدت عناء هزيمة داعش، هي التي أقامت التنظيم الإرهابي ورعته ومولته وسلحته. 

انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة أخافني، وعقدت وأصدقاء أميركيين حلقات نقاش، وأعدنا قراءة كتاب هانا أرندت، الذي يصف استيلاء النازية على الحكم في ألمانيا عن طريق الديمقراطية، وبدا لنا أن جزء كبير من الأميركيين صار يرى أن زمن الديمقراطية ولّى، وأن الخلاص يكمن باستيلاء رجل قوي على الحكم، مثل ترامب، الذي كان يعلن بدوره إعجابه بطغاة من أمثال بوتين. حتى أن ترامب نفسه نظّم عرضا عسكريا على غير عادات واشنطن.

ثم جاء هجوم أنصار ترامب على مبنى الكونغرس ومحاولتهم وقف تقاليد انتقال الحكم ديمقراطيا لفرض ابقاء ترامب في البيض الأبيض. واتسعت ظاهرة رفض المرشحين الخاسرين قبول هزيمتهم في الانتخابات، على غرار ترامب، حتى أن بعض المرشحين الجمهوريين الموالين لترامب رفضوا الاعتراف بخسارتهم أمام منافسيهم الجمهوريين داخل الحزب نفسه. ووسط هذه الأجواء، راح الإعلام الأميركي يتحدث عن عاصفة حمراء (جمهورية) في الانتخابات النصفية التي أقيمت الأسبوع الماضي، في وقت كان معظم المرشحين الجمهوريين من موالي ترامب ممن ينكرون خسارته الرئاسة في الانتخابات قبل عامين.

لكن شمس الديمقراطية الأميركية أشرقت، فبانت عظمتها، واتضح أن الموجة الحمراء بالكاد قطرة ماء اذ تكبّد مرشحي ترامب هزائم نكراء، فيما اكتسح الجمهوريون ممن لا يوالون ترامب منافسيهم الديمقراطيين.

في اليوم التالي للانتخابات، أدرك قادة الجمهوريين أن غالبية الأميركيين لا تستهويهم فكرة الاستيلاء على السلطة بأي ثمن، حسب أسلوب ترامب، وأن الأميركيين يفضلون الاقتراع لمرشحي الحزب المنافس لحماية الديمقراطية على التصويت لمرشحي حزبهم الذين قد يقوضون هذه الديمقراطية.

ثقافة الديمقراطية لدى الأميركيين هي التي حمت نظامهم من جنون البعض، من الحزبين، ممن يعتبرون أن المؤسسات أدوات في أيدي المصالح الحاكمة، وأن الحل يقضي بهدم الهيكل بالكامل وإعادة بنائه.

ثقافة الديمقراطية الأميركية جاءت في نفس الأثناء الذي كانت الصين، المتقهقرة اقتصاديا، تمعن في طغيان حكامها، وفي وقت انكشف الضعف العسكري والاقتصادي الهائل لروسيا وطاغيتها.

القرن العشرين كان أميركيا، وفي العقود الثلاثة الأولى من القرن الواحد والعشرين، لا علامات تشي أن قوة أميركا الاقتصادية تخور أو أن تفوقها العسكري يتقهقر. أما سبب تفوق أميركا، فديمقراطيتها، وكل دولة ترغب في حذو حذو الولايات المتحدة، ما عليها الا النظر الى النموذج الأميركي، وتبني الأفكار المؤسسة للجمهورية الأميركية، ومحاولة نشر ثقافة الديمقراطية بين المواطنين، على غرار انتشارها بين الأميركيين. كل ما عدا ذلك نماذج في الحكم تؤدي غالبا الى البؤس والشقاء.

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2022

البؤس العربي في "إعلان الجزائر"

حسين عبدالحسين

قدم البيان الختامي لقمة جامعة الدول العربية، المنعقدة في الجزائر، الأسبوع الماضي، لمحة عن الأمراض العربية المزمنة، والفشل في الرؤية والموقف والأخلاق، وانعدام القدرة على الحكم أو على تصور مستقبل أفضل للعرب في دولهم.

تستثنى من الفشل دول عربية تقدم نجاحات باهرة، مثل الخليجية منها، فيما يعكس البيان انحطاط الأعضاء الآخرين ممن يفرضون آراءهم البائسة على بيانات هذه المنظمة الإقليمية.

على عادتهم، حاول بعض القادة العرب إخفاء فشلهم في الحكم بالحديث عن الشؤون الدولية والإقليمية، فتصوروا أنفسهم طليعيين ساعين للتحرر من قوى الاستعمار والإمبريالية في عالم ولّى منذ عقود.

أما البطولة العربية، فيبدو أنها تكمن اليوم في رفض عالم ذي قطب واحد، أي رفض القوة الأميركية، والمطالبة بعالم متعدد الأقطاب، وكأن الكويت كان لها من يحررها من احتلال العراقي الراحل، صدام حسين، غير القوة الأميركية، وهي القوة ذاتها التي أوقفت مجازر صدام ضد شيعة الجنوب وكرد الشمال. أو كأن أقطاب العالم، لا قوة أميركا، هي التي انتزعت ترسانة بشار الأسد الكيماوية منه بعدما استخدمها ضد السوريين، أو كأن أقطاب العالم هم من رعوا قيام سلطة فلسطينية واعتراف العالم بها. 

ورفض "إعلان الجزائر" لعالم تقوده الولايات المتحدة والغرب هو عنوان سبق أن رفعه الإسلام السياسي في سنوات "الربيع العربي"، التي أمسك بها الاسلامويون بالحكومات، مثل الرئيس المصري، محمد مرسي، الذي سعى لضم مصر إلى "مجموعة بريكس"، وهي مجموعة أظهرت الأيام منذ ذلك الحين فشلها الذريع، حتى في موضوع إقامة مصرف دولي ونقد موحّد.

مؤسفٌ أن تقرر الجامعة العربية أن تذهب إلى الحج والناس عائدة، فترفع شعار عالم متعدد الأقطاب في وقت انتهت الفورة الاقتصادية الصينية، وبان زيف الدعاية الروسية حول قوتها العسكرية المزعومة، التي فشلت في التغلب على جارتها الضعيفة، أوكرانيا.

على أن الفشل الأخلاقي العربي الأكبر يكمن في التناقض الصارخ في دعوة "إعلان الجزائر" المجتمع الدولي إلى فرض إقامة دولة فلسطينية، حسب المؤتمرين العرب، من باب المنطق والإنسانية المجرّدة. لكن هذه الإنسانية، التي يطالب بها العرب في فلسطين، تتبخر في الموقف العربي حول أوكرانيا، فيتبنى "إعلان الجزائر" سياسة عدم انحياز في حرب روسيا على الأوكرانيين. 

هناك، في موسكو، دكتاتور يتماهى معه بعض القادة العرب ويرون فيه أداة مفيدة لمناكفة القوة الأميركية، لذا، لا يريد هؤلاء القادة إغضاب طاغية روسيا، فلاديمير بوتين، فيقفون، والإنسانية التي يطالبون العالم بتطبيقها في فلسطين، على الحياد في أوكرانيا، التي اجتاحها بوتين وارتكب مجازر بسكانها، ويرتكب بحقها جرائم حرب باستهداف البنية التحتية المدنية. 

وفي العالم متعدد القطبية الذي ينشده الزعماء العرب، لا يتلفظ "إعلان الجزائر" بكلمة إيران ولا مرة واحدة. قبل أقل من عام، ضربت الدرونات الإيرانية المفخخة أهدافا مدنية وبنية تحتية نفطية في الإمارات والسعودية. وعلى مدى الأعوام الماضية، قامت إيران وميليشياتها بتنفيذ سلسلة من الاغتيالات في لبنان والعراق، ودمرت اليمن. مع ذلك، لا ترد كلمة عن إيران في "قمامة" الجزائر.

ويقدم "إعلان الجزائر" كمية هائلة من التناقضات في الخطاب الخشبي العربي المعروف حول فلسطين. من ناحية، يتواصل التناقض في طرح حل دولتين ذات سيادة، فلسطين إلى جانب إسرائيل، وفي نفس الوقت التغاضي عن سيادة إسرائيل وإجبارها على السماح بعودة ملايين الفلسطينيين إليها.

من ناحية ثانية، يوصي "إعلان الجزائر" بإتمام المصالحة الفلسطينية بين سلطة محمود عباس وحماس. لكن حماس لا تقبل حل الدولتين، بل هي توافق على دولة فلسطينية وهدنة مع كيان ترفض الاعتراف به وتعد بمواصلة السعي على تدميره.

هكذا، تحت بند واحد للقضية الفلسطينية، تقدم الجامعة العربية ثلاث أو أربع أفكار متضاربة، تناقض واحدة الأخرى، ثم تدعو العالم لدعم هذا التخبط العربي وملاحقة الإسرائيليين أمام القضاء الدولي، وهذا كله في سياق الدعوة إلى سلام مع إسرائيل.

ثم يجود "إعلان الجزائر" بحديثه عن العدالة، لكنها ليست عدالةً داخل الدول العربية تحاسب زمر الفساد الحاكمة في بعض الدول والميليشيات العنيفة التي عاثت قتلا ودمارا في البلاد والعباد، بل هي عدالة مبنية على "المساواة السيادية".

و"المساواة السيادية"، أيها السيدات والسادة، تعني أن بعض الدول العربية ترغب في أن تواصل عيشها في العفن الذي تعيش فيه، مثل السلطة الفلسطينية الغارقة في الفساد المدقع، أو الحكومة التونسية التي قدمت دستورا ضحلا لا عمق فيه ولا رؤية، أو الدول المنهارة كاليمن وليبيا، والمتلاشية كلبنان. "المساواة السيادية" هنا تعني ألا تطالب الدول الغربية بوقف الفساد وبناء دول ليبرالية فعلية، وإن غير ديمقراطية، تمنح المواطنين أمنا وأمانا، وعيشا متساويا تحت ظلّ قانون عاقل وقضاء راشد. 

منذ تأسيسها قبل قرابة 70 عاما، لم تكتسب جامعة الدول العربية احترام الشعوب العربية، بل لطالما كانت مصدرا للاستهزاء العربي، فصدرت فكاهات بحقها، من قبيل "اتفق العرب ألا يتفقوا". كذلك تناقلت ألسن العرب حادثة قيام صدّام بضرب طاغية سوريا الراحل، حافظ الأسد، بصحن سجائر، ويتذكر العرب غالبا تلك المواجهة الفكاهية التي اعتدى فيها نائب رئيس العراق، عزّت الدوري، كلاميا على وفد خليجي وقال لأفراده: "يلعن أبو شواربك، أنت أمام العراق العظيم".

الجامعة العربية كمسرح للتندر والفكاهة، بوجود شخصيات رحلت مثل طاغية ليبيا الراحل، معمر القذافي، كانت أكثر فائدة بكثير من جامعة اليوم، التي تتذاكى بألعابها الكلامية والتي يشكر بيانها رئيس الجزائر، عبدالمجيد تبّون، مرتين أو ثلاثة، وكأن الرجل صاحب إنجازات تجعله في مصاف ونستون تشرشل. 

ثم يقولون لك "إعلان الجزائر" يسعى لخلق "فضاءات لتبادل الأفكار والنقاش المثمر والحوار البناء بهدف توحيد الجهود لرفع التحديات المطروحة"، إلى آخره من بيانات صف الكلام والخرافة العربية.

الثلاثاء، 1 نوفمبر 2022

حكومة في العراق وبصيص أمل

حسين عبدالحسين

نجح محمد شياع السوداني في تشكيل حكومة عراقية يراها كثيرون تابعة لإيران وميليشياتها، فيما يتمسك المعارضون والمستقلون والناشطون بالآراء المراهقة ذاتها، التي تلعن الظلام دائما دون أن تشعل شمعة أبدا.

اختيار السوداني جاء، حسب المراقبين، لأنه من "سياسيي الصف الثاني"، وهو ما سهّل الإجماع حوله، إذ رأى سياسيو "الصف الأول"، وفي طليعتهم نوري المالكي، أن السوداني يمكنه أن يترأس حكومة إلى أن تسنح الفرصة لعودة المالكي إلى هذا الموقع. ومنذ خسارته رئاسة الحكومة على إثر انهيار القوات العراقية أمام "داعش" في 2014، تحوّل "أبو إسراء" إلى مهووس بهذا المنصب وبالعودة اليه.

لكن من يعرف التاريخ يدرك أن عددا لا بأس به من سياسيي "الصف الثاني" تحولوا إلى زعماء ومستبدين، من أمثال مرشد إيران، علي خامنئي، الذي حاز على منصبه بسبب انقسام الكبار واعتقاد كل منهم أن مصلحته تقضي بتعيين شخصية ثانوية يمكنه التحكم بها.

ومثل خامنئي، كان المالكي نفسه سياسي "صف ثاني" عندما وقع الاختيار عليه لرئاسة الحكومة للأسباب نفسها.

لكن إلى أن يظهر خير السوداني من شرّه، يمكن تسجيل بعض الملاحظات على تشكيلته الحكومية وبيانه الوزاري.

شكّل تعيين عبد الأمير الشمري وزيرا للداخلية صفعة لميليشيات "الحشد الشعبي" الموالية لمرشد إيران، فالداخلية تسدد رواتب مقاتلي الحشد، البالغة ملياري دولار سنويا، والشمري ضابط متمرس أقسم ولاء للدولة ودستورها، ولا تستهويه خزعبلات الميليشيات.

وبين الشمري والميليشيات الموالية لإيران تاريخ من المواجهات، مثل في 2015، عندما أمر وزير الداخلية الجديد، وكان آمرا لعمليات بغداد، باجتياح مقر "كتائب حزب الله"، أكبر الميليشيات وأكثرها ولاء لخامنئي، ودار اشتباك مسلّح.

السوداني تفادى الحديث عن الميلشيات، التي تطالب غالبية العراقيين، وغالبية الشيعة منهم، بحلّها ونزع سلاحها. لكن السوداني لفت في البيان الوزاري إلى أن دولة العراق ماضية في دعم قواتها النظامية، لأنها الضامن الوحيد للسلم الأهلي والأمن القومي وفرض القانون، وهو ما يشي بأن رئيس الحكومة الجديد قد يراهن على حصر استخدام العنف بالقوات الحكومية دون الميليشيات الخارجة عن القانون. 

كذلك أظهر تعيين طيف سامي وزيرة للمالية جدية السوداني في مكافحة الفساد، فهذه السيدة، المتمرسة في وزارة المالية منذ 1985، تتمتع بسمعة طيبة حول نظافة كفها ومكافحتها للفساد وتصديها للفاسدين، بمن فيهم أعتى السياسيين والميليشياويين، الذين قاموا بتهديدها مرات ومحاصرة منزلها مرة.

على أن السوداني أخذ بيساره ما قدمه بيمينه، فهو إلى تعيينه كفاءات مثل الشمري وسامي، قام بتعيين ميليشياويين وحلفاء المالكي، المشهور بفساده.

في وزارة العمل، عيّن السوداني أحمد الأسدي وزيرا، وهذا سبق أن عمل ناطقا باسم ميليشيات الحشد الشعبي وقائدا لميليشيا "جند الإمام". كما سبق للأسدي أن زار الولايات المتحدة لحشد التأييد بين أفراد الجالية العراقية لميليشيات الحشد. 

أما في وزارة الاتصالات، فعيّن السوداني هيام كاظم وزيرة. وسبق للسوداني نفسه أن شنّ حملة على شركات الخليوي العاملة في العراق واتهمها بالتحايل وتحقيق أرباحا طائلة دون تسديد ما يكفي للدولة. لكن مع حلفاء المالكي في هذه الوزارة، يصبح مستقبل مكافحة الفساد فيها غير مضمونا.

إذا، في حكومة السوداني مصائب، وفيها بصيص أمل. أما اعتراض المعترضين على المحاصصة، فسببه انعدام الثقافة السياسية بين العراقيين، فبناء التحالف من الكتل البرلمانية هو في صميم العمل الديمقراطي.

ما يزعج هؤلاء ليس المحاصصة في التشكيلة الحكومية، بل تقاسم الغنائم بين المشاركين في الائتلاف الحكومي، وهو فساد يحتاج إلى نية سياسية لدعم مؤسسات الرقابة والمحاسبة، ولا حلّ في إقصاء الجميع واستبدالهم بـ "مستبد عادل"، عفيف نظيف الكف حسبما يتخيل البعض، فالاستبداد طامة، وهو مفسد بطبيعته، وحتى لو وصل نظيف الكف إلى سدة الحكم، من شأن استبداده وغياب إمكانية معارضته أو الوقوف في وجهه، أن يفسده ويحوله إلى فاسد.

كذلك لا يدرك التغييريون العراقيون، مثل نظرائهم اللبنانيين، أن التغيير لا يأتي من رأس الهرم، بل من أسفله. فالتغيير يحتاج إلى نشر ثقافة الليبرالية والحرية بين الناس، وتغيير أطباعهم.

مثلا، لا يعقل ألا يلاحظ التغييريون العراقيون مشكلة عبارة "الإسلام مصدر للتشريع" في الدستور العراقي، وعبارة "الله أكبر" على العلم، وألا يدركوا أن رفع الآذان عبر التلفزيون الرسمي، وقراءة تلاوة قرآن أثناء انعقاد جلسة مجلس النواب، هي تعد على الحريات الفردية والعامة، فالدين لله والوطن للجميع، من يؤمن بالإسلام والله ومن لا يؤمن، كما من يؤمن بالأديان الأخرى ومن لا يؤمن، ولا يجوز أن يطغى أي معتقد، حتى معتقد الغالبية، على دستور البلاد، ولا على علمها، أو على مساحاتها العامة، أو مؤسسات الدولة فيها.

لكن إلى أن تنتشر بعض ثقافة الليبرالية والديمقراطية بين العراقيين، أو على الأقل بين النخبة منهم، لا بأس من قبول أفضل الموجود، والتعامل معه كواقع لا بد منه، ومحاولة البناء عليه وتحسينه.

أما شعارات المراهقة مثل "كلا كلا" العراقية و"كلن يعني كلن" اللبنانية، وسياسات التخبط والاستقالة من البرلمان واعتزال السياسة، يوم الجمعة، والعودة إليها، يوم السبت، فهذه انفعالات قد تبدو عفوية صادقة لكنها لا تبني دولا. هي سياسات خنفشارية تافهة، مثل سياسات الطاغية الراحل، صدام حسين، الولد البسيط الذي أثارت السلطة والشهرة، أو "الكشخة" وفق العراقيين، جنونه، فصار عالة على نفسه وناسه وبلاده، وقادها من جحيم إلى جحيم.

السوداني ما زال كمية مجهولة. حتى الآن لا يبدو صاحب كاريزما، ولا يظهر أن لديه ذكاء فطري أو موهبة. لكن السوداني يبدو صاحب نية وفكرة، فهل ينجح في تحقيق أفكاره الجيدة التي وردت في بيانه الوزاري، مثل تحويل اعتماد العراق اقتصاديا من النفط إلى القطاع الخاص واقتصاد الخدمات؟ أم أنه مثل من سبقه، يقدم أفكارا براقة ووزراء ذوي كفاءة، ثم ينهمك في محاولة تمديد إقامته في قصر رئاسة الحكومة بأي ثمن ممكن؟

Since December 2008