الثلاثاء، 27 سبتمبر 2022

ردا على كتابها "ينادوني لبؤة" رسالة إلى عهد التميمي

حسين عبدالحسين

عزيزتي عهد،

سلام وبعد. قرأت باهتمام كتابكِ الصادر مؤخرا بالإنكليزية بعنوان "ينادوني لبؤة" حول تحريضك لشن عمليات ضد إسرائيل وانخراطك في مواجهات مع جنودها، ما أدى لاعتقالك ثمانية أشهر في سجن هاشارون ومنحكِ شهرة عالمية. 

اسمحي لي أن أقدم نفسي. أنا أميركي، عربي المولد والنشأة والثقافة. في سني الجامعة والشباب في لبنان، انخرطت في العمل الطلابي وآمنت بقضية فلسطين مستندا إلى نفس التعليل الذي تقدمينه في كتابكِ. يوم زارتنا في "الجامعة الأميركية في بيروت" وزيرة الصحة الأميركية السابقة، دونا شلالا، جلست في الصف الأمامي والكوفية على اكتافي استفزازا. شاركت في كل التظاهرات لدعم الفلسطينيين، ورافقت أعضاء مجلس الشيوخ البلجيكيين في تحقيقاتهم في مجازر مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين، وسهلت تغطية إعلاميين أميركيين لفلسطينيين رفعوا مفاتيح بيوتهم الحديدية القديمة، وسندات ملكياتها في مخيم عين الحلوة. كانت المظلومية الفلسطينية واضحة أمام عيني بنفس وضوحها في عينيكِ اليوم. ثم كَبِرت.

ربما تعرفين المثل القائل أنك إن لم تكن ثوريا في شبابك فأنت بلا قلب، وإن بقيت ثوريا بعد عمر الشباب، فأنت بلا عقل. تقولين أنك تسعين لشهادة في الحقوق لتثقيف الفلسطينيين حول حقوقهم في حالات اعتقالهم. هذا يشي بأنك تخالين أن الصراع أزلي، وأنك تختارينه — للأسف — طريقة حياة لك وللفلسطينيين. الصراع، أي صراع عسكري أم مدني، هو وسيلة لحياة أفضل، ويصبح عبثيا إن تحوّل إلى طريقة عيش، وأنت الأدرى بذلك إذ أنكِ نشأتِ في ظلّه. هو دوامة من العنف والثأر. الموت يخطف بعض من تحبين. السجن يصبح عادة، فتخرجين وأمكِ من السجن ليدخل أبوكِ وأخواكِ وعد وأبو يزن. هذه ليست حياة. 

الحياة هي السعي للاستقرار، وتحصيل العلم، والعمل الدؤوب، وحرية العبادة أم عدمها، وحرية التعبير عن الرأي، والسعي لتأمين حياة أفضل للجيل الذي يلينا من التي عشناها، لا إعداده للتعامل مع نفس حياة البؤس والمواجهات والاعتقال التي عشناها. 

أنا ولدت وترعرت في حرب لبنان الأهلية وحروب العراق كلها. كان هروبنا مستمرا من جحيم متواصل في نقاط مختلفة: بغداد، بحمدون، بعلبك، بيروت. خسرنا في كل منها أراضٍ، وبيوت، وأقارب، وأصدقاء. لذا، قطعت عهدا على نفسي أن أسعى لحياة أفضل لي أولا ولأولادي من بعدي.

هكذا انخرطت في التغيير في العراق ولبنان. لكن الثورة والتغيير في دنيا العرب عبث ولا تؤثران في مجرى الأمور، بل إن أوضاع البلدين هي اليوم أسوأ بكثير عما كانت عليه في زمن سكني في المنطقة. أما المفارقة فهي أن لبنان والعراق — على عكس فلسطين — يتمتعان بسيادة كاملة. لكن السيادة لا تؤثر في دنيا العرب، بل أن المشكلة هي في انعدام الثقافة المدنية والدستورية لدى الغالبية. 

إن أجمل فكرة وردت في كتابِك هي أنه "علينا كفلسطينيين أن نكون صادقين مع أنفسنا، وأن نعترف أن مشاكلنا لن تصل لحلول فورية عندما ننهي الاحتلال (الاسرائيلي)"، والأرجح أنها فكرة تواترت اليكِ في السجن تحت تأثير "خالتو خالدة" جرار، التي تنتمي لـ "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، ذات التوجه العلماني الماركسي الذي يولي تحرر المرأة في المجتمعات العربية أهمية كبيرة.

ما أختلف فيه معك، ومع "خالتو خالدة"، هو أن حلول مشاكل الفلسطينيين، كباقي العرب، لا ترتبط بإسرائيل، ولا بالاحتلال، ولا بالسيادة العربية أو عدمها، بل أن استمرار الاحتلال سببه الفشل الفلسطيني — كما اللبناني والسوري والعراقي — في انجاب دول حديثة قادرة على استلام السيادة من الإسرائيليين. 

والفشل العربي يتجلى في معتقدات مثل التالية التي أوردتها: "حتى يحقق الفلسطينيون أي شيء ذي معنى، نحتاج أولا إلى وحدة وطنية وقيادة قوية". طبعا هذه فكرة قديمة وردتك من المحيط العربي الذي نشأتِ فيه، والذي يتخيل أن سر النجاح هو الانضباط، والعسكر، والقوة، فيما الواقع هو أن سر نجاحات الدول الغربية وإسرائيل هو عكس ذلك تماما. نجاح الدول مبني على تعدد الآراء وتضاربها، والقدرة على تنظيم الاختلاف في الرأي، ومنح القيادة للرأي الذي يحوز على الغالبية في الانتخابات.

وتعدد الآراء ينحصر في صنع السياسات، أما الأمور المصيرية فتحتاج لإجماع. عندما تبنت "منظمة التحرير" حل الدولتين ودعت المجتمع الدولي لإقراره وفق قرارات ملزمة صادرة عن مجلس الأمن الدولي، كان ذلك باسم الشعب الفلسطيني ككل، وهو ما يعني أنه لما استلمت حماس الحكم بالانتخابات، كانت مجبرة على التزام هذه الاتفاقيات والتنسيق أمنيا مع إسرائيل. لكن حماس لا تعترف بالمجتمع الدولي ولا بقانونه، وهي شنت عمليات انتحارية في زمن المفاوضات أظهرت أن عرفات لا يمثل الفلسطينيين، وتاليا لم يبصر حل الدولتين النور، وتعثّر في منتصف الطريق، وصار عبارة عن كائن هجين: لا هو حرب ولا هو سلم. 

على أن حماس لو التزمت وعود "منظمة التحرير" لإسرائيل والعالم، لكانت حكومة فلسطينية اليوم تتمتع بسيادة على كل الضفة، بما فيها "المنطقة ج"، حيث بلدتك النبي صالح، وحيث نبع مياهِك المفضل عين قوس، ولكانت دولة فلسطين تحكم الضفة وغزة من مقرّ لها في القدس الشرقية، ولكنتِ أنتِ قادرة على زيارة عكّا في إسرائيل متى شئتِ، كما يزور أي أردني أو مصري أو إماراتي أو بحريني أو تركي عكّا وحيفا ويافا وباقي إسرائيل. 

أما عرب إسرائيل، فدعيهم يتحدثون عن أنفسهم. هم أوضاعهم أفضل من كل عرب المشرق، فيما تظهر الانتخابات الإسرائيلية أنهم ينقسمون إلى ثلاث كتل: واحدة تتبنى الصهيونية وتنخرط في أحزابها مع حفاظها على ثقافتها العربية كأقلية، وثانية عربية غير صهيونية تشارك في دولة إسرائيل مثل كتلة رعم، وثالثة تعارض وجود دولة إسرائيل بالكامل مثل كتلة المشتركة وحزب بلد في الكنيست. أما لو شاء عرب إسرائيل الانضمام إلى دولة فلسطين لو قامت، فيمكنهم ذلك إما بضم مناطقهم المجاورة للضفة إلى الدولة الفلسطينية، أو بحمل جوازات فلسطينية مع إقامة دائمة في إسرائيل، أي يصبحون مواطني فلسطين ويعيشون في إسرائيل بدون حق الترشح والانتخاب.

عزيزتي عهد،

كل الأفكار التي أوردتها حول "المقاومة" و"الصمود" هي أفكار عفا عليها الزمن، وأثبتت فشلها على مدى القرن الماضي. حتى يحيا الفلسطينيون حياة أفضل، عليهم التخلي عن حلم إزالة إسرائيل وإقامة دولة فلسطينية مكانها، وعلى الفلسطينيين تقديم أفكار قابلة للحياة للمجموعتين. مثلا، عندما تغمضين عينيك وتتخيلين أن "فلسطين تحررت"، تقصدين تحررت ممن؟ إذا كنتِ تعتقدين أن العرب واليهود سيعيشون بمساواة في دولة واحدة، هذا يعني أن كلمتي احتلال وتحرير لا تصفان الوضع لأن التحرير من الاحتلال يقضي بجلاء المحتل، فيما أنتِ تقترحين العيش بمساواة مع المحتل نفسه، وهذا تناقض. لو كنتِ ساعية للعيش بمساواة فلن تنشدي التحرير، بل لطالبتِ بحقوق متساوية مع الإسرائيليين بعد قسمك الولاء لإسرائيل. أما إن كان هدفك السيادة الفلسطينية، فلا مناص من حل الدولتين.

وحتى يصبح حل الدولتين ممكنا، على الفلسطينيين التخلي عمّا يسمونه "حق العودة"، الذي ينص عليه قرار صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقرارات الجمعية هذه غير ملزمة. لكن قرارات مجلس الأمن، التي تكرّس حل الدولتين، ملزمة، وهو ما يعني إن كان القانون الدولي هو ما تصبين إليه، فهو يملي بالتخلي عن الدولة الواحدة وتبني حل الدولتين، فلسطين عربية خالصة إلى جانب إسرائيل، يهودية خالصة بدورها. 

إن مفتاح خلاص الفلسطينيين هو تخلصهم من ثأر الماضي، وتطلعهم نحو مستقبل أفضل، وهو ما يقتضي نظرهم إلى الأمور بواقعية، ومقارنة إمكاناتهم وإمكانات الإسرائيليين، وهنا لا أقصد العسكرية، بل التفوق الإسرائيلي في البنية السياسية والثقافية والعلمية والاجتماعية والحريات الخاصة والعامة. 

في اليوم الذي يدرك فيه الفلسطينيون أنهم متأخرون عن الإسرائيليين في قدرتهم عل بناء دولة وإدارتها، سيدركون أيضا أن مصلحتهم تقضي بتسليم السيادة للخبّاز حتى لو أكل نصفها. فقط تأملي كيف يتظاهر عرب إسرائيل كل مرة تعرض إسرائيل ضم مناطقهم إلى حكم السلطة، ففلسطينيي الداخل يدركون أنه على الرغم من تمتع اليهود بحظوة أكبر لدى الدولة، إلا أن وضعهم أفضل بكثير من سائر عرب المشرق.

عزيزتي عهد،

عندما ابتعتُ كتابك كان أملي أن أطالع أفكارا خلّاقة يقدمها جيل جديد. ثم خاب أملي عندما رأيتني أقرأ سطورا قلتِ فيها أن مانديلا لم يكن مناضلا سلميا بل كان داعية مقاومة مسلحة وحرب. خاب ظني أني بدلا من قراءة أن الجيل الجديد ملّ الموت والثأر والاعتقال، قرأت أنه يستعد لجولة جديدة منها. للأسف.

الثلاثاء، 20 سبتمبر 2022

التغييريون واستعادة الكويت

حسين عبدالحسين

نجح التغييريون في الكويت في تكبيد المحافظين والإسلامويين هزيمة سياسية تشي بأن حظوظ التغييريين كبيرة في إحراز انتصارات، وإن صغيرة، في انتخابات "مجلس الأمة" المقررة في التاسع والعشرين من الجاري. وتجلّى انتصار التغييريين في فشل الإسلاميين في حمل المرشحين على توقيع وثيقة تنتمي للعصور الظلامية أسموها "وثيقة القيم".

فمن أصل 376 مرشحا، بلغ عدد الموقعين على الوثيقة 48 فقط، أي 12 في المئة، وهو ما يمثّل على الأرجح الشعبية المتدنية للإسلام السياسي، خصوصا في دولة كالكويت تعيش غالبية سكانها في بحبوحة، وهو ما يحرم الإسلامويين فرصة بناء قاعدة شعبية مستندة إلى شبكات رعاية اجتماعية، كعادة تنظيمات الإسلام السياسي في الدول ذات الغالبية السكانية المسلمة. 

ومما ورد في "وثيقة القيم" أن المرشح للبرلمان الكويتي يتعهد بـ"العمل على تطبيق منع الاختلاط" في المؤسسات التربوية "بما يحقق فصل مباني الطلاب عن مباني الطالبات". كما ترفض الوثيقة "مهرجانات الرقص الهابطة وحفلات الرقص المختلطة التي تخالف الآداب والذوق العام والقانون". 

ومن بنود الوثيقة أيضا "رفض المسابح والنوادي المختلطة، والعمل على تفعيل قانون اللبس المحتشم، ووقف عرض الأجساد بما يخدش الحياء على الواقع وفي مواقع التواصل، وتطبيق قانون تجريم الوشوم الظاهرة على الجسد"، فضلا عن تجريم "سب الصحابة". 

كل ما كان ينقص "وثيقة القيم" الكويتية الطلب إلى الحكومة تأسيس شرطة فضيلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على طراز الشرطة السعودية التي كانت معروفة بـ "المطاوعة"، والتي كان أكبر انجازات الحكومة السعودية حلّها ومنح السعوديين حريات فردية تتضمن كيف ومتى يعبدون، وما يلبسون، وكيف يتصرفون — رقصا أم غناء أم سباحة. 

مسكينة الكويت التي لاتزال بعض القوى السياسية فيها تدفعها باتجاه العصور الظلامية بدلا من الالتحاق بالزمن القائم وتحويل البلاد إلى اقتصاد معرفي قادر على التنافس في الاقتصاد العالمي لتخفيف اعتماد الكويت على عائدات النفط، وترشيق القطاع العام، وإصلاح مسار الموازنة العامة.

جارتا الكويت، السعودية والإمارات، سارتا في ركب التغيير، وتداركتا أهمية إقامة حيّز عام معولم يقبل الحريات الفردية ويسمح للبلاد المنافسة في الاقتصاد العالمي المبني على المعرفة والخدمات. 

أما الكويت، فتعاني مما كانت تعاني منه السعودية قبل العام 2015: قادة حكماء إجلاء ولكن طاعنون في السن ولا قدرة لديهم على التحديث، ولا تصور لديهم حول كيفية تمرير القيادة للجيل الحالي، ويقتصر ما يسعون إليه — مشكورين طبعا لضرورته — على الحفاظ على التماسك الوطني والاستقرار العام، وهذا ما أملى عليهم مسايرة المحافظين والإسلام السياسي، محليا وإقليميا. 

وفي غياب قادة كويتيين شباب تحديثيين، من أمثال ولي عهد السعودية محمد بن سلمان، وقعت مهمة مواجهة الإسلاميين، ورفع راية التغيير واستعادة الكويت، على مرشحين شباب من أمثال المرشح في الدائرة الرابعة عبيد الوسمي والمرشح في الدائرة الثالثة جاسم الجريد، والذي يجاهر بإعلاء مصالح الكويت وتقليد نموذجي الإمارات والسعودية في الانفتاح على العالم وبناء اقتصاد معرفي معولم.

وكان بعض التغييريين في "مجلس الأمة" الأخير حاولوا الالتفاف على المحافظين والإسلامويين بالمزايدة عليهم في موضوع مقاطعة إسرائيل ومناصرة فلسطين، لكن هذه "المجاملة" لم تنقذ الحكم الكويتي ولا حلفائه من حقد المعارضة ضدهم وتعطيل الدولة بشكل عام، وهو ما دفع بعض أبرز البرلمانيين، من أمثال رئيس "مجلس الأمة" مرزوق الغانم، إلى الاعتكاف عن الترشح. 

والغانم مشرّع في منتصف العمر، أظهر طاقة وحنكة كبيرتين على مدى العقد الماضي، لكنه وكتلته لم يتمكنا وحدهما من دفع الكويت في اتجاه التغيير والانفتاح، ولم ينجحا في التخلص من الشعبوية والمزايدات في قضية فلسطين. ودفع انسحاب الغانم إلى ترشح برلمانيين سابقين يقارب عمرهم التسعين، طامحين لقيادة المجلس، وكأن كل ما ينقص الكويت المزيد من القادة الطاعنين في السن.

ولا يزال التغييريون الكويتيون اليوم يخشون مواجهة المحافظين والإسلامويين في موضوع السلام بين الكويت وإسرائيل، على الرغم من رفع التغييريين شعار "الكويت أولا". هذه الخشية مصدرها أن القضية الفلسطينية تحولت طوطما إيمانيا لا يرتبط بالمصالح الوطنية ولا بالسياسات، فاقتراح "تغليظ العقوبات" على التعامل أو التطبيع مع إسرائيل كان سيؤدي إلى منع شركات خليجية وعالمية من العمل في الكويت، وهو ما يؤدي إلى حرمان استثمارات أجنبية في الاقتصاد الكويتي وتاليا يجبره على الاعتماد أكثر على عائدات النفط. والمحافظون من معارضي التطبيع، المتوقع عودتهم إلى "مجلس الأمة"، لا يبدو أنهم يدركون أن للشعبوية حول فلسطين ثمن، وأن هذا الثمن هو فعليا عافية الاقتصاد الوطني وتاليا مصالح الكويت ككل.

ثم أن كل المواقف الكويتية لا تقرّب ولا تؤخّر في وضع الفلسطينيين، ولا هي حتى تشتري تعاطفا فلسطينيا تجاه الكويت، إذ يندر أن يعثر المرء على موقف فلسطيني واحد يلعن العراقي صدام حسين الذي اجتاح الكويت يوما ودمرها.

في العالم العربي نموذجان. الأول فيه دول تعي مصلحتها وتعليها على عواطفها، فلسطين أو غيرها، وتتعامل بعقلانية وواقعية مع الأمور، وتعرف أن العالم في سباق لبناء اقتصادات معرفية منفتحة على كل الشعوب والدول، بغض النظر عن تاريخ الصراعات معها (العلاقة الممتازة اليوم بين أميركا واليابان أو ألمانيا مثالا)، والثاني فيه دول تغرق في الشخصانية والنميمة، إن في الديوانيات أو على وسائل التواصل الاجتماعي، وتتلهى بصغائر الأمور والعواطف، كالدين وفلسطين، وتنسى الصورة الكبرى — أي مصلحة الكويت.

بعد تسعة أيام سيتوجه الناخبون الكويتيون إلى صناديق الاقتراع. في مصلحتهم انتخاب ليبراليين وتغييريين شباب من أمثال الوسمي والجريد وغيرهما، واختيار أصحاب السياسات الواضحة للانتقال بالدولة إلى اقتصاد عصري يستقل عن عائدات النفط ويرتكز على القطاع الخاص، وهذا قوي جدا ومتطور اليوم في الكويت، وأن تطوي الكويت صفحة الريعية المبنية على وظائف القطاع العام وشعارات الماضي البائد، فلسطين أو غيرها.

الثلاثاء، 13 سبتمبر 2022

رئيس لبناني لقضية فلسطينية

حسين عبدالحسين

قدم 13 عضوا في مجلس النواب اللبناني - يطلقون على أنفسهم "كتلة النواب التغييريين" - رؤيتهم لرئيس لبنان المتوقع انتخابه لخلافة ميشال عون، الذي تنتهي رئاسته المشؤومة منتصف الشهر المقبل. رؤية التغييريين ضاهت بركاكتها الفكرية والسياسية الضحالة اللبنانية الحاكمة، وهو ما يؤكد أن مشكلة لبنان أعمق من فشل وفساد حكّامه إذ أن "دود الخل منه وفيه"، حسب القول المحلي.

وللإنصاف، لا يتبنى كل التغييريين هذه الركاكة، فمن سنح له الاطلاع على مسودة "حزب تقدم" حول رؤيته للرئيس المتوقع والرئاسة، يري أن "حزب تقدم" متقدما بأشواط، فكريا وسياسيا، على كتلة النواب التغييريين، والأرجح أن نائبي "تقدم" وافقا على رؤية التغييريين في سبيل الحفاظ على تماسك الكتلة التغييرية داخل البرلمان.

وتنص رؤية التغييرين على ضرورة انتخاب رئيس "يكون فوق الأحزاب والأطراف، فوق الاصطفاف، فوق الفئويّة، فوق الاستئثار، فوق التبعيّة، متحرّرا من كلّ التزام مسبق"، وهذا شرط يعاكس أصول الديموقراطية، إذ أن رؤساء الدول ليسوا قديسين، ولا هم فوق الانقسامات الشعبية والحزبية، بل أن الرؤساء يفوزون بمناصبهم وفقا لانحيازاتهم المعلنة لسياسات دون أخرى، وهي انحيازيات تعود عليهم بدعم أحزاب وفئات وتيارات تجتمع على انتخاب هذا الرئيس أو ذاك، وتسانده في فترة حكمه، فلا يكون الرئيس طوباويا صوريا لا قاعدة شعبية له لتؤيد مواقفه وسياساته.

إلا أن الطامة الأكبر تمثلت في إضافة التغييرين الى مواصفات رئيس لبنان المنشود شرط أن يكون متمتعا بـ"إيمان مطلق بالقضية الفلسطينية". طبعا، شرط انحياز رئيس لبنان للقضية الفلسطينية يتنافى مع مطلب التغييريين أن يكون الرئيس "فوق الاصطفاف"، وبلا انحياز، فالقضية الفلسطينية لا تتمتع بإجماع اللبنانيين، وتتطلب تاليا انحيازا مع فريق ضد آخر.

بعيدا عن التناقض في المطالبة برئيس لبناني "مؤمن بالقضية الفلسطينية" يكون في الآن نفسه حياديا، تبدو ضحالة التغييريين واضحة في تخبطهم في التمييز بين المواضيع الإيمانية والمصلحة اللبنانية. في المصلحة لا مكان للعواطف ولا للمشاعر. قد يرى هؤلاء النوّاب أن القضية الفلسطينية عادلة ومحقة وأن إسرائيل متوحشة ومفترية، إلا أن رأيهم هذا لا يهم، ولا يرتبط بمصالح لبنان، ويجب تاليا أن لا يرتبط بسياساته أو باختيار سلطتيه التنفيذية أو التشريعية.

الدول، كل الدول، هي كيانات طوعية قائمة على تراضي مواطنيها بالعيش وفق "عقد اجتماعي" غالبا ما يسميه الناس دستور. هذا الدستور يعامل المواطنين بالتساوي بغض النظر عن جنسهم أو اثنيتهم أو معتقدهم، وهو ما يعني أنه لا يهم إن كان الفلسطينيون عربا أو مسلمين أو مشرقيين مثل غالبية اللبنانيين. طالما أن الفلسطينيين فلسطينيون واللبنانيين لبنانيون، تبقى دولة لبنان مدينة لمواطنيها بحماية ورعاية وسهر على مصالحهم، ولا تشمل هذه الرعاية غير اللبنانيين، فلسطينيين أو غيرهم. وهذا قول لا يلغي التضامن الانساني مع غير اللبنانيين، لكن التضامن شيء ورهن سياسات لبنان بفلسطين أو سوريا أو غيرها شيء آخر.

ومن نافل القول إن لدى الفلسطينيين أنفسهم إدراكا أكبر للوطن والمواطنية من اللبنانيين. مثلا، لا نرى الفلسطينيين يرفعون أعلام لبنان، ولا نراهم يشنون حملات على وسائل التواصل الاجتماعي للمطالبة بعودة مدخرات المودعين اللبنانيين، ولا ينظمون حملات تبرع مالي لشراء أدوية للبنانيين أو لتأمين الكهرباء أو الانترنت. فعليا، يندر أن ترى فلسطينيا يتفاعل مع قضايا اللبنانيين عدا عن تهليله لحزب الله اللبناني كلما انخرط الأخير في مواجهة مسلحة مع إسرائيل، بغض النظر عن التكلفة الباهظة التي يتكبدها اللبنانيون لمواجهات من هذا النوع.

غالبية اللبنانيين لا يبدو أنها تفهم معنى الدساتير والمواطنين والدول، بل هي تعامل القضية الفلسطينية بمثل الإيمان الديني الخارج عادة عن النقاش، كما عن السياسات والمصالح. والإيمان فعل لا يرتبط بالمنطق أو العقلانية، إذ أن المطلوب من المؤمنين عادة ترديد عبارات ماورائية تأثيرها غير مادي ولا محسوس.

والقضية الفلسطينية كالأديان، لا بداية لها ولا نهاية، ولا حتى الفلسطينيين أنفسهم لديهم رؤية واضحة لأهداف معينة يمكن تحقيقها في فترة زمنية معلومة، بل أن الفلسطينيين ينخرطون في ما يسمونه "صراع أجيال" مع الإسرائيليين، ويرفضون قياس أوضاعهم المعيشية وفقا لمقاييس مفهومة، بل يعلون المشاعر والأحاسيس غير المادية حول الكرامة والعنفوان على العلم والقياس، وهو ما حوّل الصراع الفلسطيني الى ديني لا عقلاني، لا أهدافه واضحة، ولا ارتباط المصالح الفلسطينية به جلية.

ولأن الفلسطينيين يتخبطون في صراعهم، صار موقفهم الوحيد الشكوى والمظلومية، وصارت خطتهم الوحيدة الهتافات والمكابرة، فلماذا ربط لبنان بصراع عبثي لا أول له ولا آخر؟ وماذا يعني "الإيمان المطلق" بالقضية الفلسطينية؟ هل يعني نسج سياسات لبنان وفق حل الدولتين الذي تقبل به السلطة الفلسطينية القائمة في رام الله؟ أم وفق رؤية حماس لطرد كل الإسرائيليين وإقامة دولة إسلامية من البحر الى النهر؟ أم أن "الإيمان المطلق" بالقضية الفلسطينية يعني تمسك اللبنانيين بحل الدولة الواحدة الثنائية القومية الذي ترفضها غالبية من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي؟

ثم ماذا تعني سياسة تمسك لبنان بالقضية الفلسطينية؟ تعني في الغالب رفض السلام والتطبيع مع إسرائيل، وهو ما يعني خسارة لبنانية بمليارات الدولارات من التجارة الممكنة مع دولة إسرائيل، كما من السياحة والاستثمارات الدولية التي يمكن أن تتدفق على لبنان بسبب السلام (لا كرمى لعيون إسرائيل، ولكن بسبب الاستقرار وامكانية الافادة من سوقين متجاورتين لبنانية وإسرائيلية).

لم يعر التغييريون وقتا كافيا للتفكير في إصرارهم على انتخاب رئيس لبناني لقضية فلسطينية، ولا يبدو أنهم فكروا مليا في تنافي هذا المطلب مع مبدأ الدولة، ومع السياسات المطلوبة لحماية مصالح لبنان ومواطنيه لا سياسات لمصلحة قضية الجيران.

طريق لبنان إلى التغيير طويلة، وهي للأسف لم تبدأ بعد، ويبدو أنها مثل القضية الفلسطينية، جدولها الزمني مرتبط بالأجيال، لا بالسياسات الآنية ذات الجداول الزمنية المعلومة، ولا بالانتخابات البرلمانية أو الرئاسية.

الثلاثاء، 6 سبتمبر 2022

هزيمة نظام إيران في العراق

حسين عبدالحسين

لم يفطن النظام الإسلاموي في إيران لحجم المشكلة العراقية التي يغرق فيها. اعتقدت طهران أن أي مجموعة سكانية شيعية حول العالم تشكّل أرضا خصبة لتجنيد موالين للنظام الإيراني فيصبحون شيعة ينخرطون في حروبه الاستخباراتية والإرهابية والميليشياوية، وأن العراق، ذو الغالبية الشيعية، سيتحول إلى أكبر دولة تابعة للنظام الإيراني. 

لكن حسابات طهران فشلت لأسباب متعددة لم يأخذها الايرانيون في عين الاعتبار، أولها ضخامة الكتلة الشيعية العراقية. في لبنان، مثلا، مليون ونصف شيعي، وفي البحرين مئات الآلاف، وهو ما يعني أنه يمكن للنظام الإيراني تخصيص مرتبات لغالبية شيعة لبنان والبحرين، وتمويل شبكة خدمات اجتماعية لهم ومؤسسات تربوية وصحية وترفيهية.

مقابل التقديمات الإيرانية، تتوقع طهران ولاء هؤلاء الشيعة للولي الفقيه الإيراني، علي خامنئي، فلا يبخل هؤلاء على إيران، ويتحولون إلى "جنود في جيش الولي الفقيه"، على حسب قول زعيم "حزب الله" اللبناني، حسن نصرالله، ويقاتلون حتى أبناء بلدهم خدمة لطهران.

ويقوم "جيش الولي الفقيه" بكل ما تطلبه منه إيران، من محاولة اغتيال الكاتب سلمان رشدي في الولايات المتحدة، إلى رمي صواريخ من لبنان على إسرائيل لثنيها عن تعطيل البرنامج النووي الإيراني، أو ابتزاز دول جوار إيران، خصوصا الخليجية منها. هذا في لبنان والبحرين.

لكن الوضع في العراق يختلف كليا، حيث يبلغ تعداد الشيعة أكثر من عشرين مليون نسمة، وهو ما يجعل من المتعذر على إيران تخصيص مرتبات لهم أو تأمين خدمات اجتماعية مقابل ولائهم.

ثم أن عائدات الدولة العراقية من النفط أكبر من عائدات إيران، وهو ما يدفع الزعماء العراقيين للسباق إلى الحكم واستخدام عائداته لإقامة شبكات ريعية موالية لهم ومنفصلة عن إيران، وتقوم هذه الشبكات غالبا بمنافسة إيران، كما في زمن رئاسة نوري المالكي للحكومة الذي واجه إيران ولم يعد إلى التحالف المصلحي معها إلا بعد خروجه من الحكم.

ويتفوق العراق على إيران بشيعيته، فالعراق هو مهد المذهب الشيعي، فيه قبور ستة من الأئمة الاثني عشر: علي بن أبي طالب والحسين ابنه، وموسى الكاظم، ومحمد الجواد، وعلي الهادي، والحسن العسكري. وفي دنيا الشيعة، تتصدر مكة مدن العالم من حيث قداستها، تليها المدينة المنورة، ثم النجف حيث ضريح الإمام علي، فكربلاء موقع مقتل الحسين ومرقده وأخيه العبّاس. وتحتل النجف عند الشيعة مرتبة روحية تماثل أهمية الفاتيكان لدى المسيحيين الكاثوليكيين.

أما إيران، فهي حديثة العهد بالمذهب الشيعي، الذي تبنته المجموعات الصوفية الصفوية لمنافسة السلاطين العثمانيين على زعامة العالم الإسلامي. وفي مشهد في إيران ضريح الإمام علي الرضا. أما في قم، فمقام لشخصية شيعية مغمورة متنازع حول تاريخيتها هي فاطمة أخت علي الرضا المسماة "معصومة". ومنح سيدة العصمة يتناقض وتعاليم المذهب الشيعي، لكن دخول الإيرانيين المذهب أدخل معه بدع كثيرة لا يزال الشيعة العرب يرفضون الاعتراف بغالبيتها.

هكذا، على عكس ضعف لبنان والبحرين أمام إيران، عدديا وماليا وروحيا، يتفوق العراق على إيران ماليا وروحيا، زد على أن بين العراق وإيران ثأرا تاريخيا طويلا يسبق الإسلام بقرون، بدأ منذ غزت حضارات الرافدين عيلام جنوب إيران، ثم غزا البارثيون بابل وملكها نبونعيد في العام 536 قبل الميلاد، تلا ذلك غزو الساسانيين في العام 274 ميلادية. لكن العرب قضوا على الساسانيين في 651 وحكموا إيران لقرابة ألف عام، إلى أن بدأ الصفويون يشكلون دولة فارس، التي توسعت وصارت إيران التي نعرفها.

لهذا السبب، كان من اليسير على صدام حسين تحريض الشيعة العرب العراقيين على الشيعة الإيرانيين، فعلى الرغم من التشابه المذهبي، إلا أن العداء والتنافس بين الحضارتين قائم منذ أكثر من ألفيتين من الزمن. 

ومنذ انهيار نظام حسين في 2003، حاولت إيران مرارا جمع القيادات الشيعية العراقية في صيغ متعددة تحت مسمى "البيت الشيعي"، ثم حاولت تكرار تجربة "حزب الله" اللبناني بدفعها رجال دين معممين للعب أدوار قيادية وإقامة أحزاب وميليشيات لا تزال قائمة اليوم واسمها "الميليشيات الولائية"، أي الموالية لخامنئي.

مع ذلك، بقيت ميليشيات إيران في العراق محدودة الشعبية، في وقت تفوقت عليها تنظيمات بدون امكانيات، مثل الميليشيات المتعاقبة التي أقامها رجل الدين مقتدى الصدر، لسبب وحيد هو أن الصدر ركب موجة الوطنية العراقية.

ويتميز الصدر عن كل القيادات العراقية الحالية أنه ووالده لم يعارضا صدام حسين من المنافي، بل عاشا في العراق قبل صدام وبعده، وهو ما عزز الانطباع عن وطنيتهما أكثر بكثير من معارضي المنفى مثل نوري المالكي وحيدر العبادي وهادي العامري وعائلة الحكيم والراحل جمال الجراح (أبو مهدي المهندس). 

اليوم، تقوم إيران بكل المناورات السياسية الممكنة، متزامنة مع إرهاب تمارسه ضد خصومها بما في ذلك اغتيال أعداد كبيرة منهم، وذلك بهدف بناء حكم بالحديد والنار يمسكه أحد مرتزقتها العراقيون. وتفضل طهران ألا يكون المالكي رجلها، لأنه يعاني من جنون العظمة ولا يسعى إلا لمصلحته الشخصية.

لم ينجح العنف الإيراني والاغتيالات في إسكات معارضي طهران العراقيين، الذين لا يفوتون فرصة بدون إحراق قنصلية إيران أو صور خامنئي في العراق أو تماثيل قاسم سليماني. ويوم الإثنين الماضي عندما اندلعت مواجهات بين معارضي إيران من جهة، خصوصا من التيار الصدري، ومؤيدي طهران، من جهة ثانية، لقّن معارضو إيران حلفاءها درسا قاسيا وتفوقوا عليهم في القتال وفي إحراق مكاتب الميليشيات الولائية وفي الفوز بتعاطف ودعم شعبي، فيما انكفأت ميليشيات إيران وراحت تقتل العراقيين خلسة وعن طريق تصفيات وإعدامات، إذا ما صدقنا بعض التقارير التي تناقلتها وسائل الإعلام العراقية.

العراق عرّى إيران وكشف أنها ليست قوة عظمى على ما تخال نفسها، بل هي عصابة إرهابية حاكمة تحاول تخويف شعوب الجوار وحكمهم بالحديد والنار. والعراق أظهر لإيران أن المذهب لا يعلو على الوطنية، وأن العراقيين لن يتراجعوا بصمت ويتحولوا إلى مرتزقة كما فعل بعض شيعة لبنان والبحرين.

Since December 2008