السبت، 29 فبراير 2020

اهتمام واشنطن بتطورات إدلب «منعدم» ... والسوريون لمصيرهم

واشنطن - من حسين عبدالحسين

لم تعد الحرب السورية في دائرة اهتمام الأميركيين، ولم تعد أخبار السوريين الفارّين من جحيم المواجهات المسلحة في محافظة إدلب، أو العالقين تحت ركام بيوتهم ومدارسهم ومستشفياتهم ومخابزهم، تثير أي تعاطف أو شفقة في الولايات المتحدة وباقي العالم عموماً. 
حتى في المناظرات الرئاسية التمهيدية للحزب الديموقراطي، يندر أن يسأل المحاورون المرشحين عن الموضوع السوري، وإن حدث وسألوا، تأتي إجابات معظم المرشحين إما شكلية، أو من دون معرفة، باستثناء مرشح أو اثنين يقدمان أفكاراً تصلح لتكون سياسات تنقذ السوريين من دوامتهم الدموية.
أكثر الإجابات التي عكست دراية بالسياسة الدولية، جاءت على لسان المرشح بيت بوتيجيج، الذي قال في مناظرة الأسبوع الماضي: «أنا أقف الى جانب شعب إدلب، الذي يتعرض لاستهداف ديكتاتورية دموية له». 
وأضاف بوتيجيج، وهو الوحيد من المرشحين ممن سبق أن عمل في الجيش وقاتل في أفغانستان، ان الحل يكمن في قيام الولايات المتحدة «بتغيير موازين القوى في المنطقة»، وإنه لسوء الحظ أن الرئيس دونالد ترامب تبخر عن مسرح الأحداث في الشرق الأوسط، والكلمة العليا في سورية صارت لتركيا وروسيا وإيران. 
وأكد: «ليس المطلوب منا أن نجتاح دولاً لندعم السلام ونعزز حق تقرير المصير».
بدورها، قالت المرشحة اليزابيث وارن، في مناظرة الأسبوع الماضي نفسها، إن المطلوب من الولايات المتحدة لمواجهة «القتل الجماعي في إدلب»، تقديم المساعدة الإنسانية، والعمل مع الحلفاء للتوصل الى تسويات.
ورفضت استخدام القوة العسكرية بأي شكل، وقالت: «نحن نستخدم القوة العسكرية مرات كثيرة، وعلينا أن نستخدمها فقط عندما نتأكد أن المخرج واضح».
وكان انعدام اهتمام المرشحين والجمهور بالموضوع السوري بادياً، الى درجة أن المحاورتين لم تطرحا السؤال نفسه على باقي المرشحين الرئاسيين. لكن من تصريحاتهم السابقة، يمكن تقديم بعض ما دأبوا على قوله حول الأزمة السورية.
متصدر المرشحين، بيرني ساندرز، يندر أن يتطرق الى موضوع سورية، ويكتفي بترداد انه يعادي كل الديكتاتوريات في العالم، ولكنه لم يذكر النظامين الإيراني أو السوري يوماً في عداد الديكتاتوريات التي يعاديها. 
يكرر ساندرز انه ضد التدخل العسكري في أي بقعة في العالم، ويعتبر أن الحلول في منطقة الشرق الأوسط ممكنة إن قام رئيس الولايات المتحدة بجمع قادة المملكة العربية السعودية وايران، والعمل معهما للتوصل لتسوية شاملة في المنطقة.
أما أكثر المرشحين الديموقراطيين للرئاسة خبرة في السياسة الخارجية، فهو نائب الرئيس السابق جو بايدن، الذي عمل لسنوات طويلة رئيسا للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ. 
ورغم تصويت بايدن لمصلحة حرب العراق، إلا أن الرئيس السابق باراك أوباما، الذي كان أحد أشد معارضيها، عينه نائباً له بسبب خبرته في الشؤون الخارجية، كما سلّم أوباما بايدن «ملف العراق» قبل الانسحاب الأميركي منه، وسلّم بايدن، بدوره، ملف العراق الى مستشاره للأمن القومي انتوني بلينكن، الذي نفّذ سياسة كانت تقضي بانسحاب أميركي وفي الوقت نفسه تفادي لجم النفوذ الإيراني المتمادي في العراق، مخافة عرقلة المفاوضات التي أفضت لاتفاقية نووية مع طهران.
على أن من يعرف واشنطن يعرف أن مجموعة ثابتة من المستشارين، الذين يتداورون في الإدارات بحسب هوية الحزب الحاكم، هم الذين يوجّهون الجزء الأكبر من سياسة الولايات المتحدة الخارجية. ترامب، مثلاً، معلوماته شحيحة الى أقصى حدود حول العالم وشؤونه، وخصوصاً منطقة الشرق الأوسط، لكنه تمسك بالسياسة نفسها التي كان تبناها سلفه أوباما تجاه سورية... لا مبالاة.
وتنبع اللامبالاة الأميركية من تدني الأهمية الاستراتيجية لسورية، ما عدا مسألة أمن حدودها مع إسرائيل، وهذه مسألة يتدبرها الإسرائيليون وحدهم، وليسوا بحاجة أميركا لمساعدتهم. أما الكارثة التي تعصف بسورية والسوريين، منذ نحو عقد من الزمن، فهي على أهميتها الإنسانية، لا تحوز أهمية استراتيجية، وهو ما يبقي الولايات المتحدة بعيدة، حيث تقتصر مساهمتها على المساعدات الإنسانية المخصصة للاجئين السوريين داخل سورية وخارجها، وإبقاء الضغط الاقتصادي والمالي والعزلة السياسة على نظام الرئيس بشار الأسد، لا لأن أميركا يعنيها مصير الأسد، بل لأنها ترغب في حرمان خصومها في إيران وروسيا من ورقة استماتا للحفاظ عليها.
هذا يعني، انه - ما لم يصل بوتيجيج الى البيت الأبيض - ستبقى السياسة الأميركية على حالها، بغض النظر عن هوية الفائز في الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر المقبل، وهي سياسة قاضية بحرمان الأسد من أموال النفط السوري، وكذلك من الأموال الغربية المخصصة لمجهود إعادة الإعمار، ما لم يتنازل الأسد ويوافق على الانخراط في شراكة حقيقية في الحكم يوافق عليه معارضوه. 
أما الأعداد المتزايدة من القتلى والجرحى واللاجئين، فهي تثير شفقة الأميركيين وتعاطفهم، ولكنها لا تغير في السياسة الأميركية ولا تدفعها لتغيير موازين القوى وإنهاء عقد من الدموع والدماء السورية، وسيبقى السوريون، كما كانوا على مدى السنوات الماضية، لمصيرهم، وحدهم.

السناتور شاهين «تخيّر» لبنان... إطلاق فاخوري أو عقوبات

واشنطن - من حسين عبدالحسين

لم يعد «مكتب مكافحة تمويل الإرهاب»، التابع لوزارة الخزانة، الجهة الأميركية الوحيدة الساعية إلى فرض عقوبات على مسؤولين في لبنان، بل انضمت إليه قطاعات في الكونغرس، كانت حتى الأمس القريب، محسوبة على أنها من أنصار دولة لبنان وجيشه. 
ليل الأربعاء، أصدر «مكتب مكافحة تمويل الإرهاب»، لائحة تضمنت ثلاثة لبنانيين و12 كياناً يتعاملون مالياً مع «حزب الله»، وفرضت حظراً على التعامل معهم، وأعلنت تجميد أموالهم.
لكن هناك وجوهاً جديدة في واشنطن - هذه المرة في الكونغرس - تسعى لفرض عقوبات على مسؤولين لبنانيين بسبب الأميركي من أصل لبناني، عامر فاخوري. 
واعتقل فاخوري، المسؤول السابق عن مخيم الخيام، في «جيش لبنان الجنوبي»، في سبتمبر الماضي، بعد أسبوع على تواجده في لبنان، رغم أن التقارير الصحية تشير إلى أنه يعاني من مرض سرطان ليمفوما في مرحلته الرابعة.
وفاخوري، الذي فرّ من لبنان الى إسرائيل ابان انسحابها من جنوب لبنان في العام 2000، ما لبث أن هاجر الى الولايات المتحدة، حيث يعيش في مدينة دوفر، في نيوهامبشير، إحدى الولايات التي تعيش فيها جالية لبنانية كبيرة يعود تاريخها الى أكثر من أربعة أجيال، وتمثلها اليوم السناتور جين شاهين، التي تحمل اسم عائلة زوجها اللبناني الاصل.
ولطالما كانت شاهين من أبرز الداعمين لدعم وتمويل الجيش اللبناني، وهي خاضت معركة ضد إدارة الرئيس دونالد ترامب لقيامها بتجميد المساعدة السنوية للجيش، البالغة قيمتها 100 مليون دولار، قبل أن تفرج الادارة عن المساعدة.
لكن اعتقال السلطات اللبنانية مواطناً اميركياً من ولايتها، أدى إلى انقلاب في موقف شاهين. ومنذ سبتمبر، تتواصل مع بيروت، عبر لبنانيين أميركيين. كما دفعت زوار لبنان، الأميركيين، إلى اثارة موضوع فاخوري، وطلب الافراح عنه فوراً - على الأقل لأسباب إنسانية - وترحيله الى الولايات المتحدة ليتلقى العلاج المناسب.
لكن مطالبات شاهين لم تلق آذاناً صاغية في بيروت، ما دفعها للتحرك باتجاه الجمهوريين، فوجدت ضالتها في السناتور الجمهوري تيد كروز، وراح الاثنان يعملان على اصدار قانون عقوبات ضد مسؤولين لبنانيين، ويأملان ان تتم المصادقة عليه، قبل ان يوقعه ترامب، ويصبح نافذاً.
ويعتمد قانون شاهين - كروز على محاسبة بيروت لاعتقالها فاخوري تعسفياً، ما يسمح بمعاقبة المسؤولين عن الاعتقال بموجب «قانون ماغنيتسكي». 
وبعد صدور القانون، يتم الطلب الى وزارات الخزانة والخارجية والدفاع والعدل العمل - على المنوال نفسه الذي يتم التحري فيه عن ممولي الارهاب - تحديد الشخصيات التي يمكن استهدافها بالعقوبات لأسباب لا تتعلق بالإرهاب، بل بانتهاك حقوق الإنسان.
ويبدو أن شاهين ما زالت متريثة، وتأمل أن يُفرج عن فاخوري قبل ان يصل التصعيد ذروته، خصوصاً أن بعض المعنيين في واشنطن يعتقدون ان فاخوري تم اعتقاله وتعذيبه على أيدي مخابرات الجيش، ما يعني فرض عقوبات على عسكريين ومدنيين، في وقت كانت شاهين، من أكبر الداعين لدعم حكومة لبنان وجيشه وتعزيز دورهما لتقليص دور «حزب الله» والجهات المسلحة غير الحكومية. 
هكذا، وبسبب سياسات الحكومة و«حزب الله»، يزداد عدد خصوم لبنان في واشنطن، ويبدأ سباق في العاصمة الأميركية لفرض العقوبات، ان حصلت ستشكل سابقة، وستضع لبنان على طريق الدول التي تعاني حكوماتها من عقوبات مالية قاسية، في وقت يعاني من أزمة اقتصادية ومالية ومعيشية غير مسبوقة.

الأربعاء، 26 فبراير 2020

واشنطن تعاقب 15 شخصية وكياناً مرتبطين بـ «حزب الله»

بيروت - الراي

أدرجت الخزانة الأميركية 3 شخصيات و12 كياناً لبنانياً على علاقة بـ «حزب الله» على قائمة الإرهاب.

والشخصيات الثلاث التي جرى إدراجُها بسبب دعمها لـ «مؤسسة الشهداء» التابعة لـ «حزب الله»، هي: الشيخ يوسف عاصي وقاسم محمد علي بزي وجواد نور الدين.
أما الكيانات التي وُضعت على قائمة الإرهاب للسبب نفسه، فأبرزها «اطلس هولدينغ» (بزي مسؤول رفيع المستوى في المجموعة) وشركات تابعة لها، هي: «ميديك» للأجهزة الطبية وصيدلية شاهد، بالإضافة إلى محطات الأمانة للمحروقات و«الأمانة بلس» التي تنتشر على مختلف الأراضي اللبنانية، و«الكوثر» و«كابيتال».
وشملت العقوبات أيضاً، «سيتي فارما» و«غلوبال» لخدمات السياحة و«ميراث» (جرى ربْطها بنور الدين) و«سانوفيرا فارم».
وبحسب الخزانة الأميركية، فإن نور الدين، هو مسؤول «مؤسسة الشهداء» و«يشرف على تقديم الدفعات المالية لعوائل عناصر حزب الله الذين قُتلوا، وينسّق في ذلك مع القيادي في الحزب (المدرج على لائحة العقوبات) هاشم صفي الدين، كما يعمل في شكل وثيق مع قيادة الحزب بما في ذلك أمينه العام (السيد) حسن نصرالله»، في حين أن الشيخ يوسف عاصي ايضاً هو مسؤول في «مؤسسة الشهداء» وأحد مؤسسي «اطلس هولدينغ». 
واتهمت الوزارة، الحزب، بأنه «يسيطر على الاقتصاد اللبناني كما يسيطر على السياسة»، كاشفة «أننا ندرس إدراج مسؤولين لبنانيين متّهَمين بالفساد على قائمة العقوبات».
والعقوبات الجديدة الصادرة عن مركز مكافحة تمويل الارهاب (اوفاك)، التابع لوزارة الخزانة، تختلف عن مشروع «قانون صفر تسامح»، الذي تعمل على استصداره السناتور الديموقراطية جين شاهين وزميلها الجمهوري تيد كروز، بسبب اعتقال السلطات اللبنانية منذ سبتمبر 2019، المسؤول السابق في صفوف «جيش لبنان الجنوبي» عامر فاخوري. 
ويستهدف قانون شاهين - فاخوري، مسؤولين في الحكومة اللبنانية، بسبب مواصلتها اعتقال مواطن أميركي من مدينة دوفر، في ولاية نيوهامبشير التي تمثلها شاهين (زوج شاهين من اصول لبنانية).
وكان القضاء اللبناني وجه إلى فاخوري تهماً تتعلّق بدوره في «معتقل الخيام»، خلال الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، الذي انتهى العام 2000.

الثلاثاء، 25 فبراير 2020

من دمّر اليمن؟

حسين عبدالحسين

للوهلة الاولى، تبدو المملكة العربية السعودية هي المسؤولة عن دمار اليمن: مجاعة وقتلى على الأرض بالتزامن مع سيطرة المقاتلات السعودية على السماء، ودعاية إيرانية شرسة مستندة إلى الإسلام السياسي في الشرق الأوسط وإلى معادة الإمبريالية في الغرب. لكن هذه الرواية كاذبة، ولا تتعدى كونها دعاية إيرانية معادية للسعودية وللولايات المتحدة.

لنعد إلى البداية. وصلت نسمات الربيع العربي اليمن في العام 2011، وتظاهر اليمنيون كأقرانهم العرب في الشوارع والساحات مطالبين بإنهاء عقود من حكم الرجل الواحد علي عبدالله صالح. لم تقف السعودية في وجه الرغبة الشعبية اليمنية، بل هي استضافت القادة اليمنيين، وبمشاركة ديبلوماسية من دول الجوار، تم التوصل إلى "المبادرة الخليجية"، التي قضت بتخلي صالح عن السلطة، وتسليمها إلى نائبه عبد ربه منصور هادي.

تردد صالح في تنفيذ بنود الاتفاقية، وتعرض لمحاولة اغتيال، استضافته بعدها السعودية وقدمت له رعاية صحية من الدرجة الأولى. ثم بعد تنازل صالح عن السلطة، على مضض، راح يحرّض ضد الحكومة اليمنية، واستدعى الميليشيات الشمالية ذات الغالبية المذهبية اليزيدية، التي يتزعمها عبدالملك الحوثي، اعتقادا منه أن بإمكانه الاتكاء عليها للعودة إلى السلطة، ليتبين أن الحوثيين بدورهم كانوا يستخدمون صالح كغطاء لاكتساحهم العاصمة صنعاء، ذات الغالبية السنية.

ومع سيطرة الحوثيين، المتحالفين مع إيران، على صنعاء ومعظم البلاد، وجدت السعودية أن إيران صارت على حدودها الجنوبية الغربية، وصارت صواريخ إيران الباليستية تهدد العمق السعودي، فشنت الرياض، بمؤازرة دول "مجلس التعاون الخليجي" حملتها العسكرية للتخلص من خطر الميليشيات الموالية لإيران في اليمن، ولإعادة حكومة هادي إلى السلطة. هذا كان في جزيرة العرب.

أما في واشنطن، فكان مستشار شؤون الارهاب للرئيس السابق باراك أوباما، جون برينان، والذي تولى فيما بعد منصب مدير "وكالة الاستخبارات المركزية" (سي آي إي)، على اتصال مباشر أو غير مباشر بالحوثيين بهدف إقناعهم بالانخراط في الحرب الدولية ضد الإرهاب، والمساعدة في القضاء على تنظيم "القاعدة في الجزيرة العربية" في اليمن، والذي كان يقوده اليمني الأميركي أنور العولقي. والعولقي هو المواطن الأميركي الوحيد، في تاريخ الحرب على الإرهاب، الذي استهدفته الولايات المتحدة في هجوم بطائرة درون مسيرة أدى إلى مقتله.

التنسيق الذي كان ينشده برينان مع الحوثيين لم يكن خارجا عن سياق سياسة أوباما، القاضية بالتقارب مع إيران. وكان أوباما يرى في الحرب على الإرهاب فرصة لتعزيز العمل الأمني المشترك مع الإيرانيين، إن ضد تنظيم "داعش" في العراق وسوريا أو ضد "القاعدة" في اليمن، على أمل توسيع التنسيق بين واشنطن وطهران ليشمل الديبلوماسية والسياسة وغيرها.

أمام تشجيع صالح لهم داخل اليمن، وتقاربهم مع واشنطن، ومع الدعم المالي والعسكري الإيراني، وجد الحوثيون أنفسهم مدعوين لاقتحام اليمن، والسيطرة عليه. وبعدما أدرك صالح خطأه وحاول العودة إلى أحضان السعودية، انقلب عليه الحوثيون وتخلصوا منه.

يزيدية الحوثيين هي مذهب منشق عن، ويتناقض مع، الشيعة الاثني عشرية، الدين الرسمي للجمهورية المسماة إسلامية في إيران. لكن الخلاف العقائدي بين الحوثيين والشيعة لا يفسد في المصالح قضية، ومثلما اعتبرت إيران المذهب العلوي في سوريا شيعيا، لم يمانع ملالي طهران إدخال اليزيديين تحت مظلة المذهب الشيعي.

إيران لا تخفي أطماعها في اليمن، وهي أطماع تاريخية تعود إلى زمن الساسانيين، منذ اكتشاف الرياح الموسمية في الإبحار، مطلع الألفية الميلادية الأولى، وهي الرياح التي قدّمت للتجارة بين الهند وحوض المتوسط طريقا بديلة عن طريق الخليج ـ العراق ـ المشرق، وهي طريق بحرية، كانت تمر من المتوسط عبر النيل، فقناة الفراعنة شرقا إلى البحر الحمر، فجنوبا نحو عدن، ثم تتجه شرقا عبر المحيط إلى الهند.

ولهذه الرياح موسمان، شتوي يهب من الهند باتجاه القرن الأفريقي، وصيفي يهب بالاتجاه المعاكس. هاتان الرحلتان عبر المحيط الهندي شكلتا أساس التجارة في العالم القديم، وورد ذكرهما في القرآن في سورة قريش "رحلة الشتاء والصيف".

وأدى الاهتمام المتزايد باليمن، وخصوصا مرفأ عدن، إلى حروب بين الإمبراطوريات، فواجهت الحبشة فارس على أرض اليمن، وبعد موت أبرهة الحبشي، اكتسح الساسانيون اليمن وأمسكوا بمحطة التجارة الاستراتيجية. ومنذ التفاف الأوروبيين حول رأس الرجاء الصالح في أفريقيا وتأسيسهم طريقا مباشرة إلى الهند، بمساعدة البحّار الإماراتي ابن ماجد، حكم اليمن والقرن الأفريقي وجانبي مضيق هرمز سلطنة عمان وزنجبار لفترة ناهزت الثلاثمائة عام.

على أن إيران لم تنس أطماعها في اليمن، وراح وزير خارجيتها جواد ظريف ينشر تسمية "الخليج الفارسي الأوسع"، وهذا، حسب ملالي إيران، منطقة نفوذ لهم تتضمن الخليج، والبحر الأحمر، والمشرق، أي الإمبراطورية الفارسية الساسانية في ذروة اتساعها، قبل ظهور الإسلام بقليل. وفي أبريل 2015، نشر ظريف مقالة في صحيفة "نيويورك تايمز"، دعا فيها إلى التعاون مع أميركا، ودول المنطقة، للاعتراف بمصالح إيران في "الخليج الفارسي الأوسع".

لم تأت مشاركة السعودية في حرب اليمن من الفراغ، ولو كان للسعوديين أطماعا في اليمن أو حقدا ضد شعبه، لكانوا شنوا حروبا عليه منذ زمن. لكن أمام توسع إيران، واستيلاء ميليشيا الحوثيين على اليمن، وانهيار الحكومة، كان لا بد للرياض من رسم بعض الخطوط الحمراء، فكانت الحرب، وزادت أزمة اليمنيين عمقا أنه من غير المعروف عن الميليشيات الموالية لإيران تقديمها أي تنازلات لأسباب إنسانية، بل إن هذه الميليشيات راحت تستغل الأزمة للإثراء ولاستدرار العطف الدولي.

هكذا، جلس السناتور الديمقراطي كريس مورفي مع ظريف، على هامش مؤتمر ميونيخ الأسبوع الماضي، وطالبه بالإيعاز للحوثيين بوقف الضريبة التي يفرضونها على المساعدات الإنسانية، تحت طائلة وقف أميركا هذه المساعدات، فوعده ظريف بالعمل على الموضوع.

التسوية في اليمن سهلة، وتشبه التسويات في العراق: ترمي الميليشيات الموالية لإيران سلاحها، وتساوي نفسها بالناس العاديين، وتذهب لانتخابات دورية تقرر هوية الحكام وشكل سياساتهم. أما الإمعان في شعارات معاداة الإمبريالية لتغطية عورة الطغيان والفساد، فعبثية ومزيد من الموت والدمار.

الخميس، 20 فبراير 2020

ترامب يدعو إلى محاكمة كيري وسناتور ديموقراطي بتهمة التواصل مع إيران

واشنطن - من حسين عبدالحسين

تفاعلت قضية لقاء السناتور الديموقراطي عن ولاية كونيتيكت كريس مورفي مع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، على هامش مشاركة الاثنين في منتدى ميونيخ السنوي للقضايا الدفاعية، الأسبوع الماضي. ودعا الرئيس دونالد ترامب الى محاسبة مورفي، وكذلك وزير الخارجية السابق جون كيري، للقائهما ظريف من دون علم الإدارة الاميركية. 
وقال ترامب انه يتوجب محاسبة الرجلين بموجب «قانون لوغان»، الذي يحرّم اتصال الاميركيين بحكومات دول غير صديقة، وهو القانون نفسه الذي كان الديموقراطيون طالبوا بمحاكمة مستشار الأمن السابق مايكل فلين بموجبه، بعدما تسربت تقارير عن اتصال الاخير بسفير روسيا السابق في واشنطن سيرغي كيسلياك أواخر العام 2016. 
ويبدو أن مورفي يسعى لتبوؤ منصب وزير خارجية في حال استعاد الديموقراطيون البيت الأبيض من الجمهوريين، العام المقبل، على غرار كيري، الذي كان رئيسا للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ قبل أن يعيّنه الرئيس السابق باراك أوباما وزيراً للخارجية في 2015. 
ومورفي عضو في لجنة العلاقات الخارجية نفسها، التي يرأسها حاليا السناتور الجمهوري جيمس ريش. وإقامة مورفي علاقات جيدة مع الإيرانيين يعزز من إمكانية توليه منصب وزير خارجية، خصوصاً ان فاز بترشيح الديموقراطيين للرئاسة، كما هو متوقعاً حتى الآن، السناتور المستقّل بيرني ساندرز، الذي يتمتع بعلاقات ممتازة مع أصدقاء إيران في الولايات المتحدة، ويعد بقلب سياسة ترامب تجاه طهران في حال وصوله الى البيت الابيض.
ورداً على تغريدة ترامب، التي دعا فيها الى محاكمته بتهمة التواصل مع إيران، غرّد مورفي بأن «ايران أعادت إطلاق برنامجها النووي، وأطلقت النار على جنودنا، وزادت من دعم الميليشيات الموالية لها في المنطقة». 
وتوجه الى ترامب بالقول: «سياستك تجاه إيران فشل كارثي، ولعلمك، أنا عضو اللجنة الفرعية المسؤولة عن الشرق الأوسط والمنبثقة عن لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، ووظيفتي حرفياً هي لقاء زعماء إقليميين». 
على أنه يبدو أن مورفي شعر بفداحة الخطأ الذي ارتكبه، فسارع الى تبرير اللقاء، والى تقديم كل التفاصيل حول فحوى محادثاته مع ظريف. وأوضح أن سبب لقاء ميونيخ كان لمعرفة ما إذا كان الوزير الإيراني «يعتقد أن عملية انتقام إيران لاغتيال أميركا قائد فيلق القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني انتهت». 
وفي محاولة إثبات وطنيته، أعلن السناتور الديموقراطي، انه حاول معرفة ما إذا أصبح من الواضح «بنسبة مئة في المئة، أنه إذا قامت أي جماعات في العراق مرتبطة بإيران بمهاجمة قوات الولايات المتحدة في العراق، سيتم اعتبار ذلك تصعيداً غير مقبول».
وتابع مورفي، في مقالة نشرها على موقع «ميديوم»، انه يسعى لمساعدة من ظريف في اليمن: «قلت له إنني أعلم أنه ليس من قبيل المصادفة أن الارتفاع الأخير في الهجمات التي قام بها الحوثيون في اليمن بدأ مباشرة بعد مقتل سليماني، وأن إيران يجب ألا تدع الحوثيين يضيعون فرص السلام». 
وأشار مورفي الى أنه فاتح الوزير الإيراني حول ضريبة اثنين في المئة التي يفرضها الحوثيون، بما في ذلك على المساعدات الإنسانية التي توزعها الولايات المتحدة وغيرها من الجهات المانحة في اليمن. وأبلغ مورفي ظريف أن الحوثيين علّقوا هذه الضريبة، لكنه يبدو «تعليقا موقتاً»، وهو ما حمل إدارة ترامب على النظر في وقف هذه المساعدة. 
«زعم ظريف»، حسب السناتور، انه «سمع بالمشكلة نهاية الأسبوع الماضي، ووعد بالعمل على حلها، ذكّرني ايضاً بأنه لا يسيطر على الحوثيين». 
وختم مورفي انه تحادث مع ظريف حول «قضية الأميركيين المحتجزين في إيران»، وأن الوزير الإيراني أعرب عن استعداده لمناقشة «التبادل»، وهو ما يظهر مدى انعدام خبرة مورفي، أو على الأقل تواطؤه مع أصدقاء طهران في أميركا، إذ ان «التبادل»، هو مطلب إيراني سبق لظريف أن كرره علناً، وصوّره بمثابة وسيلة لبناء الثقة بين البلدين على طريق حوار ممكن بينهما.
جدير ذكره، أنه سبق لكيري أن التقى ظريف، أبان إعلان ترامب الانسحاب من الاتفاقية النووية مع إيران في 2018، وكانت نصيحة الوزير الأميركي السابق للمسؤول الإيراني أن «الأنسب»، انتظار نهاية ولاية ترامب وخروجه من البيت الأبيض.

الثلاثاء، 18 فبراير 2020

لما لا ينشغل رجال الدين الشيعة بالعبادة؟

حسين عبدالحسين

مقلق أن يتصدر رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر المشهد السياسي في العراق. اهتزاز الرجل فكريا وثقافيا وعاطفيا واضح. تصريحاته غامضة. مواقفه متضاربة. يقول الشيء وعكسه، ويفعل الشيء وعكسه. من غير المفهوم من مات وطوّب مقتدى ملكا على العراق: لم ينتخبه أحد، لم يعينه أحد في أي منصب حكومي، ولم يكن صوته مسموعا لولا أنه من عائلة الصدر. ولم تكن لعائلة الصدر أهمية لولا هوس عدد كبير من الشيعة برجال دينهم، وتطويبهم كقادة عظام.

آل الصدر ينحدرون من رجل دين من جنوب لبنان هرب من سجون والي عكا أحمد باشا الجزار إلى النجف، واستقر فيها، واستقر عدد من أبنائه في إيران. في العام 1959، انتقل موسى الصدر من إيران ليشغل منصب مفتي في جنوب لبنان، وأقنع غالبية شيعة لبنان أنهم مستضعفون مهمشون ماسحو أحذية، وأنه سيحصّل لهم حقوقهم من دولة لبنان. طبعا لم يختلف الشيعة عن باقي اللبنانيين في مستوى انتشار الفقر في صفوفهم، بل كانوا كغيرهم من الطوائف، فيهم من الإقطاع والثراء، وفيهم من النخبة، وفيهم كذلك من المعدومين، وخصوصا في الأرياف.

لم يؤيد الصدر الإطاحة بشاه إيران، ولا هو كان من أصدقاء الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، بل إن الصدر صادق جنرال سوريا الصاعد حينذاك حافظ الأسد (عدو عرفات)، ومنحه فتوى نصت أن طائفة الأسد العلوية هي مذهب إسلامي، ما سمح للأسد بالاستيلاء رسميا على منصب رئيس سوريا. والعلويون ليسوا من الشيعة ولا المسلمين في شيء، بل هي ديانة صوفية باطنية، تؤمن بتناسخ الأرواح، وبعض تعاليم الفلسفة اليونانية. وبعد سنوات من عمله ممثلا لشيعة لبنان، وإجهازه على زعامات الشيعة التقليدية، اختفى الصدر في ظروف غامضة في ليبيا في العام 1978.

تزامن صعود الصدر في لبنان مع صعود قريبه محمد باقر الصدر في العراق، وتأسيسه "حزب الدعوة الإسلامية". ولمحمد باقر مؤلفات في الفلسفة والاقتصاد يعتقدها أتباعه أعمالا ذات شأن، فيما هي فعليا ضحلة بمقاييس العلوم الإنسانية. صدر العراق لم يتحول إلى مرجعية دينية عليا، ربما لأنه كان منشغلا عن الدين بالسياسة، وهو كان أول من قدم "الحكومة الإسلامية" بصيغتها الأكثر بدائية، أي أن يلعب رجال الدين دور ناصحي الحكومة، لا أن يحكموا بأنفسهم.

تلقف الخميني هذه الفكرة أثناء سني نفيه في النجف، وطورّها إلى حكومة إسلامية بزعامة ولي فقيه واحد. ومثل فكر الصدر، جاء فكر الخميني عن شكل الدولة الإسلامية ضعيفا مفككا، فهي جمهورية، إذن تستمد شرعيتها من الشعب، وفي نفس الوقت يتربع على رأس الحكم فيها رجل دين بالنيابة عن إمام الشيعة الثاني عشر محمد بن الحسن، الذي يعتقد الشيعة أنه حي ومتواري عن الأنظار منذ 12 قرنا، وأنه سيعود في آخر الزمان، ويسمونه المهدي. هكذا، يصبح مصدر السلطات في "الجمهورية الإسلامية" غامضا: هل هو الشعب؟ أم الإمام الغائب؟ أم من؟

لم يتحمل رئيس العراق الراحل الطاغية صدام حسين محاضرات رجال دين النجف عن شكل الحكم والحكومات، فأراد تصفية الخميني، لولا أن أميركا أوعزت لشاه إيران محمد رضا بهلوي بعدم الموافقة على ذلك. ربما كانت واشنطن تخشى الشيوعية أكثر من الإسلام السياسي، واعتقدت أنه يمكن للشاه الاتكاء على الخميني والدين لمواجهة الخطر الشيوعي. وفي العام 1980، قامت استخبارات صدام بتعذيب محمد باقر الصدر بثقب جمجته بمثقب كهربائي، على غرار إعدامات تنظيم "داعش" الإجرامية.

وفي منتصف التسعينيات، برز صدر ثالث في بغداد هو محمد محمد صادق الصدر، والد مقتدى، وانشغل مثل قريبيه موسى ومحمد باقر بالسياسة أكثر من العبادة، وأفاد من الحصار الاقتصادي الدولي، الذي تسبب بفقر ومجاعة في العراق، ليجني شعبية عارمة في مدينة الثورة، ضاحية بغداد التي اتخذت اسمه بعد انهيار نظام صدام، الذي كان صفّاه في 1999.

وبعد سقوط صدام في 2003، برز مقتدى نجل محمد محمد صادق. منذ ذلك التاريخ والعراقيون مجبورون على مواكبة بهلوانيات مقتدى: يقيم "جيش المهدي"، ثم يحلّه، ثم يقيم "سرايا السلام"، فـ "القبعات الزرقاء". يزور طهران، ثم الرياض، ثم طهران مجددا، ويصدر تصريحا مع عروبة العراق، وآخر يرضي إيران، وبينهما تصريحات غير مفهومة.

لا أفكار تنويرية تذكر للصدريين الأربعة، ولا سبب لما على اللبنانيين أو العراقيين الاستماع لما يقولونه أو الاقتداء به. ومثل الصدريين، تبدو ضحالة فكر الخميني جليّة، وينقل معاصروه عنه تصريحات عجيبة، مثل قوله إن شعوره لدى وصوله طهران من منفاه الباريسي كان "هكذا"، أي لا شعور، وتعليقه على حوار مع الاقتصاديين الذين أرادوا استمزاج رأيه بقوله إن "الثورة الإيرانية لم تأت لتخفّض سعر البطيخ".

ومثل الخميني خلفاؤه: مرشد إيران الأعلى علي خامنئي غالبا ما يطلق تصريحات عجيبة: يريد إقامة "اقتصاد المقاومة"، الذي تبدو نتائجه "الباهرة" في انهيار اقتصادات إيران ولبنان واليمن، ويتحدث في العلاقات الدولية.

ومثل خامنئي زعيم "حزب الله" اللبناني حسن نصرالله، الذي يتعامل بعض اللبنانيين مع تصريحاته وكأنها الوصايا العشرة، فيما نصرالله يناقض نفسه باستمرار: يشن حربا "استباقية" على إسرائيل، ثم يعبّر عن ندمه لشنّها، ويصرّ أن إسرائيل قتلت رئيس حكومة لبنان السابق رفيق الحريري من دون أن يتوعد اسرائيل بالثأر، على عادته. ثم يحاضر في الاقتصاد، ويرى أن حلّ انهيار مخزون الاحتياطي النقدي الأجنبي هو بيع بطاطا لبنان للعراق.

يقول المثل "أعط خبرك للخبّاز ولو أكل نصفه"، وهكذا على الأحزاب الشيعية في العالم أن يخلعوا الهالة الإلهية عن أفكارهم ونقاشاتهم في الحكم والاقتصاد والسياسية، وأن يطلبوا من رجال دينهم أن ينشغلوا بالعبادة، وأن ينخرط الشيعة في دنيا الحاضر واقتصاد العالم، وأن يخرجوا من التاريخ، فكربلاء عبرة للمؤمنين حول الصبر على البلاء، لا درس في الاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية.

ربما حان الوقت أن ينشغل رجال الدين الشيعة بالعبادة، وأن ينشغلوا عن العباد، وأن يتركوهم يتدبرون شؤون الدنيا بعيدا عن الدين.

الخميس، 13 فبراير 2020

الولايات المتحدة تريد تفتيش مواقع إيرانية نووية غير مُعلن عنها

واشنطن - من حسين عبدالحسين

ما هي المواقع النووية الايرانية التي ترغب وكالة الدولية للطاقة الذرية، في زيارتها والتي ترفض ايران السماح للوكالة بتفقدها؟ هذا هو السؤال المتداول في العاصمة الاميركية منذ أن زارها المدير العام للوكالة رفائيل غروسي، الاسبوع الماضي، والتقى فيها وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي روبرت اوبراين، فضلا عن رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ السناتور الجمهوري جيمس ريش ومعه نظيره الديموقراطي في اللجنة بوب مينينديز. 
وفي إطلالته العامة أمام حشد من المسؤولين والخبراء والمهتمين في مركز ابحاث كارنيغي، قال غروسي ان سبب زيارته، محاولة حشد التأييد الديبلوماسي والسياسي لفريق خبرائه العامل في ايران، والذي يراوح عدد أعضائه ما بين 130 و150 مفتشاً. وأضاف ان الوضع المتوتر بين ايران والمجتمع الدولي يحدّ من حركة المحققين. 
وكانت طهران اعتقلت مفتشة دولية في نوفمبر الماضي، لساعات، واتهمتها بمحاولة ادخالها «مواد خطيرة» الى منشأة ناتانز النووية.
ومنذ زيارة غروسي، عقد المسؤولون الاميركيون سلسلة من الجلسات المغلقة والدردشات مع الصحافيين. وأصدر السناتور ريش بياناً قال فيه ان العالم يمرّ بمرحلة «حرجة لمستقبل الانتشار النووي»، وان «المعلومات التي تقدمها الوكالة ضرورية لفهمنا لمخاطر الانتشار». 
وأضاف غروسي ان «عمل الوكالة مهم بشكل خاص الآن، في وقت تتخلى إيران عن التزاماتها بعدم الانتشار النووي».
ومما جاء في بيان ريش، ان «دليلاً برز على وجود مواقع وأنشطة نووية إيرانية محتملة غير معلنة». وتابع: «لقد طلبت من المدير العام غروسي الضغط بقوة من أجل الوصول الكامل لمفتشيه الى كل المواقع والحصول على إجابات كاملة من إيران».
ومنذ أعلنت اسرائيل حصولها على كمية من الوثائق الارشيفية الايرانية، خرجت إلى العلن مراسلات رسمية إيرانية تظهر المسؤولين الايرانيين وهم يتداولون في كيفية صناعة خمس قنابل نووية، بما في ذلك اقامتهم برنامجاً نووياً خاصة، وإجراء تجارب في عدد من المواقع، منها موقع بارشين العسكري، وموقع آخر في تورقوز آباد، تصرّ طهران انه مصنع للسجاد، لكنها ترفض فتح أبوابه للمحققين الدوليين.
وشكّل بارشين عقبة كبيرة، أمام التوصل للاتفاقية النووية بين العالم وايران، في العام 2015. وقضت التسوية بدخول مفتشين دوليين وإجراء تفتيش تم الاتفاق مسبقاً على شكله وما يتضمن. أما الاتفاقية النووية، فتضمنت إشارة الى فتوى للمرشد الاعلى علي خامنئي يحرّم فيها صناعة أسلحة دمار شامل، بما فيها الاسلحة النووية.
إلا ان الوثائق التي كشفها الاسرائيليون أظهرت عكس ذلك، وهو ما حمل واشنطن على مطالبة حلفائها الاوروبيين بمراجعة الاتفاقية النووية، مشيرة الى ان الاتفاقية كانت مبنية على اعتبارات كشف بطلانها، وفي طليعتها توافر النية الايرانية لصناعة السلاح النووي، ووجود مواقع لا تسمح ايران للمفتشين حتى اليوم بزيارتها. 
وفي هذا السياق، أصدرت مجموعة «اصدقاء اسرائيل»، التي يترأسها رئيس حكومة كندا السابق ستيفن هاربر، دراسة بقلم الجنرال الاسرائيلي يوسي كوبرواسر، قال فيها ان الأرشيف هو الذي «يقول الحقيقة حول المشروع النووي الإيراني، على عكس ما ورد في تقرير وكالة الطاقة الذرية في ديسمبر 2015، وهو التقرير الذي أتاح دخول الاتفاقية النووية حيز التنفيذ». 
وأورد كوبرواسر انه حسب الارشيف، «كان لإيران مشروع نووي عسكري قوي ومخالف لالتزاماتها في الاتفاقية، وانه يمكن لها اتخاذ الخطوات اللازمة لاستئناف العمل على الاسلحة النووية في الوقت الذي تختاره».
وتابع كوبرواسر، في الدراسة التي صدرت الشهر الماضي، ان إيران «كذبت على طول الطريق»، و«نجحت في خداع الوكالة والمجتمع الدولي»، وادعت زوراً انه «لم يكن لديها نية لإنتاج الأسلحة النووية، ولكن ذلك كان كذبة كبيرة».
وفي خضم النقاش المندلع في واشنطن، يتواصل المسؤولون الاميركيون مع نظرائهم الاوروبيين في محاولة لاقناعهم بالمضي قدماً في عملية دفع الاتفاقية النووية مع إيران في اتجاه التحكيم، وهو ما من شأنه تفعيل مواد إعادة العقوبات الدولية تلقائياً. لكن المانيا تبدو المعارضة الأبرز، في وقت يبدو أن واشنطن صارت تلقى آذاناً صاغية في لندن لنقض الاتفاقية وإعادة العقوبات الدولية، بعدما انسحبت أميركا من الاتفاقية وفرضت عقوباتها.

الأربعاء، 12 فبراير 2020

ساندرز يفوز في نيوهامبشير وفرص بايدن... تتقلّص

واشنطن - من حسين عبدالحسين

واصل نائب الرئيس السابق المرشح للرئاسة جو بايدن اداءه المخيب للآمال في الانتخابات التمهيدية الديموقراطية، فخرج بخفي حنين في ثاني انتخابات للحزب في ولاية نيوهامبشير، ولم تصل نسبة اصواته، العشرة في المئة المطلوبة للفوز بمقعد من المقاعد الـ24 التي تشغلها الولاية في مؤتمر الحزب الديموقراطي.
بدوره، حاز السناتور عن ولاية فيرمونت بيرني ساندرز، أكبر نسبة اصوات، وقدم اداء قوياً للمرة الثانية على التوالي، بعدما حلّ ثانياً في الجولة الاولى في ولاية أيوا، بفارق ضئيل جداً، عن المرشح بيت بوتيجيج، الذي واصل اداءه القوي، ونازع ساندرز في نيوهامبشير على المركز الاول.
وحسب تقييمات شبكة «سي إن إن»، تتيح نتائج انتخابات أيوا ونيوهامبشير، لكل من بوتيجيج وساندرز حصد دعم تسعة مندوبين في المؤتمر المقبل للحزب الديموقراطي في الصيف، حيث سيتم اختيار المرشح عن الحزب في الانتخابات المقبلة.
أما مفاجأة الجولة الثانية من الانتخابات التمهيدية، فكانت السناتور الديموقراطية عن ولاية مينيسوتا آيمي كلوباشار، التي حصدت قرابة 20 في المئة من اصوات الولاية، وحلّت في المركز الثالث، متفوقة على زميلتها في مجلس الشيوخ السناتور عن ولاية ماساشوستس اليزابيث وارن، التي عانت من ليلة مأسوية، على غرار بايدن، ولم تحز على عشرة في المئة في الاصوات، وتالياً، أي من مبعوثي الولاية الى المؤتمر الحزبي.
وما يزيد في طين وارن بلة، انها تمثل الولاية المجاورة تماما لنيوهامبشير، وهو ما يعني أنها كان من المفترض ان تقدم عرضاً قوياً، وهذا ما لم يحصل.
من ناحيتهما، أقر المرشحان رجل الأعمال أندرو يانغ، الذي تعهد منح كل بالغ أميركي ألف دولار شهرياً خلال حملته للانتخابات التمهيدية، والسناتور عن كولورادو مايكل بينيت بمواجهة الحقيقة، وأعلنا الانسحاب من السباق الثلاثاء بعد نتائج مخيبة.
وقال يانغ: «تعلمون أنا رجل حسابات، والواضح الليلة من الأرقام اننا لن نفوز بهذا السباق».
وتخشى «المؤسسة الحاكمة» في الحزب الديموقراطي فوز ساندرز، الذي ينتمي للحزب الاشتراكي الديموقراطي، بترشيح الحزب. وتعتقد انه ينتمي الى اقصى اليسار، وانه سيكون من اليسير على الرئيس دونالد ترامب وصمه بوصمة الاشتراكية، وتالياً التغلب عليه في الانتخابات المقررة في نوفمبر المقبل.
وشكر ساندرز في كلمة ألقاها أمام مؤيديه سكان هامبشير على دعمه، مشدداً على أن فوزه سيكون «بداية نهاية» الرئيس الجمهوري.
ومثل سناتور فيرمونت المخضرم (78 عاماً)، فان وارن من المحسوبين على اقصى اليسار، رغم أنها تتمتع بعضوية في الحزب الديموقراطي.
اما المرشحون الثلاثة الذين ينتمون الى يسار الوسط، فهم بوتيجيج وكلوباشار وبايدن. وحتى الماضي القريب، اعتقد كثيرون ان بايدن هو المرشح الاوفر حظاً للفوز بترشيح حزبه، منهم ترامب نفسه، الذي خشي ان يتغلب بايدن عليه في الانتخابات الرئاسية، فحاول تعليق المساعدات العسكرية الاميركية الى اوكرانيا لحملها على اصدار بيان تعلن فيه مباشرتها في التحقيقات بحق نجل بايدن، هنتر، الذي عمل لفترة عضو مجلس ادارة شركة الطاقة الاوكرانية «بوريزما».
ومحاولة ترامب هي التي دفعت مجلس النواب الى خلعه، وهو القرار الذي أدى الى محاكمته وتبرأته امام مجلس الشيوخ.
وبايدن الذي كان يتوقع النتيجة على ما يبدو، ألغى أمسية حزبية وكان عند صدور النتائج في ولاية كارولينا الجنوبية.
وقال لأنصاره: «سمعنا من أول ولايتين من 50 ولاية. اثنتان منها. ليس الأمة كلها، وليس نصفها، وليس ربعها». وأضاف: «بالنسبة لي هذا جرس الافتتاح، ليس جرس الإغلاق».
وكان يوم الاقتراع قد بدأ بتساقط خفيف للثلوج. وأدلى الناخبون بأصواتهم في شكل تقليدي عبر الاقتراع السري.
وتراجعت نسبة التأييد لبايدن من 26 إلى 17 في المئة منذ نهاية يناير، بحسب استطلاع وطني أجرته جامعة كوينيبياك.
وأظهر الاستطلاع ايضاً، أن الملياردير مايكل بلومبرغ جاء في المرتبة الثالثة مع تأييد 15 في المئة، ما يشير إلى تغير محتمل في النتائج عندما يلقي رئيس بلدية نيويورك السابق بكامل ثقله خلف حملته.
ومع متاعب بايدن، يبدو ان حظوظ الوسطيين صارت تراوح بين بوتيجيج وكلوباشار، الأول يعاني من انعدام خبرته بسبب صغر سنه، اذ يبلغ من العمر 37 عاماً، فيما لم تقدم كلوباشار، حتى انتخابات نيوهامبشير، اداء مقنعاً.
ورغم ندرة المبعوثين الذين يحصل عليهم المرشحون من الفوز في ولايتي أيوا ونيوهامبشير، إلا ان الفوز في واحدة منهما او كليهما من شأنه ان يقدم دفعاً معنوياً، وتاليا تبرعات مالية أكبر، ما من شأنه ان يقدم دفعاً اكبر للمرشحين في الولايتين المقبلتين - نيفادا الاسبوع المقبل، وساوث كارولينا، الاسبوع الذي يليه - قبل ان يذهب الحزب لانتخابات «ثلاثاء السوبر»، الذي تختار فيه 14 ولاية ومنطقة - ما يوازي 1344 مبعوثاً - مرشحها للرئاسة.
وفي محاولة لكسب أصوات المنشقين عن بايدن، يركز بلومبرغ على «الثلاثاء الكبير» في الثالث من مارس، وسينفق مبلغا قياسياً من 260 مليون دولار من أمواله الخاصة على الحملة.

الثلاثاء، 11 فبراير 2020

أردوغان يستغيث بواشنطن من موسكو

واشنطن - من حسين عبدالحسين

باشر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بتوجيه نداءات استغاثة الى الولايات المتحدة عبر القنوات الديبلوماسية، باسم الصداقة وحلف شمال الأطلسي الذي يجمعهما، لإنقاذه من الورطة التي وجد نفسه فيها في وجه ما يبدو أنه قرار روسي حازم بانتزاع أراضٍ سورية تسيطر عليها أنقرة بمساعدة ميليشيات سورية موالية لها.
وكانت القوات التركية تعرضت، الإثنين، لثاني هجوم من نوعه في أسابيع قليلة، أوقع قتلى في صفوفها، ما أجبرها على الرد بقصف ما أعلنت أنها 105 مواقع عائدة لقوات الرئيس السوري بشار الأسد. على أن أنقرة حرصت على إرفاق ردّها بالاشارة الى أنها لا تنوي التصعيد، وأن ردّها كان ردة فعل على هجوم قوات الأسد ضدها.
لكن الأتراك يعرفون، حسب المصادر الأميركية، أن الهجمات ضد قواتهم ستتكرر، وأن روسيا حسمت قرارها بانتزاع الأراضي السورية التي تسيطر عليها أنقرة. وتزامن قرار موسكو مع حملة في الإعلام الروسي ضد تركيا مشابهة للحملة التي تلت إسقاط تركيا مقاتلة روسية في العام 2015. ومن الاتهامات بحق تركيا أنها تدعم وتسلّح وتموّل مجموعات إسلامية إرهابية متطرفة، مثل «جبهة فتح الشام» وغيرها.
وللرد على موسكو، أعادت أنقرة فتح مكاتب تمثيلية لـ«مجلس شعب القرميين التتار» و«الحركة القومية للقرميين التتار». والتتار هم شعوب تركمانية يشكلون كبرى الأقليات في شبه جزيرة القرم الأوكرانية التي تحتلها روسيا. ولم تكتفِ أنقرة بتحريك المعارضة القرمية لروسيا، بل قام أردوغان بزيارة كييف، وأطلق منها تصريحات سلبية بحق نظيره الروسي فلاديمير بوتين.
على أن أردوغان يدرك أن عودة المناكفات مع روسيا لا تكفي لضمان استمرار سيطرته على أراض سورية، وان هذه السيطرة تحتاج الى قوة عسكرية تركية. أما مشكلته الوحيدة، فمفادها بأن روسيا تسيطر على سماء إدلب، ما يجعل من التحليق التركي، المطلوب لتأمين حماية للقوات الارضية، محفوفا بالمخاطر.
وعلى الرغم من عضوية تركيا في حلف الأطلسي، إلا أن ميثاق «الناتو» لا يقضي بتقديم أي دعم عسكري غير مساعدة الدول الاعضاء الدفاع عن أراضيها، وفي حالة محافظة إدلب، لا يعتبر التحالف انها جزء من الاراضي التركية.
واعتبر المراقبون في واشنطن، أن أردوغان تكبد ثلاث خسائر كبرى في علاقته مع بوتين، أولها ان إصراره على شراء منظومة «اس 400» الروسية، كلّفت بلاده الاستغناء عن مشاركتها في صناعة مقاتلات «اف 35» الأميركية المتطورة، وثانيها أن أنقرة تكبدت ملياري دولار ثمن منظومة الدفاع الجوي، وثالثها انه رغم نمو العلاقات، وخصوصاً الدفاعية، بين أنقرة وموسكو، يمكن أن تخسر تركيا، ادلب.
وفيما بدأ البعض في واشنطن، يعبّر عن الشعور بالشماتة من أردوغان وسياسته الخارجية، دعا آخرون إلى إعادة دعم تركيا، أطلسياً، شرط انتهاء هيمنة أردوغان.
وفي مقابلة مع «الراي»، قال النائب التركي السابق المقيم في واشنطن آيكان اردمير، انه «رغم ان المصالح الوطنية لتركيا وروسيا ليست متطابقة في سورية، إلا أن لدى أردوغان الكثير ليخسره في انفصاله عن بوتين، إذ ان رجل تركيا القوي، أعطى موسكو نفوذاً كبيراً في تركيا من خلال التعاون الوثيق في مجالات الدفاع والديبلوماسية والطاقة والتجارة».
وأضاف أن أردوغان «يراهن على بقائه السياسي عن طريق التماهي مع الأنظمة الاستبدادية، مثل روسيا والصين وإيران».
ويعتقد المسؤول السابق أن «اعادة التوجه نحو الغرب ومعاييره الديموقراطية يمكن أن تكون محفوفة بالمخاطر بالنسبة لحكم أردوغان الفردي»، لكن «الانتكاسة في العلاقات التركية - الروسية تقدّم فرصة للولايات المتحدة لتحسين العلاقات المتوترة مع أنقرة، ولهذا السبب سارع وزير الخارجية مايك بومبيو إلى إدانة الاعتداءات المستمرة وغير المبررة على شعب إدلب، وأعلن دعم واشنطن لتدابير الدفاع عن النفس التركية المبررة رداً على ذلك».
وتابع اردمير انه إذا قررت أنقرة العودة إلى قيم الديموقراطية التي يمثلها الأطلسي، «على واشنطن أن ترحب، مع الحذر من أن أي تغيير في الاتجاه التركي لا مغزى له طالما بقي أردوغان على رأس السلطة».
ويمكن للرئيس «أن يبدأ بكبح خطابه التحريضي المعادي للغرب، وإنهاء التمويل الذي قدمه للإسلاميين المتطرفين»، بحسب ما يختم النائب السابق.

السلطنة العثمانية وفسادها وطغيانها

حسين عبدالحسين

في صفوف النخبة العربية، وعدد كبير من العرب السنة في المشرق، حنين لماضٍ عثماني مجيد متخيل، كما في كتب الصحافي اللبناني الأميركي الراحل أنتوني شديد، والأكاديمي اللبناني أسامة مقدسي، والمستشرق الأميركي مايكل بروفنس، وهو حنين مبني على العداء للإمبريالية الغربية ولسلطة الانتداب في المشرق والعراق ومصر والخليج، وهو العداء نفسه الذي بنى عليه الفلسطيني الأميركي الراحل إدوار سعيد نظريته حول "الاستشراق".

في هذه النظريات المعادية للإمبريالية تصور أن السلطنة العثمانية لم تكن مريضة، ولا متعثرة، بل كانت متقدمة ومتطورة، ولكن مختلفة في عاداتها وطرقها عن الغربيين، الذي اجتاحوا السلطنة مدفوعين بنظرية غربية مسيحية فوقية تجاه ما كانوا يعتبرونه دونية الشرقيين المسلمين.

ولأن الكولونياليين حاقدون أشرار، عمدوا إلى تفتيت السلطنة وتقاسم مغانمها، بما في ذلك إهداء قسم منها لليهود لإقامة دولتهم في ولاية القدس وجزء من ولاية بيروت.

ولا يرى معادو الإمبريالية التناقض بين عدائهم لترسيم الأوروبيين لحدود دول المشرق وتمجيدهم لفلسطين واعتبارها قائمة منذ الأزل. حتى أن معادي الإمبريالية غالبا ما يسخرون من دول مثل لبنان، ويعتبرونه صنيعة الإمبريالية الأوروبية، وكأن فلسطين لم يصنعها الانتداب الأوروبي نفسه.

"في العام 1874، هزم محافظو بنيامين دزرائيلي رئيس حكومة بريطانيا وليام غلادستون وحزبه الليبرالي"، يكتب بروفنس في كتابه "الجيل العثماني الأخير وصناعة الشرق الأوسط الحديث". ويضيف أنهم كمعارضين كانوا يستعدون لاستعادة السلطة، راح الليبراليون يحرّضون ضد المسلمين العثمانيين وشنوا حملة ضد دزرائيلي وسياسته المتسامحة تجاه السلطنة. واعتبر بروفنس أن هذا العداء البريطاني العنصري أجبر السلطنة على التخلي عن صداقتها مع بريطانيا وإقامتها تحالفا مع ألمانيا.

غريب ألا يتنبه مؤرخ إلى أن العلاقة البريطانية لم تتأثر بالثرثرة السياسية داخل لندن، بل كانت نتيجة تغير في طرق التجارة الدولية، فبريطانيا كانت حصلت على امتيازات تجارية داخل السلطنة، منذ العام 1520، وهي امتيازات سمحت لها بالاتجار مع الهند على مدى أكثر من 300 عام، إلى أن تم شق قناة السويس في مصر الخديوية، في العام 1869، وهو ما قلّص المسافة بين أوروبا والهند، وجعلها تجارة بحرية فقط، بدلا من حاجتها لعبور الجسر البري العثماني. لهذا السبب، تلاشى الاهتمام البريطاني بالسلطنة، وانصب على احتلال مصر وقناتها الاستراتيجية.

ومع تراجع الاهتمام البريطاني، تراجعت أموال الرشاوى التي كانت تقدمها لندن للطبقة السياسية العثمانية الغارقة بالفساد، وهو ما دفع السلطنة إلى البحث عن حلفاء أوروبيين، فوجدت ضالتها بمنافسة بريطانيا الصاعدة ألمانيا، التي مولّت خط قطار برلين بغداد، الذي كان من المفترض أن يصل الكويت، وهو ما كان من شأنه منافسة قناة السويس والتجارة البريطانية مع الهند، فقامت لندن بكفالة استقلال الكويت عن السلطنة، وأحبطت وصول خط القطار إلى مياه الخليج.

وبعد الحرب العالمية الأولى، حاولت بريطانيا إدارة المشرق بمفردها، لكنها تراجعت تحت ضغط فرنسي، ورسم الحليفان خريطة الشرق الأوسط، في الغالب بشكل يضمن تدفق النفط المكتشف في البصرة وكركوك إلى شواطئ المتوسط، حتى تحمله الناقلات إلى أوروبا.

ورعت بريطانيا الغالبية السنية في أراضي نفوذها، فيما رعت فرنسا الأقليات غير السنية، فثارت الأقليات، مثل شيعة العراق من عشائر الفرات الأوسط، ضد الحكم السني لهم، وثار السنة في سوريا ولبنان ضد حكم الأقليات لهم. أما السعودية، فرسمت حدودها مع المشرق والعراق بحسب ديار العشائر التي تحالف معها المؤسس عبدالعزيز ابن سعود، الذي خاض معارك سياسية ضد الأوروبيين لتوسيع رقعة حكمه إلى أقصى حد ممكن.

وفي وقت لاحق، وجدت الولايات المتحدة فرصة ممتازة للتحالف مع السعودية ضد الأوروبيين في الشرق الأوسط، وحاولت أميركا توسيع تحالفها ليشمل مصر الناصرية، التي استفادت من الدعم الأميركي لانتزاع قناة السويس من أيدي الأوروبيين.

لكن المستشرقين ومدرسة إدوار سعيد لا ترى الأمور من باب المنافسة التجارية العالمية، بل من باب صراع الهويات والإثنيات والقوميات، فيما يثبت التاريخ أن صراع الهويات هو العنوان الشكلي للصراع الفعلي، أي صراع المصالح.

وبسبب نظرتهم الهوياتية للتاريخ والصراعات، يتمسك المستشرقون وسعيد بتاريخ متخيل تبدو فيه السلطنة العثمانية واحة من التسامح والعيش الحر، وكأن الفرق الموسيقية العثمانية كانت تعزف على قارعة الطرقات للمواطنين الذين كانوا يرقصون فرحا.

أما الواقع، فمختلف. لم تكن السلطنة دولة عصرية، بل إمبراطورية قروسطوية، حكمها مبني على شرعية إلهية إسلامية، يتآمر فيها السلاطين على بعضهم البعض، وينحازون لحكام ولاياتهم الموالين لهم ضد الأقل ولاء.

هكذا، شن ولاة عكّا، شمال فلسطين، حملات عسكرية متكررة ضد جنوب لبنان ذي الغالبية الشيعية والمسيحية، وأحرقوا القرى، واعتقلوا رجال الدين والأعيان. من رجال الدين اللبنانيين كان صدرالدين شرف الدين، الذي هرب من طغيان والي عكا إلى النجف، وانتقل فيما بعد قسم من أبنائه إلى إيران. صدرالدين هذا، هو الذي أعطى اسمه لعائلة رجال الدين الذين لعبوا أدوارا قيادية في لبنان، مثل موسى الصدر، وفي العراق، مثل محمد باقر الصدر ومحمد محمد صادق الصدر ونجله مقتدى.

وفي زمن السلطنة، قامت اسطنبول بمحاكمة حكام جبل لبنان فخرالدين المعني وبشير الشهابي. وفي زمنها كانت حروب أهلية في جبل لبنان في 1840 و1860. وفي زمن السلطنة اجتاح ابراهيم محمد علي، ابن حاكم مصر، المشرق، ولم يتوقف لولا منعته بريطانيا، التي كانت ما تزال ترغب في حماية امتيازاتها التجارية مع العثمانيين. وفي زمن السلطنة، مجازر بحق الأقليات على أنواعها، الأرمن والسريان المسيحيين وغيرهم.

لم تكن السلطنة العثمانية دولة الأحلام التي تآمر عليها الأوروبيون، بل كانت دولة إسلامية، على غرار معظم دول العرب اليوم، يحكمها فاسدون، ويغرق سكانها في دوامة حروب مذهبية وعرقية، ويلجأ حكامها إلى الشعبوية الإسلامية، ويحرّضون ويضطهدون الأقليات.

لم تأت الفوضى إلى الشرق الأوسط مع الأوروبيين، ولا مع العثمانيين، بل تعيش المنطقة في صراعات مستمرة، حتى في ذروة زمنها الذهبي المتخيل، انخرط ولدا الخليفة هارون الرشيد في حرب أهلية على الحكم.

أما القول إن الشرق الأوسط كان يعيش في وئام إلى أن جاء الأوروبيون وولوا، فقول المستشرقين والمتعدين على مهنة التأريخ.

الخميس، 6 فبراير 2020

دونالد ترامب... بريء

واشنطن - من حسين عبدالحسين

بعد أشهر من النقاشات المحتدمة، والتحقيقات، وجلسات الاستماع، وبعدما صوّت مجلس النواب على قرار خلع الرئيس الأميركي من منصبه، برأ مجلس الشيوخ - كما كان متوقعاً - ليل الأربعاء - الخميس، دونالد ترامب من تُهمتَي عرقلة عمل الكونغرس واستغلال السلطة، في ختام محاكمة تاريخيّة سعى من خلالها الديموقراطيّون إلى عزله فيما تكاتف الجمهوريّون لتبرئته. 
ولم يتوان الرئيس الأميركي عن التصرف كمنتصر على مهزومين، رغم انه كشف أمس، انه مر «بمحنة فظيعة من قبل بعض الاشخاص غير الشرفاء والفاسدين»، وقال «لقد فعلوا كل ما بوسعهم لتدميرنا، ومن خلال القيام بذلك ألحقوا ضرراً كبيراً بأمتنا». 
على أن التصويت لم ينه النقاش، إذ أعلن بعض اللجان في مجلس النواب، الذي تسيطر عليه غالبية من الحزب الديموقراطي، نيتها استدعاء مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، للإدلاء بشهادته، بعدما تسربت صفحات من الكتاب الذي ينوي إصداره، والذي يشير فيه صراحة إلى أن الرئيس هدد أوكرانيا بوقف المساعدة العسكرية لها ما لم تعلن مباشرتها بالتحقيق في عمل هانتر بايدن، نجل نائب الرئيس السابق وأحد المرشحين الديموقراطيين للرئاسة حالياً جو بايدن. 
وفي مجلس الشيوخ، سرق المرشح الجمهوري السابق للرئاسة والسناتور عن ولاية يوتا ميت رومني الأضواء بمخالفته حزبه الجمهوري، وتصويته إلى جانب الديموقراطيين، الذين صوّتوا جميعاً على الإطاحة بترامب. وقال رومني إن ضميره لا يسمح له بالتغاضي عن استغلال ترامب للسلطة لمآرب شخصية، وإن ضميره يسمو على حزبيته. 
رومني صوّت إيجاباً على بند واحد من بندي الخلع، وعاد ليصوت إلى جانب حزبه الجمهوري ضد اتهام ترامب بعرقلة تحقيقات الكونغرس.
على أن تصويت رومني مع الديموقراطيين للإطاحة بترامب لم يخفف من خيبة أملهم، إذ هم كانوا يعتقدون أن ثلاثة أعضاء جمهوريين آخرين على الأقل، منهم ليزا ماركوسكي عن ولاية آلاسكا وسوزان كولينز عن ولاية مين، سيصوتون إلى جانبهم كذلك، ليرتفع مجموعهم إلى غالبية بسيطة، أي 51 عضواً من 100، فيدينون الرئيس، على الأقل معنوياً. أما إطاحة ترامب، فكانت تحتاج إلى غالبية الثلثين، أي 67 سناتوراً، وهو ما كان متعذراً منذ ما قبل إقرار مجلس النواب قرار الخلع.
وخلال الأسابيع التي استغرقتها عملية الخلع في مجلس النواب والمحاكمة في مجلس الشيوخ، صرّح عدد لا بأس به من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين بأنهم لا يوافقون ترامب على أن «الكمال» يصف مكالمته ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، والتي طالب فيها ترامب، كييف، بإعلان بدء التحقيقات تطول هانتر. إلا أن هؤلاء الشيوخ قالوا إن خطأ الرئيس لا يستحق إنهاء ولايته، لذا فهم سيصوتون ضد الإطاحة.
وتنبه بعض الديموقراطيين لثغرة في مناورة الجمهوريين، فتقدم السناتور عن ولاية وست فيرجينيا جو مانشن، بمشروع قرار يدين ترامب لسوء تصرفه مع أوكرانيا، وهو قرار لا يؤدي للإطاحة. مشروع القرار أحرج الجمهوريين، وكشف أنهم يلتزمون التصويت مع الرئيس - إن في قرار أو في محاكمة - فتراجع الديموقراطيون عن طرح القرار، وتابعوا التصويت على المحاكمة، وخسروا.
ومع نهاية أسابيع الخلع والمحاكمة، انقلب الطرفان إلى السياسة، وراح الديموقراطيون يسعون إلى إظهار تستر الجمهوريين على سوء استغلال ترامب السلطة، فيما كان الرئيس حوّل خطابه السنوي عن «حال الاتحاد»، عشية التصويت على قرار الإطاحة برئاسته، إلى استعراض سياسي وحملة انتخابية لانتخابات نوفمبر المقبل. 
وتضمن الخطاب كل النقاط التي ينشدها الجمهوريون، مثل التزام القوانين التي تسمح للمواطنين بالتسلح. وفي الوقت نفسه، قدم ترامب إنجازات سارع الخبراء إلى تفنيدها، مثل ادعائه أن إدارته تحرص على إبقاء الضمان الصحي الحكومي للمواطنين، وهو ما تعمل إدارته في الواقع على نسفه. 
على أن المشهد السياسي ليس في مصلحة الديموقراطيين، إذ أظهرت الانتخابات الرئاسية التمهيدية لحزبهم أن حماسة مناصريهم لم تصل إلى مستويات الذروة التي حققتها في العام 2008، وهو العام الذي اكتسحوا فيه البيت الأبيض ووسعوا غالبيتهم في الكونغرس بغرفتيه، بل إن مستوى المشاركة في انتخابات ولاية آيوا التمهيدية بلغت معدل العام 2016، وهو العام الذي خسر الديموقراطيون فيه الرئاسة وتقلصت كتلهم في الكونغرس.
أما ترامب، فأظهرت استطلاعات الرأي أن شعبيته بلغت ذروتها، وهو ما يعني أنه إن استمرت الأوضاع على هذا المنوال، فإنه سيضمن فوزه بولاية رئاسية ثانية، فيما قد يخسر الديموقراطيون غالبيتهم في مجلس النواب، ويتعذر تحويل أقليتهم إلى غالبية في مجلس الشيوخ.

الحكم النهائي في... نوفمبر

واشنطن - رويترز - «نهاية كاذبة»، هو الوصف الذي يطلقه العاملون في صناعة السينما في هوليوود، عندما يبدو أن القصة على وشك الانتهاء... ورغم ذلك تتواصل الأحداث.
انتهت محاكمة الرئيس دونالد ترامب ليل الأربعاء - الخميس، من دون مفاجآت. فقد كان القرار براءته. لكن نهاية القصة على أرض الواقع سوف تتكشف في نوفمبر المقبل، عندما يتوجه الناخبون الأميركيون إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم.
فعندها سيدرك الديموقراطيون أخيراً ما إذا كانت مقامرتهم لعزل الرئيس، في خطوة هي الثالثة من نوعها في التاريخ الأميركي، قد أتت ثمارها وحققت لهم مكاسب انتخابية في الفوز بأصوات الناخبين الذين لم يحسموا رأيهم بعد.
وأشارت استطلاعات الرأي خلال المحاكمة إلى أن ترامب لم يلحق به ضرر سياسي يذكر، إذ كانت آراء الجمهوريين والديموقراطيين ثابتة إلى حد كبير منذ البداية.
وفي نوفمبر أيضاً، ربما يدرك نواب الحزب الجمهوري، خصوصاً في الدوائر والولايات غير المحسومة، الثمن السياسي لإقامة حائط للتصدي للمساعي الرامية لإخراج ترامب من المكتب البيضاوي.
وأثر المحاكمة على الانتخابات أبعد ما يكون عن الوضوح. وعندما يحين موعد نوفمبر، ربما تكون المحاكمة والمعركة الحزبية التي دارت حولها، مجرد ذكرى بعيدة عند عدد كبير من الناخبين المهمومين بدرجة أكبر بأرزاقهم.
ومع ذلك، فقد هزت محاكمة واحد من أكثر الرؤساء إثارة للخلافات في التاريخ الأميركي الحديث السباق الانتخابي وذلك باستنهاض همم قواعد الحزبين.
وقد جمع ترامب ملايين الدولارات لحملة إعادة انتخابه من جراء المحاكمة، فبلغ حجم التبرعات لحملته 46 مليون دولار في الربع الأخير من العام الماضي، محققا أكبر قدر من التبرعات حتى الآن. 
كما شهد الديموقراطيون الذين تقلقهم أيضاً الغالبية الهشة التي يتمتعون بها في مجلس النواب، جمع تبرعات ضخمة للمرشحين الديموقراطيين للرئاسة وللكونغرس.
ورجح بعض المحللين السياسيين، ان يوجه الجمهوريون والديموقراطيون سهام النقد إلى تصويت خصومهم في المحاكمة في مجلسي الشيوخ والنواب في إعلانات عبر وسائل الإعلام خلال الحملة الانتخابية. وقد بدأ ذلك يحدث بالفعل في بعض المناطق.
ويمكن لترامب أيضاً، أن يتباهى بخروجه سالماً من التحقيق الذي أجراه المحقق الخاص روبرت مولر في التدخل الروسي عام 2016 لمساعدته في الفوز بالانتخابات الرئاسية ومن محاكمته في الكونغرس. وكان الرئيس وصف التحقيقين، بأنهما مساع تبذلها عناصر في «الدولة العميقة» معارضة لرئاسته.

الأربعاء، 5 فبراير 2020

ترامب في خطاب «حال الاتحاد»: أعداؤنا يفرّون حظوظ أميركا ترتفع... والتآكل الاقتصادي انتهى

واشنطن - من حسين عبدالحسين

في الغرفة نفسها، التي أقر فيها مجلس النواب في الكونغرس «قرار» خلع دونالد ترامب من الرئاسة، وقف الرئيس الاميركي ليدلي بخطابه السنوي الثالث عن «حال الاتحاد». وفي وقت كان الحزب الديموقراطي يتخبط للإعلان عن نتائج الجولة الأولى من انتخاباته التمهيدية للرئاسة في ولاية أيوا، وقف ترامب، قبل تسعة أشهر من الانتخابات الرئاسيّة، يتباهى بانجازات إدارته، التي افتتحها بالحديث عن قوة الاقتصاد والجيش وتحسن الوضع الأمني على الحدود وفي الداخل.
في السياسة الخارجية، التي يفرد لها الرؤساء مساحة ضيقة في خطاباتهم عن «حال الاتحاد»، أعلن ترامب: «إدارتي تواجه الإرهاب الإسلامي المتطرف، الأسبوع الماضي أعلنت خطة للسلام لا سابق لها بين إسرائيل والفلسطينيين لتثبيت المنطقة وإعطاء ملايين الناس فرصة لحياة أفضل».
وتطرق الرئيس الأميركي، الى القضاء على تنظيم «داعش» وقتل زعيمه أبوبكر البغدادي في سورية قبل أشهر، وأكد: «اليوم أراضي داعش تمت ازالتها بنسبة مئة في المئة، ومؤسس وقائد داعش، أرهابي معروف باسم البغدادي، مات».
وأشار ترامب الى أرملة جندي أميركي كان قتل في العراق في العام 2008، وكانت تجلس ومعها ابنها في القاعة، وقال ان الارهابي المسؤول عن مقتل زوجها كان قائد «لواء القدس» في الحرس الثوري الايراني قاسم سليماني.
ووصف الرئيس الأميركي، سليماني، بالمسؤول عن قتل عدد كبير من الناس. وقال إن سليماني كان يخطط لقتل المزيد، قبل ان تنفذ القوات الاميركية غارة جوية «بمنتهى الدقة، قتلت فيها سليماني (أوائل يناير الماضي قرب مطار بغداد)، وانهت عهده الارهابي الى الابد».
وأكد: «رسالتنا للارهابيين... لن تهربوا من العدالة الاميركية، اذا هاجمتم مواطنينا استغنيتم عن حياتكم».
وتابع ترامب، ان الإيرانيين يتظاهرون منذ أشهر ضد نظامهم، الذي عليه «وقف السعي للحصول على سلاح نووي، ووقف نشر الارهاب والموت والدمار، وأن يبدأ العمل لتقديم حياة افضل لمواطنيه»، مشيراً إلى ان الاقتصاد الايراني يعاني أوضاعاً صعبة، وانه يمكن لاميركا مساعدة الأيرانيين للخروج من ازمتهم، لكن القرار بأيدي الإيرانيين.
وأضاف: «ربما هم فخورون جداً، أو مجانين، كي لا يطلبوا مساعدتنا... لنرى أي طريق سيختارون».
وكان الرئيس الأميركي افتتح خطابه بالقول إن «أعداء اميركا يفرون، وحظوظ اميركا ترتفع، وسنوات التآكل الاقتصادي انتهت»، مشدداً على أنّه «وفى» بالوعود التي قطعها.
واضاف: «في ثلاث سنوات قصيرة، رفضنا فكرة الانحدار الاميركي، وها نحن نمشي قدماً بسرعة لم تكن متخيلة قبل فترة قصيرة من الزمن، ولن نعود للوراء ابدا». وتابع: «اقتصادنا في احسن حالاته، وجيشنا هو الاقوى، حدودنا آمنة، وفخرنا عاد، لذا اقول ان حال اتحادنا اقوى من اي وقت مضى».
كما أشار إلى أن الولايات المتحدة، أصبحت اكبر منتج للطاقة في العالم، ومستقلة لناحية حاجاتها من الطاقة. وقال: «بعد خسارتنا 60 ألفاً من المعامل اثناء الادارتين السابقتين، اضفنا 12 ألف معمل أثناء إدارتي، في وقت آلاف المعامل الاخرى هي قيد الانشاء».
وأعلن ان «الشركات لم تعد تترك أميركا، بل هي تأتي اليها، اذ ان أميركا هي المكان الذي تجري فيه النشاطات الاقتصادية الأبرز حول العالم».
وعزا ترامب فضل التحسن الاقتصادي الى سياساته القاضية بتخفيض الضرائب، وباعادة المفاوضات حول اتفاقيات التجارة الحرة، خصوصا مع جارتي أميركا واكبر شركائها الاقتصاديين، كندا والمكسيك، وقال انه نجح في وقف استغلال الصين التجارة مع أميركا لمصلحة بكين.
وقال ترامب، في غمزة من قناة منافسه المحتمل للرئاسة في الانتخابات المقررة في نوفمبر المقبل، السناتور الاشتراكي بيرني ساندرز، ان «الاشتراكية تدمّر الدول، والحرية توحّد الارواح». واضاف: «لن ندع الاشتراكية تدمر قطاع العناية الصحية».
وجدد ترامب تمسكه بشعاره الانتخابي، وقال ان واجبنا دائماً هو «ان نضع أميركا اولاً».
وحاز ترامب على التصفيق وقوفاً من الحزبين، عندما دعا إلى الانفاق من أجل تحسين البنية التحتية للولايات المتحدة، بما في ذلك تمويل توسيع شبكات الانترنت السريع، خصوصا في المناطق الريفية.
ولم يلبث الاجماع ان تبخر عندما تابع ترامب بتوجيهه الثناء لحرس الحدود وشرطة دائرة الهجرة، وأشار الى الارتفاع الكبير في ارقام توقيف وترحيل من دخلوا البلاد بصورة غير شرعية.
وفيما كان الجمهوريون يستمعون، كان الديموقراطيون، الذين يؤيدون فتح الحدود للاجئين من دول أميركا الجنوبية، يعبرون بصيحات الاستهجان. وقال الرئيس: «ستكون الولايات المتحدة ملجأ فقط للمواطنين الملتزمين بالقانون لا للغرباء المجرمين». وأكد: «إذا دخلتم بلادنا بصورة غير شرعية، فسيتم ترحيلكم».
وأكد ترامب: «خلافاً لكثيرين قبلي، أنا وفيت بوعودي»، فيما كان الجمهوريون يقاطعونه تكراراً بالتصفيق والوقوف مرددين «الولايات المتحدة، الولايات المتحدة». في المقابل كان الديموقراطيون المعارضون يجلسون صامتين.
ودينياً، قال الرئيس الجمهوري، إن «هناك الكثيرين من الذين ينتظرون إدارتي أيضاً لتدافع عن الحرية الدينية. وهذا يشمل الحق الدستوري للصلاة في المدارس العمومية».
وتابع: «في أميركا، لا نكمم القساوسة ورجال الدين (...) في أميركا نحتفل بالدين ونعتز به ونرفع أصواتنا في الصلاة».
كما دافع عن التعديل الثاني للدستور والمتعلق بحرية حمل السلاح.
وخلال الخطاب، أعلن ترامب أن أميركا ستكون «أول دولة سترفع العلم على سطح المريخ».
وفي حديث لم يتطرق اليه الرؤساء الاميركيون منذ فترة، تحدث ترامب عن نشر الديموقراطية في دول أميركا اللاتينية، خصوصا فنزويلا وكوبا، التي اسماها «ديكتاتوريات الاشتراكية»، وعن دعمِه للمعارض خوان غوايدو، الذي تعترف به الولايات المتحدة وأكثر من 50 دولة رئيساً موقّتاً لفنزويلا.
وقال أمام الكونغرس، إنّ «طغيان» الرئيس الاشتراكي نيكولاس مادورو سيتمّ «تحطيمه». واعتبر أنّ «مادورو زعيم غير شرعي، طاغية يُعامل شعبه بوحشيّة»، مشدّداً على أنّ «قبضة» مادورو «سيتمّ تحطيمها وتدميرها».
وأكّد البيت الأبيض في بيان، أنّ غوايدو، هو من بين «ضيوف الشرف» الذين تمّت دعوتهم لحضور الخطاب الرئاسي التقليدي.
ووقف غوايدو، أمام التصفيق الحار الذي تلقاه من اعضاء الحزبين الجمهوري والديموقراطي.
ولم يُركّز خطاب ترامب كثيراً على السياسة الخارجية، ولم يأت على ذكر كوريا الشمالية، لكنه أكد عزمه على «إعادة» الجنود الأميركيّين من أفغانستان.

الثلاثاء، 4 فبراير 2020

«التمهيدية» الديموقراطية تنطلق وسط الفوضى

واشنطن - من حسين عبدالحسين
جريدة الراي

بعد ليل طويل انتظر خلاله ملايين الأميركيين إعلان نتائج اول جولة من الانتخابات الرئاسية التمهيدية للحزب الديموقراطي، والتي جرت في ولاية آيوا، تحولت الانتخابات الى احراج مذلّ للحزب، إذ تعطل التطبيق الهاتفي الذي كانت أعدته القيادة الحزبية لمنع أي اختراق أو تهكير ولتسريع عملية الفرز والحساب.
ومع إشراقة شمس يوم أمس، توقّع المسؤولون عن تنظيم الانتخابات التمهيدية إعلان النتائج مع نهاية اليوم، في وقت انتقل المرشحون إلى ولاية نيوهامبشير لحشد مؤيديهم للاقتراع في الجولة الانتخابية الثانية المقررة الأسبوع المقبل.
وعلى مدى الأشهر الخمسة المقبلة، يجري الديموقراطيون سلسلة من الانتخابات تمهيدية، في الولايات الخمسين، لاختيار مرشح الحزب لمنافسة الرئيس دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر المقبل. ولا يختار الحزب الحاكم، اي الجمهوري حالياً، مرشحاً للانتخابات، الذي غالبا ما يكون الرئيس نفسه، الذي يحق له الترشح لولاية ثانية مدتها أربع سنوات.
واستغلّ ترامب الفرصة للاستهزاء من منافسيه الديموقراطيين وكان اول منتقدي انتخابات ولاية ايوا، التي وصفها بـ «الكارثة».
وملمحاً إلى فوزه في الانتخابات التمهيدية للجمهوريين في الولاية الزراعية، قال إن «الشخص الوحيد الذي يمكنه الاعلان عن نصر كبير جدا في ايوا، هو ترامب».
ويتصدر سباق الفوز بترشيح الحزب الديموقراطي للرئاسة خمسة مرشحين، ثلاثة منهم من الوسطيين، واثنان من اقصى اليسار. المرشحون الوسطيون، او المحسوبون على يسار الوسط، هم نائب الرئيس السابق جو بايدن، والسناتور عن ولاية مينيسوتا ايمي كلوباشار، وعمدة مدينة ساوث بند في ولاية انديانا بيت بوتجيج، والاخير هو نجل مهاجر مالطي الى الولايات المتحدة من عائلة بو دجاج. اما مرشحا اقصى اليسار فهما عضوا مجلس الشيوخ عن ولاية فرمونت بيرني ساندرز وعن ولاية ماساشوسيتس اليزابيث وران.
وعلى مدى العام الماضي وحتى مطلع العام، اظهرت غالبية استطلاعات الرأي تصدر بايدن على منافسيه، الى ان بدأت آخر الاستطلاعات تشير الى تقدم ساندرز، وهو ما أقلق «المؤسسة الحاكمة» وغالبية قواعد الحزب الديموقراطي. ويقود الرئيس السابق باراك أوباما، معنويا، الحزب الديموقراطي، الى ان يستعيد الحزب البيت الابيض، فيصبح الرئيس الحاكم هو فعليا اعلى سلطة معنوية في الحزب.
ويخشى الديموقراطيون فوز ساندرز بترشيح الحزب لاسباب متعددة، اولها انه ليس تنظيميا في الحزب، بل هو في حزب مغمور اسمه «الحزب الاشتراكي الديموقراطي». ولأن ساندرز وحيدا من حزبه في الكونغرس، فهو يحوز على تسمية مستقل، لكنه عضو في كتلة الديموقراطيين داخل مجلس الشيوخ.
وبسبب الاشتراكية التي تسم ساندرز، وبسبب عدد من الفيديوات القديمة التي تظهره يمتدح الشيوعية والاتحاد السوفياتي وكوبا، تخشى المؤسسة الحاكمة في الحزب الديموقراطي ان يتحول ساندرز، لا الى عقبة في وجه استعادة البيت الابيض ككل، بل الى عبء على لائحة الحزب للانتخابات، والتي تشمل المرشحين للكونغرس بغرفتيه، وللمحافظين والمجالس التمثيلية في الولايات الخمسين، اي ان أوباما وكبار الحزب لا يخشون انتصار ترامب على ساندرز فحسب، بل هم يخشون خسارة الغالبية التي يسيطرون عليها في مجلس النواب، وفشلهم في استعادة مجلس الشيوخ، في حال فاز ساندرز بترشيح الحزب.
خوف الديموقراطيين من امكانية فوز ساندرز بالترشيح يبدو انه دفع احد المرشحين غير الاساسيين، وهو عمدة مدينة نيويورك السابق وصاحب امبراطورية بلومبيرغ الاعلامية مايكل بلومبيرغ، الى التموضع بشكل يسمح له حمل لواء الجناح الوسطي المعتدل في الحزب، في وجه ساندرز ووارن، في حال انهارت حملة بايدن بعد جولات الانتخابات في الولايات الاربع الاولى.
وبلومبيرغ من اكثر الأميركيين ثراء، وهو لا يجمع تبرعات لتمويل حملته الانتخابية، بل ينفق عليها من ماله الخاص، وهو الوعد الذي كان وعده ترامب ولم يلتزم به. وتشير التقارير ان بلومبيرغ خصص «جبلا من المال»، يبلغ مئتي مليون دولار، على أقل تقدير، لتمويل حملته، وهو مبلغ يمثل ضعف ما يمكن لترامب والجمهوريين انفاقه على حملتهم.
وغالبا ما يتمتع الجمهوريون بأموال أكثر لتمويل حملاتهم الانتخابية، بسبب دعم كبار المتمولين - الذين يؤيدون سياسات الحزب القاضية بخفض ضرائب الدخل الى حدها الادنى - لهم. ويزيد في طين الديموقراطيين بلة ان الحزب الذي يحتل البيت الابيض غالبا ما ينجح في جمع اموال انتخابية اكثر بسبب النجومية التي يتمتع بها اي رئيس حاكم.
وانفرد بوتجيج، بين المرشحين الديموقراطيين، بالتلميح الى انه الفائر في انتخابات ايوا، لكنه اعترف بأن المشاكل في الحصول على النتائج النهائية لا تزال تعطل الاعلان النهائي عن النتائج.
هكذا، اسدل الديموقراطيون الستار على اولى انتخاباتهم الرئاسية بخسارة تنظيمية محرجة فتحت باب السخرية عليهم، في وقت أطل ترامب مساء أمس (فجراً بتوقيت الكويت) للادلاء بخطاب «حال الاتحاد» السنوي.

لماذا تخشى إسرائيل فلسطين؟

حسين عبدالحسين

في مخيلة العرب ثلاثة حلول مختلفة للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي؛ أولها العودة إلى ما قبل العام 1948، و"إعادة الحق لأصحابه" بتدمير دولة إسرائيل وإعادة إحياء الدولة العربية (أو الإسلامية) الفلسطينية حسبما رسمتها الكولونيالية الأوروبية قبل قرن من الزمن؛ وثانيها العودة إلى تقسيم ما قبل العام 1967، وإقامة دولتين سيدتين مستقلتين ـ فلسطين وإسرائيل ـ تعيشان جنبا إلى جنب، وثالثهما إقامة دولة واحدة ثنائية القومية، يهودية وعربية، تمنح هويتها لكل اليهود والفلسطينيين في المعمورة.

الحل الأول، أي تدمير إسرائيل بالكامل، يتبناه الإسلام السياسي، وفي طليعته "محور الممانعة" الذي تقوده إيران وتنخرط فيه تنظيمات "حماس" الفلسطينية و"حزب الله" اللبناني، و"الحشد الشعبي" العراقي، وحتى "أنصار الله" الحوثيين اليمنيين.

هذا المحور المتطرف يعتقد أن زوال إسرائيل حتمي، وإن كان سيحصل بعد أجيال، وهو غالبا ما يعادي، لا إسرائيل فحسب، بل اليهودية كديانة، ويستعين بآيات قرآنية وأحاديث نبوية للدلالة على أن اليهود من المغضوب عليهم، وهو المحور نفسه الذي يشكك بمحارق الهولوكوست، التي أودت بحياة ستة ملايين يهودي.

من نافل القول إن هذا الحل المتطرف يرفضه الإسرائيليون، والمجتمع الدولي بأسره، فإسرائيل دولة قائمة بشرعية قرارات الأمم المتحدة، وباعتراف غالبية دول العالم بها، وباستثناء المتطرفين ـ من الإسلاميين أم النازيين الجدد من البيض ـ لا يوافق العالم على زوال دولة إسرائيل.

الحل الثاني للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي تتبناه "منظمة التحرير الفلسطينية" و"السلطة الفلسطينية"، وهو يشبه مبادرة بيروت العربية للسلام للعام 2002، ويربط سلام عربي شامل مع إسرائيل بتخليها عن الضفة الغربية كاملة، وقطاع غزة والقدس الشرقية، حسب قرارات الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين في العام 1948، وقيام دولة فلسطينية في هذه الأراضي.

إلى أن تتم هذه التسوية، يتمسك مناصرو هذا الحل بمعاداة إسرائيل ومقاطعتها، وأحيانا يتماهون مع "محور الممانعة" في المغالاة في معاداة إسرائيل، ويطلقون عبارة "فلسطين المحتلة"، لا على الضفة والقدس الشرقية فحسب، بل على كل دولة إسرائيل.

مثلا، عندما يتحدث الإعلام اللبناني عن شمال إسرائيل المحاذي لجنوب لبنان، يصفه بالأراضي المحتلة، ويصف القرى الإسرائيلية بالمستوطنات، مع أنها أراض إسرائيلية باعتراف دولي وغير خاضعة لمفاوضات أو جدال.

التماهي الخطابي بين معسكري "زوال إسرائيل" و"حل الدولتين" يمكن تجاهله. ما لا يمكن تجاهله هي التفاصيل التي يتركها معسكر "حل الدولتين" غامضة في حال قامت دولة فلسطينية في الضفة وغزة.

المشكلة الأولى تكمن في مطالبة هذا المعسكر بعودة الشتات الفلسطيني، لا إلى الدولة الفلسطينية فحسب، بل إلى إسرائيل أيضا، وهو ما يؤدي لقيام دولتين: فلسطين ذات غالبية عربية صرفة، وإسرائيل ذات غالبية عربية مع أقلية يهودية. حتى لو تجاوزنا مشكلة الشتات الفلسطيني بسماح العودة إلى فلسطين حصرا، لا يمكن التغاضي عن دعوات المعتدلين إلى "سلام شكلي" فحسب، أي علاقات ديبلوماسية بين العرب وإسرائيل بدون علاقات على مستوى شعبي، على غرار السلام البارد بين إسرائيل وجارتيها العربيتين، مصر والأردن. يعني السلام مع إسرائيل، حسب معسكر "حل الدولتين"، لا يوقف حملات مقاطعة إسرائيل وتخوين من يزورها أو من يتعاطى مع الإسرائيليين.

ومن الأمور المقلقة لإسرائيل هي غموض السياسة الإقليمية لدولة فلسطين المزمع قيامها: ماذا لو تحالفت فلسطين مع إيران؟ وماذا لو حطّ "قائد لواء القدس في الحرس الثوري الإيراني" الراحل قاسم سليماني في مطار عرفات الدولي في غزة، على غرار ما فعل في بغداد قبيل اغتياله؟ ومن يضمن ألا تسلح طهران ميليشيات معادية لإسرائيل داخل فلسطين، في حال غابت الرقابة الإسرائيلية عن المطارات والمرافئ الفلسطينية؟ ومن يضمن ألا يزود الفلسطينيون "حزب الله" بإحداثيات مواقع إسرائيلية حساسة، أو السماح له بإقامة قواعد في فلسطين؟ وحتى لو قامت فلسطين مع أجهزة أمنية قادرة على ضمان أمن إسرائيل، ماذا يحصل لو انهارت هذه الدولة أمام انقلاب عسكري أو ميليشيوي، كما طردت حماس السلطة من غزة؟ وماذا تفعل إسرائيل تجاه دولة فلسطينية فاشلة غارقة في حروب عصابات؟ تجتاح الدولة الفلسطينية وتحتلها مجددا؟

الحل الثالث للصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو الذي تصوره الأكاديمي الفلسطيني الأميركي الراحل إدوار سعيد، وتبناه طاغية ليبيا الراحل معمر القذافي بصورة كاريكاتورية، وهو حل يتبناه كثيرون في صفوف النخبة العربية، أي قيام دولة واحدة ثنائية القومية، أسماها القذافي إسراطين، مع حقوق متساوية لجميع المواطنين.

مشكلة هذه الدولة أن غير اليهود فيها سيشكلون غالبية، وسيتحول اليهود إلى أقلية، وبالنظر إلى تجارب الأقليات عبر التاريخ العربي والعثماني، لا يمكن العثور على تجربة تساويهم بالغالبية، مثل في حالات أكراد العراق وسوريا وتركيا، وأقباط مصر، ومسيحيي لبنان ودروزه ـ الذي تحولوا إلى "هنود حمر" حسب قول زعيم الدروز وليد جنبلاط ـ أي سكان أصليين يعانون من طغيان الغالبية، وإلى أن يقدم العرب المسلمون تجربة ناجحة واحدة في إقامة ديمقراطية علمانية، لن تأمن الأقليات للعيش بمساواة معهم في نفس الدولة.

في أسس الديبلوماسية وحل النزاعات ضرورة تفهم مخاوف الأطراف المتصارعة، وتذليلها، حتى تتخلى عن تمسكها بالعنف وسيلة للدفاع عن وجودها. في تاريخ العرب، لم يتقدم من يمسك بأيدي الأقلية اليهود، ليؤكد لهم أن حقوقهم ومصالحهم محفوظة، لا كذميين أو مواطني أقلية درجة ثانية، بل كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، بالضبط كما يتساوى اليهود والعرب في ديمقراطيات الشتات.

وطالما أن السلام الموعود سيبقى جافا، تحته رماد الانتقام والمقاطعة والسعي إلى التفوق العددي السكاني لتدمير دولة اليهود، لن يقدم الإسرائيليون أكثر من الحد الأدنى الذي يسمح لهم بالتخلي عن حكم سبعة ملايين فلسطيني يعيشون بينهم.

لم يسقط جدار برلين باتفاقية، ولم تلغ دول أوروبا الحدود بينها بمفاوضات، بل كلها حواجز سقطت بعد ارتقاء الوعي بالمواطنية والمساواة بين الأوروبيين بغض النظر عن جنسهم أو دينهم أو تاريخهم، وهو وعي قابل للعودة إلى الوراء تحت ضغط القوميات الشوفينية التي تعصف بالقارة العجوز اليوم.

قبل السلام مع إسرائيل، يحتاج المسلمون إلى سلام مع أنفسهم، سلام بين السنة والشيعة، ومعهم العلويين والإسماعيليين والدروز والأيزيديين والأباضيين والأقباط والموارنة والأرمن والسريان والصابئة والفرس والترك والكرد والآخرين.

لن يكون سلام عربي إسرائيلي، ولن تقوم دولة فلسطينية، باتفاقيات مفصّلة وتواقيع وتحكيم، ولن يكون سلام بين العرب والإسرائيليين بدون العفو عمّا مضى، والتطلع إلى مستقبل أفضل، وانفتاح بين القلوب والعقول، ومساواة الآخر بالنفس، وإدراك أن الآخر ليس دينا ولا تاريخا ولا سياسة، بل إنسان يبحث عن السلام مع نفسه، وعن راحة البال، وعن مستقبل أفضل له ولعياله.

Since December 2008