الثلاثاء، 31 أغسطس 2021

محور "تصفير المشاكل".. ومحور "المشاكل"

حسين عبدالحسين

بمشاركة أكبر شركات التكنولوجيا في العالم، وفي طليعتها أمازون وآبل وغوغل، أعلنت السعودية إنفاق مليار ومئتي مليون دولار لتمويل برنامج يهدف إلى تحويل مئة ألف سعودي إلى متخصصين في قطاع التكنولوجيا "هاي تك".

وفيما كانت الرياض تستثمر في بناء قوة عاملة قادرة على اقتطاع حصة من اقتصاد التكنولوجيا العالمي، زار وزير الخارجية القطري محمد بن عبدالرحمن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لتوقيع اتفاقية إقامة مجلس للتنسيق بين بلديهما، بعد أعوام من القطيعة، وهو توقيع تلا نهاية قطيعة مماثلة بين قطر والإمارات، بعد زيارة الرجل الثالث في القيادة الإماراتية، طحنون بن زايد، الدوحة، ولقائه أميرها تميم بن حمد، وزيارة مماثلة سبق لبن زايد أن قام بها إلى أنقرة، التقى فيها الرئيس رجب طيب إردوغان.

في منطقة الشرق الأوسط عدد من الدول التي تدرك محورية نمو اقتصادها، وتسخّر كل إمكاناتها في سبيل ذلك، وتتعالى عن عداوات الماضي، وتعمل على "تصفير المشاكل" مع أكبر عدد ممكن من الدول بهدف الانخراط معها في شراكات اقتصادية.

والتعاون الاقتصادي لا يعني بالضرورة التخلي عن الخطاب السياسي المعادي. تركيا، مثلا، لا تزال تعادي إسرائيل في العلن، ولكن في السر، يمضي حجم التجارة الثنائية بين البلدين في ازدياد مضطرد.

أنقرة تدرك أن سنوات من السياسة الخارجية الشعبوية هزّت الاقتصاد التركي، فتراجعت قيمة العملة الوطنية بواقع 11 في المئة على مدى العام الماضي. ومثلها، تعرف الإمارات أنه لا يمكن مواصلة الانخراط في حروب اليمن وليبيا وغيرها، وهو ما دفع أبوظبي إلى تقليص مشاركتها في الصراعات الاقليمية، واستبدال ذلك بتعاون تجاري واقتصادي، حتى مع أعداء الأمس.

و"تصفير المشاكل" في العلاقات الخارجية شمل بدوره السودان، الذي عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل مقابل إسقاط ديونه وعودته للاقتصاد العالمي، ومثله فعل المغرب، الذي رأى في التطبيع مع إسرائيل فرصة ذهبية للعمل على رفع نسب النمو الاقتصادي.

بكلام آخر، تتجه تركيا والإمارات ودول إقليمية أخرى نحو "تصفير المشاكل" في علاقاتها الخارجية، وذلك في سبيل مصالحها القومية العليا، خصوصا لناحية نمو اقتصادها. وسياسة "تصفير المشاكل" هذه ستؤدي، من دون شك، إلى توسيع دائرة السلام بين الدول العربية وإسرائيل، وذلك بدوافع اقتصادية، بعيدا عن عقود من الخطابات والمواقف الخشبية عن الصمود والتصدي والانتصار وباقي الأسطوانة.

على أنه في وقت تتوسع رقعة السلام في الإقليم، ومعها تنمو الاقتصادات وتتحسن مداخيل الناس وحياتهم ويعيشون بكرامة، تواصل كتلة ثانية في منطقة الشرق الأوسط تعكير السلام، بل تعمل على توسيع رقعة الحروب، مع ما يعني ذلك من انهيار اقتصاداتها وتوسع دائرة الفقر والبؤس.

و"محور المشاكل" هذا بقيادة "الجمهورية الإسلامية في إيران"، ومشاركة أربع دول عربية فاشلة تحكمها حكومات خاضعة لسطوة ميليشيات تقسم الولاء للنظام الإيراني، هذه الدول هي العراق وسوريا ولبنان واليمن، ومعها قطاع غزة الفلسطيني.

تسود في "محور المشاكل" شعارات تتصدرها الدعوة بالموت لأميركا وإسرائيل، بل لليهود عموما، وتنتشر فيها عمليات اغتيال بحق المطالبين بالسلام والعيش الكريم. و"محور المشاكل" الذي تقوده إيران ما زال يتبنى سياسات بالية حول الاقتصاد، منها فرضيات "الاكتفاء الذاتي"، التي تخلت عنها أكبر الحكومات الشيوعية في العالم، وفي طليعتها الصين، التي راح اقتصادها ينمو ويصل للصدارة باستناده إلى التجارة والشراكات الاقتصادية مع كل دول العالم، وفي طليعتها العدو الإمبريالي المفترض، أي الولايات المتحدة.

ومثل في حالة تركيا وإسرائيل، تتمسك الصين بخطاب ودعاية معادية لأميركا لكن على أرض الواقع، تجعل التجارة بين الدولتين أكبر شريكين اقتصاديين على وجه الكوكب.

بين الحين والآخر، تختلط الأمور على حكام إيران، فيخالون أن عائداتهم النفطية تعني قوة وتفوقا اقتصاديا، لكن الواقع أن الاقتصاد الإيراني متهالك، وتتهالك معه اقتصادات الدول العربية التي ترتبط به.

هكذا، في وقت تقيم السعودية شراكة مع أكبر شركات ”هاي تك“ في العالم، وتنمو اقتصادات الدول التي تعيش في سلام مع بعضها ومع إسرائيل، مثل الإمارات وتركيا، تحتار إيران في كيفية تأمين المواد الأساسية المطلوبة للعيش في حده الأدنى لشعبها والشعوب التي تحكمها، مثل الدواء والماء والقمح وحتى البنزين للسيارات، إذ تكاد تنعدم قدرة إيران — التي تخال نفسها دولة صناعية متفوقة — على صيانة منشآتها النفطية، مما يمنعها تاليا من تكرير كميات كافية من النفط للاستهلاك المحلي ولاستهلاك الحلفاء.

وهكذا، فيما أقامت السعودية احتفالات للإعلان عن انطلاق برامج التنمية التكنولوجية، وقف زعيم "حزب الله" اللبناني حسن نصرالله في بيروت يلّوح بأصبعه، ويهدد أميركا وإسرائيل من مغبة استهدافهم ناقلة النفط التي يفترض أن ايران أرسلتها للبنان للتخفيف من أزمته القاتلة، رغم أن لا أميركا ولا إسرائيل وعدت بالتعرض للناقلة أو استهدافها.

نصرالله، مثل نظام ايران، لا كلام لديه غير الحروب، ولا حياة لمن يعيشون تحت حكمه غير حياة الذل والفقر والبؤس التي يسميها نصرالله "كرامة وطنية" و"انتصارات" و"عدم خضوع".

لكن مما يشكي "الخضوع" المزعوم والسلام مع اسرائيل؟ وأين يعمل الفلسطينيون ويكسبون العيش الكريم؟ في تركيا والإمارات أم في إيران ولبنان؟ الإجابة هي أن بعض الفلسطينيين لا يدركون أن العيش الكريم يعني أن مصالحهم تسمو على عواطفهم، فيكسبون عيشهم في محور "تصفير المشاكل"، أي في تركيا والإمارات والسعودية، لكنهم يهللون لـ "محور المشاكل"، أي ايران و"حزب الله" ودول الموت، وهي المفارقة التي لا يبدو أن هؤلاء الفلسطينيين، ومعهم عرب كثيرين، يدركونها.

الثلاثاء، 24 أغسطس 2021

حماس تهنئ طالبان بانتصار القرون الوسطى

حسين عبدالحسين

لافتة كانت ردود الفعل على عودة حركة طالبان الإسلامية إلى حكم أفغانستان. حركة حماس الإسلامية، حاكمة قطاع غزة الفلسطيني، هنّأت طالبان على "اندحار الاحتلال الأميركي"، واعتبرت أن المشهد سيتكرر يوما ما في الأراضي الفلسطينية، وسيندحر "الاحتلال الإسرائيلي" كذلك.

لا تهم غالبية الفلسطينيين رهاناتهم الدولية الخاطئة، مرارا وتكرارا. يوم اجتمع العالم ضد طاغية العراق الراحل صدام حسين لطرد قواته من الكويت، وقف رئيس الفلسطينية الراحل ياسر عرفات إلى جانب صدام، وهلل لذلك فلسطينيون. ومثل ذلك، في وقت يُقلق العالم مستقبل أفغانستان من الاضطهاد الذي قد تمارسه طالبان، تهنئ حماس طالبان.

ولا يهم حماس أن طالبان أعلنت أنها لن تحافظ على النظام الديمقراطي في أفغانستان، وأنها ستعيد إقامة الإمارة الإسلامية. حماس نفسها استولت على قطاع غزة في انتخابات ديمقراطية، أتبعتها بانقلاب عسكري طردت بموجبه السلطة الفلسطينية من القطاع وحولّته إلى إمارة إسلامية فلسطينية. 

رد الفعل الدولي تجاه انتصار "الإمارة الإسلامية" في غزة كانت متوقعة في 2007، وهي شبيهة تجاه أفغانستان اليوم، ومبنية على مقاطعة العالم لهذا النوع من الدول التي تنتمي للقرون الوسطى بمعاداتها للديمقراطية وحقوق الإنسان، وخصوصا حقوق المرأة.

هكذا أدى "انتصار حماس" في غزة إلى عزلة دولية، باستثناء الحكومات التي يسيطر عليها الإسلام السياسي، مثل تركيا وقطر. وهكذا سيؤدي قيام الإمارة الإسلامية للطالبان في أفغانستان إلى مقاطعة دولية وعزلة وفقر وجوع، تماما كما في غزة.

والغريب في الأمر هو إعجاب الإسلام السياسي بشقيه، السني والشيعي، بنموذج "الانتصار" و"التحرير" و"دحر الاحتلال"، وكأن الحكم الوطني هو هدف الشعوب، لا وسيلتها لتحقيق النمو الاقتصادي والعيش الكريم. 

على مدى العقد والنصف الماضي، اقترنت "انتصارات" حماس بالجوع والقهر والعزلة عن العالم، ومثلها اقترنت "انتصارات" إيران وميليشياتها في لبنان والعراق واليمن، و"انتصارات" بشار الأسد في سوريا، بنموذج حكم متطابق من الفقر والجوع والعوز والبؤس، كما تصدير اللاجئين والارهاب إلى العالم. 

مفارقة الارتباط الوثيق بين "الانتصارات" و"التحرير" من جهة، والفقر والبؤس من جهة ثانية، هي في قلب الانقسام العربي والإسلامي. أهل "الانتصارات"، وغالبيتهم من الإسلاميين والقوميين واليساريين، يرون في "الانتصار" و"الحكم الوطني" الهدف الأسمى، حتى لو أدى الحكم الوطني إلى تراجع مستوى معيشة الناس، وهم يرون أن أهدافهم هذه سامية وغير قابلة لأي نقاش، تحت طائلة اتهام من يعارضهم بتهم العمالة للإمبريالية والأعداء.

ويوسّع "أهل الانتصارات" العداء للإمبريالية من مواجهة حكومات الغرب إلى عداء لأفكار الغرب برمتها، وفي طليعتها أفكار "عصر الأنوار" الأوروبي حول حقوق الإنسان والمساواة والديمقراطية، ويعتبرون أن وسيلة الانتصار على الغرب تكمن في التخلص من أفكاره وطرائقه، واستبدالها بمبادئ حكم مستوحاة من الدين الإسلامي والشريعة.

ثم تقوم الحكومة الإسلامية، في إيران وأفغانستان وقطاع غزة على سبيل المثال، وتقدم أسوأ أداء حكومي على صعيد الحريات، كما على الصعيد الاقتصادي، وتنهار الدول التي يحكمونها، فيبادر الإسلام السياسي إذ ذاك لتبرير فشله الذريع بإلقاء اللوم على مؤامرات متخيلة يقوم بها الغرب لإبقاء المسلمين متأخرين عن العالم. ولكن لماذا يضمر الغرب الشر للمسلمين وحدهم ولا يضمره لدول "نمور آسيا" وفيتنام، على سبيل المثال، التي حققت قفزات كبيرة في الحكم والاقتصاد وبحبوحة شعوبها، وهي اليوم من أبرز شركاء الغرب في الاقتصاد والثقافة وغيرها؟

الأرقام لا تكذب. النمو الاقتصادي والبشري تراجع في الدول التي كانت تعيش تحت حكم أجنبي بعد رحيل الأجنبي. الاستثناءات القليلة هي بعض دول آسيا وأفريقيا، مثل غانا وكينيا. أما باقي دول العالم التي كانت تحكمها الإمبراطوريات المتنوعة، من أميركا الجنوبية إلى الشرق الأوسط وجنوب آسيا، فعانت ولاتزال من تحررها من الحكم الأجنبي واستبداله بحكم وطني. 

وتجارب الاستعمار لم تكن سواسية، فاستعمار بلجيكا في الكونغو كان من الأسوأ في العالم. أما استعمار بريطانيا لمصر والعراق فكان إيجابيا، وإن لم يكن مثاليا، ومضت بعد رحيله مصر والعراق في رحلة تدهور اقتصادية وفكرية وبشرية لاتزال متواصلة حتى اليوم.

ولأن حكم الاستعمار كان أفضل من الحكم الوطني، لم يكد الاستعمار يرحل حتى لحقه مواطنو المستعمرات السابقة، أولا على شكل هجرات فردية، واليوم على شكل هجرة جماعية حوّلت البحر الأبيض المتوسط إلى مقبرة. ثم تجلّت أبشع صور هذه الهجرة في الجماهير الأفغانية وهي تتوسل الأميركيين للرحيل معهم، حتى أن بعض الأفغان تمسكوا بالطائرات الأميركية وهي تقلع، ووقع بعضهم من علو ولاقوا حتفهم. 

هكذا يكون "التحرير"، الذي يستميت من يعيشون في ظلّه الوارف على الهرب منه، فإذا كان "التحرير" بهذه القباحة، فهل يُعقل أن نهلل له في العراق وفي أفغانستان، وأن نتمناه في فلسطين؟ وكيف سيكون شكل فلسطين لو صار ما تتمناه حماس و"اندحر الاحتلال الإسرائيلي"؟

فلسطين هذه ستكون على شكل إمارة غزة الإسلامية أو إمارة طالبان الإسلامية في أفغانستان، دولة فاشلة قاحلة تحكمها عصابات لا تفهم معنى الدستور ولا القانون ولا الحريات الفردية أو العامة. دولة منعزلة عن المجتمع الدولي ولا صداقات لها إلا مع حفنة من الحكومات الإسلامية وحركات الإسلام السياسي في العالم، مثل "الإخوان". 

في الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة، مجموعات ذات فكر سطحي ومتهالك، ترى أن مشكلة المعمورة بدأت مع الرجل الأبيض وحركته الاستعمارية والاستعبادية، وأن حل مشاكل العالم تقضي بالقضاء على الاستعمار الأوروبي، الفعلي أو حتى الفكري والثقافي، واستبداله بالثقافات المحلية لأنها تناسب أهلها.

العبودية لا شك أنها نقطة سوداء في تاريخ البشرية، وهي بدأت قبل الأوروبيين بآلاف السنين، وانتهت على أيديهم. لكن استبدال الفكر الأوروبي عن الحكم والحكومة بالفكر المحلي، فنتائجه الفاشلة جلية في أفغانستان وقطاع غزة وإيران ولبنان اليمن، وما على شعوب هذه الدول إلا أن تتوخى الحذر مما تتمناه لمستقبلها ومستقبل أولادها.

الثلاثاء، 17 أغسطس 2021

أين ذهبت أموال اللبنانيين؟

حسين عبدالحسين

في مخيلة معظم اللبنانيين أن الدين العام الهائل والانهيار الاقتصادي الشامل سببهما، حصرا، فساد المسؤولين في الدولة، وهو فساد تعززه الصور التي تخرج بين الحين والآخر من حفلات الأعراس والأفراح الباذخة لهؤلاء السياسيين، بمن فيهم سياسيي "حزب الله"، الذي يفترض أنه والمنتسبين اليه "أشرف الناس" وأكثرهم تقوى وورعا وعفة.

ولا ينسى اللبنانيون حفل الزفاف الباذخ لابن حاكم "مصرف لبنان" المركزي، وكذلك يوم أحرجت إعلامية أجنبية النائب جبران باسيل، صهر رئيس الجمهورية ميشال عون والمستميت على خلافة عمه، بسؤاله عن ملكية الطائرة الخاصة التي استقلها الى دافوس، فحاول التذاكي بالقول إنها لصديق، أي أنه الفساد بعينه الذي يربط بين السياسيين والمتمولين، ويسمح لأصحاب الأموال بشراء النفوذ.

وبين اللبنانيين فكرة صحيحة عموما حول حجم ثروات سياسييهم. القلة القليلة من هؤلاء السياسيين هم من أصحاب مليارات الدولارات، فيما الغالبية من أصحاب عشرات الملايين. كذلك، لا يمانع عدد لا بأس به من اللبنانيين فساد مسؤوليهم، بل هم يشيرون الى الفارق بين مسؤول "بياكل وبيطعمي"، أي من ينفق بعض الأموال التي اختلسها على أنصاره واحتياجاتهم، ومسؤول "بياكل وما بيشبع"، أي من يكدس الأموال المنهوبة لنفسه ولعائلته بدون أن يشارك أي منها مع مؤيديه.

على أن مجموع ما اختلسه المسؤولون اللبنانيون من المال العام بالكاد يساوي ربع أو ثلث الدين العام على الأكثر، وحتى لو استعادت دولة لبنان هذه الأموال المنهوبة، فهي لن تغير الكثير في مجرى الانهيار اللبناني المريع.

والدين العام اللبناني هو، في شق منه، اسمي، أي أنها أموال لم يتم أنفاقها، بل هي أموال الفائدة التي وعدت دولة لبنان دائنيها بها، خصوصا بعد راحت الدولة ترفع من معدلات فوائدها بصورة خيالية أثناء استماتتها للحصول على النقد الأجنبي. تلك الفوائد صارت ديون برقبة دولة لبنان، لكنها اسمية، ويوم نفدت أموال الدولة، صارت الفوائد رقما لا قيمة له.

وباقتطاع كمية الأموال التي نهبها المسؤولون اللبنانيون، ومعها كمية الفوائد الاسمية الوهمية، يمكن اعتبار أن الجزء الأكبر من الدين العام اللبناني، البالغ مئة مليار دولار، مفقودة بالكامل، فأين ذهبت هذه الأموال اللبنانية التي اقترضها "مصرف لبنان" المركزي من المصارف الخاصة؟ 

على مدى العقود الثلاثة الماضية، تمتع اللبنانيون بثبات سعر صرف عملتهم الوطنية، الليرة، أمام الدولار الأميركي، وهذا تثبيت يتطلب تكديس احتياط نقد أجنبي، وهو الذي تشكل من ايداعات اللبنانيين في المصارف الخاصة.

هذا يعني أن راتب موظف في دولة لبنان - دكتور في الجامعة اللبنانية مثلا أم عقيد في الجيش اللبناني - البالغ خمسة ملايين ليرة، كان يوازي ثلاثة آلاف دولار، وهو ما سمح لهؤلاء اللبنانيين بالسفر للسياحة أو للعلم أو للاستشفاء خارج البلاد، وهو ما تطلب تحويل الليرات التي يملكونها الى نقد أجنبي يتم سحبه من الاحتياطي الوطني، ويتم انفاقه خارج البلاد.

كذلك، تم استخدام الاحتياطي الوطني في استيراد كل المواد من الخارج، الأساسية منها مثل الدواء والقمح، وغير الأساسية، مثل الثياب والأحذية والالكترونيات وغيرها.

في كل مرة كان لبنان يستورد، كان يستخدم احتياطيه من النقد الأجنبي، وهذا أمر لا بأس لو كان ميزان المدفوعات ايجابيا (أي أن النقد الأجنبي الذي يدخل البلاد أكثر من الذي يخرج منها). لكن حروب "حزب الله" الإقليمية، ومشروع "تحرير فلسطين" المتواصل، كلها أدت الى تقليص السياحة (وتاليا عائداتها بالنقد الأجنبي)، وأدت الى إحجام المستثمرين الأجانب (ونقدهم الأجنبي) عن ضخ أموالهم في لبنان. وفي غياب الاستثمارات الأجنبية، يتقلص رأس المال المتوفر للصناعات المحلية القابلة للتصدير (وتاليا تحصيل نقد أجنبي).

في المحصلة، حافظ لبنان على ثبات عملته، وتاليا على مستوى معيشة مرتفع، لسنوات، بدون أي نمو اقتصادي يذكر، أي أن دولة لبنان أنفقت أموال المودعين لديها بدون قدرتها على تعويض هذه الأموال من أي نمو اقتصادي أو سياحة أو صادرات. وواصل لبنان هذه الوتيرة بالاستناد أكثر فأكثر على الاستدانة، وبفوائد أعلى وأعلى، الى أن بلغ "مصرف لبنان" نهاية الطريق: نفذ الاحتياط النقدي الأجنبي ولم تعد الاستدانة ممكنة.

لقد شارك في عملية دفع لبنان الى الانهيار الشامل كل اللبنانيين، وان بدرجات متفاوتة.

المسؤول الأكبر عن انهيار لبنان الاقتصادي هو "حزب الله"، الميليشيا الثورية التي لا تفهم التناقض بين العيش في ثورة وحروب متواصلة والعيش في سلام مع نمو اقتصادي وبحبوحة. ميليشيا "حزب الله" هي المسؤولة حصريا عن انعدام النمو الاقتصادي في لبنان.

يلي "حزب الله" في المسؤولية دولة لبنان، التي يغرق مسؤولوها في فساد مدقع لا يجاريهم فيه إلا أعتى الحكام فسادا في التاريخ، من أمثال امبراطور إثيوبيا هيلاسيلاسي، الذي تقول الأسطورة أنه كان يطعم كلابه بأواني من ذهب.

"حزب الله" استغل دناءة السياسيين وحبهم لاختلاس المال العام، فاستخدم سلاحه لفرض "انتخابهم" وتعيينهم في مناصبهم - في الرئاسات والحكومات والبرلمانات - وذلك ثمنا لسكوتهم وتغاضيهم عن ميليشياه الثورية غير الدستورية (البيان الحكومي الذي يبرر "المقاومة" ليس دستورا ولا تشريعا، بل مخالف للدستور).

سياسيو لبنانيون بدورهم أدمنوا الثراء الفاحش والعيش الباذخ والتمتع بسلطة ونفوذ يتباهون فيها أمام أقرانهم، اذ ذاك لم يعودوا يرون المشكلة، وان هم رأوها لا يعرفون كيف يحلّونها، فصار شكل لبنان هكذا: اقتصاد ينهار وبلاد تتلاشى، وميليشيا تعيش في عالم أساطير دينية لا تمت الى الواقع بصلة عن ظهور الإمام أو "تحرير فلسطين"، ومسؤولون يعيشون في عالمهم الباذخ المنعزل عن الواقع وينشغلون بمسرحياتهم السياسية التافهة نفسها، وشعب لا يعرف سبب المشكلة وتاليا لا يعرف كيف يحلّها، فيواصل أسلوب حياته القبلية نفسه بالاستزلام للميليشيا أم للسياسيين اللبنانيين.

لبنان ضحية "عاصفة متكاملة"، حسب التعبير الأميركي. أما خروجه من أزمته، فلا أمل يلوح في الأفق.

الثلاثاء، 10 أغسطس 2021

تجربتي في اليسار اللبناني.. والأميركي

حسين عبدالحسين

في سني الصبا، استهوتني أفكار الثورة على التقاليد والتقدم والتغيير نحو الأفضل. لم يعد يعجبني الانتماء لقبيلة ترى نفسها مختارة وفوق الناس، ومكتوب لها الجنة. استعصى علي أن أفهم كيف يمكن إغلاق أبواب الجنة في وجه أناس كان علمهم أكثر من علمي، وكانت مبادئهم الأخلاقية والإنسانية تسمو على المبادئ التي ورثتها.

اليمين العربي، الحاكم غالبا، تقليدي قبائلي، يتعايش كمجموعات تتناحر وتتصالح، لا كأفراد متساوين في الإنسانية وفي الحقوق والواجبات. اليسار صدره أرحب، لا يبالي بالأصل والفصل، بل يحكم على الأفكار، غالبا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ويرى الدنيا صراعا طبقيا ينحاز فيه إلى الأقل دخلا.

اليسار يعشق التغيير، الذي يقارب التخريب أحيانا، حتى لو جاء التغيير من أهل اليمين، مثل الثورة الإيرانية التي أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي في 1979 واستولى عليها الإسلاميون، ولاقت ترحيبا واسعا بين الشيوعيين وأهل اليسار، الذين ما زالوا حتى اليوم يستمعون لأشعار المصري الراحل أحمد فؤاد نجم، يغنيها صديق عمره الشيخ إمام عيسى، وفيها مديح لثورة ايران من قبيل "صحيح الشعوب بنت (..) ولئيمة وتقدر تطيح العروش في ثواني"، وفيها تهكم على قوات أمن الأنظمة التي تقمع التظاهرات، كما في أغنية "شيد قصورك ع المزارع" التي تتضمن: "وافلت كلابك في الشوارع، واقفل زنازينك علينا".

في الثقافة اليسارية حزن على الوضع القائم، وهو حزن يفترض أن يتحول غضبا يدفع أصحابه الى الثورة والتغيير. على أن مشكلة اليسار تكمن في عدم واقعيته. صحيح أن مشاعر التساوي بين الرفاق تسمو على الانحناء لرأس العشيرة وتقبيل أيدي الحاكم، وصحيح أن الأشعار والمشاعر والأناشيد حماسية وجميلة، لكن لا خطط واضحة لدى اليسار لما يلي يوم نجاح الثورة، أي ثورة، فالرؤى الاقتصادية اليسارية انهارت الواحدة تلو الأخرى، من الشيوعيتين السوفياتية الروسية والصينية الماوية، إلى الاشتراكيات الإسكندنافية والأميركية اللاتينية.

على أن أشهر مفكري اليسار، كارل ماركس، لم يكن مخطئا في كل ما كتبه، فهو قدم صورة صحيحة عن المجتمعات الصناعية التي تضمحل فيها علاقات العشيرة والقبيلة، وينشأ بدلا منها تآخي طبقي مجتمعي، في الأحياء السكنية كما في أماكن العمل.

ولأنني كنت يساريا ولا تستهويني القبلية، لم أغلق الباب فكريا، فرحت أقرأ الأدب المؤسس للجمهورية الأميركية، بما في ذلك السيرة الذاتية للرئيس الأسطوري أبراهام لينكن، والمعروف بإنهاء العبودية والانتصار في الحرب الأهلية. ما لا يعرفه كثيرون عن لينكن أنه أول من شرّع ضريبة الدخل على الأميركيين بهدف تحرير الحكومة من سطوة كبار المتمولين، وحتى تصبح الحكومة الفيدرالية، حسب تعبيره، "حكومة الشعب، من الشعب، وللشعب".

هذه فكرة يسارية بامتياز، تسمح للمواطنين الأقل دخلا باستخدام حقهم في التصويت لاختيار حكومة تدافع عن مصالحهم ضد إمكانية استغلال رأس المال لهم، وتقوم بإعادة توزيع الدخل، فتنحاز بذلك الى الأقل دخلا.

لكن اليسار اللبناني كان "قبليا عالم ثالثيا"، لم ينظر إلى الولايات المتحدة كتجربة في الحكم والحكومة، بل على أنها امتداد للرجل الأوروبي الأبيض الذي رزحت شعوب تحت نير استعماره في القرون الخمسة الأخيرة. وتم حصر الاستعمار بالرجل الأبيض، ثم شيطنة الاثنين، رغم أن الاستعمار قائم منذ فجر الحضارة، وهو في غالبه عملية إيجابية تؤدي إلى التلاقح الفكري بين الشعوب، وإلى تعميم الأفضل علميا وثقافيا واجتماعيا، مثل يوم كان للعرب إمبراطورية عالمية حملت العلوم إلى الأندلس، ومنها إلى باقي أوروبا، وهي العلوم التي تحولت إلى أسس عصر التنوير.

في اليسار اللبناني، كنا لا نستسيغ الأحزاب القومية، ونتهم بعضها، كحزبي البعث العربي الاشتراكي في العراق وسوريا، بالتآمر مع الغرب لقمع الشعوب وإبقائها متخلفة. ثم جاء الغرب بقوته العظمى، أي الولايات المتحدة، وأطاح بصدام حسين العراقي، وقدم للعراقيين فرصة ذهبية لبناء دولة ديمقراطية حديثة. لكن فاقد الشيء لا يعطيه، إذ لا ثقافة عراقية قادرة على بناء دولة ديمقراطية، بل عودة إلى التنافس القبلي الذي غاب لعقود بسبب انتصار صدام وقبيلته على كل المنافسين.

ما أثار غضبي داخل اليسار اللبناني كان استمرار الرفاق في غرقهم في طوباوية غير واقعية، فرفعوا شعار "لا للحرب (الأميركية للإطاحة بصدام) ولا للديكتاتوريات"، واعتقدوا أن الشعار المزدوج السلبية موقف أخلاقي متعال على الجهتين: الإمبريالية الغاشمة والديكتاتورية الدموية. الموقف كان أخلاقيا لا شك، لكنه كان مراهقا وغير واقعي. كان العالم أمام خيارين لا ثالث لهما: أما أميركا أو صدام.

أنا اخترت أميركا، وفيما كان الرفاق يرتشفون قهوتهم ويتحدثون في السياسة في بيروت، زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب ومنامة لمجلة أقمناها باسم "بغداد بوليتين"، وراهنت على الديمقراطية التي لم تأت، بل أن الفوضى العراقية قتلت أحد المراسلين، فأقفلنا.

لم يمض وقت طويل حتى ثار اللبنانيون على حكم البعث الآخر لهم، أي السوري، وطردوه. راهنت على الديمقراطية مجددا وانخرطت في "اليسار الديمقراطي"، فتكفل بالقضاء على هذا الحزب اغتيالات "حزب الله" لكبار قادته، ثم الشخصانية المقيتة التي غرق فيها الرفاق الذين انقسموا قبائل: قبيلة حاكمة تمدد للزعيم على عكس النظام الداخلي، ومجموعة تتصدى لها. ثم انهار يسار لبنان، كما انهار مشروع الديمقراطية فيه، حتى وصلت البلاد بأكملها إلى انهيار شامل، وتلاشت.

مع اندلاع الربيع العربي، كنت أدرك أن للشعوب العربية القدرة على الإطاحة ببعض حكامها، لكن لا قدرة لديها على استبدال الأنظمة بما هو أحسن منها. مع ذلك، أجبرني الموقف الأخلاقي على مناصرة الثوار في مصر وسوريا (لم أكتب عن ليبيا واليمن لقلة معرفتي بالدولتين).

اليوم، لا يزال اليسار اللبناني يدور في حلقة مفرغة، يسعى للتغيير دون تقديم مشروع واضح لإطلاق عجلة النمو الاقتصادي، بل يغرق في طوباوية "كلن يعني كلن"، مصحوبة بالثأر القبلي من إسرائيل في فلسطين، ومعارضة الجميع، ثم الوقوف وحيدا على تلة الأخلاق.

في الولايات المتحدة يسار أيضا. هنا، النظام السياسي من الأكثر استجابة في العالم لأي محاولات تغيير عبر صناديق الاقتراع. مثل اليسار العالمي والعربي، يعشق اليسار الأميركي التغيير، بما في ذلك التخريب. وكما اليسار العالمي واللبناني، ليس لدى اليسار الأميركي أفكارا مقبولة حول كيفية تحسين السياسات القائمة. السناتور بيرني ساندرز، اليساري الأكثر شهرة، يتميز عن أتباعه بفهم واضح أن الصراع طبقي لا هوياتي، ولذا يعارضهم بمعارضته التعويضات لسليلي العبيد، لاعتقاده أن على الحكومة مساعدة الناس ماليا حسب طبقاتها، لا حسب لون جلدتها.

لكن اليسار الهوياتي جرف بيرني، وأجبره على التراجع. هكذا، خرجت عضو الكونغرس الفلسطينية الأميركية رشيدة طليب ترسم تماها بين المستضعفين في فلسطين وفي مدينة ديترويت "السوداء" التي نشأت فيها. تقول طليب أن المستفيد واحد في فلسطين وفي ديترويت، وهو يستفيد ماليا على ظهر الفلسطينيين والسود.

النظر إلى الصراع كطبقي عابر للحدود هو نظرة يسارية ماركسية كلاسيكية، لكن طليب عدلتها وأدخلت فيها العنصر القبلي، فصار المستغلون بيضا أوروبيين في فلسطين وأميركا، والمستضعفون من غير البيض في فلسطين وأميركا كذلك. المشكلة هنا أن العرقية والإثنية أمر ثابت، فيما الطبقات الاقتصادية للناس أمر متحرك، وهو ما يخلق تناقضا رهيبا لا يراه اليسار الأميركي، الذي لا يتمتع بتفكير عميق أو معرفة واسعة، بل يكتفي بشعارات شعبوية لمواصلة بث الحماسة بين المناصرين والمؤيدين.

التخبط الفكري عند اليسار الأميركي قلب المفاهيم. صارت إلهان عمر، عضو الكونغرس المسلمة المحجبة، من قادة اليسار، العلماني بطبعه. اعتناق الدين مسموح عند اليساريين، على أن يكون الدين الذي لا يفرض تعليماته في السياسة، مثل المسيحية، حيث "اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله". أما الإسلام، فهو كما يسميه غالبية معتنقيه "دين ودولة"، وهو ما يخلق تناقض رهيب، فإلهان عمر تؤيد مثلية الجنس، التي تحرمها الأديان وتحظرها، وإلهان عمر تمسك بيد بيرني ساندرز ويرفعانها أمام الجماهير، ولمس غير المحرم محظور عند المسلمين.

كذلك، تعارض إلهان عمر العبودية، فيما تشرعها النصوص الإسلامية بشكل واضح. فإذا كانت إلهان عمر تعمل على عكس كل هذه التعليمات الإسلامية، ما الذي تبقى من إسلامها؟ وما جدوى تمسكها بحجاب صار بمثابة إعلان هوية قبلية أكثر منه عبادة ذاتية؟

على أن أسوأ ما في اليسار الأميركي هو إنسانيته الاستنسابية، اذ يستميت اليساريون الأميركيون على السماح للمهاجرين غير الشرعيين بدخول البلاد والاقامة والعمل فيها، بلا شروط، ويصرّون على تحميل الحكومة تكاليف باهظة لتمويل مشاريع الرعاية الاجتماعية التي تفيد منها الطبقات المتدنية.

لكن عند الحديث عن السياسة الخارجية، تتبخر إنسانية اليسار الأميركي، ويتبنى موقفا أنه لا يمكن لأميركا أن تكون شرطي العالم، أو أن تتدخل لوقف مجازر بشار الأسد بحق السوريين أو علي خامنئي بحق الإيرانيين، بل أن تمسك اليسار الأميركي بالتغيير يتضمن تمنيه باضمحلال القوة الأميركية، وهو ما يعني أن يساند اليساريون ديكتاتوريات العالم الأكثر شراسة، غالبا لمناكفة حكومتهم ومؤيديها.

اليسار الأميركي يعتقد، غالبا بسبب انعدام خبرته، أن العالم واحة من الأمان والراحة والسلام لا يفسدها إلا الرجل الأبيض الأوروبي وخليفته أميركا، وهو ما يعني أن انسحاب أميركا من العالم يعني، بالضرورة، عالم آمن مسالم، برعاية أنظمة الصين وروسيا وإيران وغيرها.

هو يسار نواياه طيبة ومثاليته عمياء، ما يضرب على بصيرته في لبنان والعالم، ويحوّله إلى قبيلة ذات عصبية، وهو ما يعاكس مبدأ الانفتاح والأفكار المتجددة والتغيير.

أما ما تبقى من يساريتي، فعدائي لاستغلال المتمولين للعمّال، وتأييدي لحق وحرية تشكيل اتحادات عمالية تدعم صوت العمال في وجه صوت المال، الأقوى عادة والأعلى. وعلى نفس الطراز، تدفعني يساريتي إلى تأييد وقوف الحكومة في جانب ناخبيها ضد ممولي السياسيين وحملاتهم الانتخابية، واستخدام الضرائب التصاعدية لتمويل برامج الرعاية الاجتماعية والطبابة المجانية للمحتاجين، وكذلك العلم، بكل مراحله، للجميع، دون توزيع المال على الناس (حسبما تطالب طليب)، ومع مراعاة السعي لدفع النمو الاقتصادي قدما، إذ أن اليسار يعدّل من فظاظة اليمين واندفاعته الاقتصادية، ولكن لا يمكن لأي من الاثنين استبدال الآخر كليا، وهو ما يبدو أنه يفوت الحزبين الأميركيين، الديموقراطي اليساري والجمهوري اليميني، وهو ما صار يجعلني وسطيا، ديمقراطيا في شؤون الداخل، وجمهوريا في السياسة الخارجية.

ولأن الداخل، أي بلادي الأميركية، تعنيني أكثر من الخارج، فتراني أدلي بصوتي للديمقراطيين اليساريين، بالرغم من اختلافي الجذري مع سياستهم الخارجية المؤيدة للديكتاتوريات.

المواطنية عملية معقدة تملي على المواطنين المتابعة الدائمة للمواضيع التي تهمهم وتخدم مصالحهم، وأكثر ما يؤذي المواطنية هو الأفكار المعلّبة والمتحجرة والتمسك بالمواقف قبليا، بدلا من تبني الأفكار فكريا وعقليا. كل منا يسعى لتحكيم عقله، بعضنا لإرضاء ما يمليه عليه ضميره، وبعضنا الآخر لإرضاء الضمير الجماعي، الذي قد يصيب أحيانا وقد يخطئ في أحيان.

الثلاثاء، 3 أغسطس 2021

عن غياب السلام الكويتي الإسرائيلي

حسين عبدالحسين

فوّت وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن فرصة ثمينة عندما زار الكويت وأشاد بقيادتها "في حل الأزمات الإقليمية" من دون أن يحثّ المسؤولين الكويتيين على توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، على غرار "اتفاقيات إبراهيم"، التي وقعتها كل من الامارات والبحرين مع الدولة العبرية.

بلينكن أصاب بإشادته بدور الكويت، من نجاحها في رأب الصدع داخل مجلس التعاون الخليجي، الى دورها في العمل على إنهاء الحرب في اليمن، وهو ما يجعل من رفض الكويت للسلام مع إسرائيل رفضا لا يتناسب مع السياسة المحايدة والسلمية التي تتبناها الدولة منذ تحريرها من الاحتلال العراقي عام 1991.

قبل الغزو العراقي الاجرامي لها، كانت الكويت تلعب دورا شبيها بالدور الذي تلعبه قطر اليوم. عشقت الكويت رئيس مصر الراحل جمل عبدالناصر، وتبنت القومية العربية، ورعت قيام "حركة التحرير الفلسطينية" (فتح)، بين صفوف الفلسطينيين المقيمين في الكويت، وكان في طليعتهم المهندس ياسر عرفات. وأغدقت الكويت الأموال على العمل الفلسطيني المسلح، كما على اللاجئين الفلسطينيين.

بعد الغزو، وقف عرفات الى جانب صدام حسين يستعرضان الجيش العراقي، وكذلك فعلت بعض الأنظمة العربية "الثورية" في تأييدها الغزو، ومعارضتها التدخل الدولي لتحرير الكويت.

عانت الكويت من كمية الشقاق الذي يصاحب خزعبلات "القومية العربية" و"القضية الفلسطينية"، لكن بقيادة وزير خارجيتها ورئيس حكومتها - الذي صار أميرها فيما بعد - المحنّك الراحل صباح الأحمد الصباح، لم تسع الكويت للانتقام ممن ساندوا صدام، بل تبنت سياسة حياد حديدية، وراحت تتفادى الانخراط في المحاور الإقليمية والدولية، وسعت للالتزام بأي اجماع عربي أو قرارات دولية، في محاولة لإرضاء الجميع.

هذه السياسة أسبغت على الكويت صورة دولة ناضجة ومحايدة، وسمحت لها بلعب دور الوسيط في إنهاء الأزمات، في وقت وظفت قدراتها المالية الضخمة لتعزيز حيادها عبر تمويلها مشاريع تنموية وصناديق إغاثية، فلم يرحل الأمير صباح قبل أن تمنحه الأمم المتحدة لقب "أمير الإنسانية".

سلام واحد لم تسع الكويت إليه، بل واصلت انحيازها فيه للميليشيات العسكرية، هو الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إذ بعد مرور ثلاثة عقود على غزو الكويت، نست الأجيال الكويتية الجديدة قباحة إجرام صدام وكارثة تأييد عدد كبير من الفلسطينيين له، بل أن الأجيال الكويتية اليوم ربما تكون متأثرة بعملية شيطنة اسرائيل، السائدة في صفوف الشباب الغربي وفي الجامعات.

ويعزز العداء الكويتي لإسرائيل محاولات "الإسلام السياسي" في البلاد استخدام "القضية الفلسطينية" كأداة شعبوية لمهاجمة الحكومة، مع أن "الإخوان المسلمين"، أينما حكموا، حافظوا على السلام مع إسرائيل، مثل في تركيا أو في فترة حكم محمد مرسي مصر.

شعبوية الإسلام السياسي هذه تدفع بعض الحكومات العربية، مثل في الكويت، إلى المزايدة على "الإخوان" في موضوع فلسطين بهدف سحب هذه الأداة من أيديهم، خصوصا عندما لا تتنبه هذه الحكومات العربية الى أن السلام مع إسرائيل في مصلحتها الاقتصادية والوطنية، فيما "القضية الفلسطينية" - بشكلها الحالي - قضية هوية عاطفية عابرة للحدود، تؤذي الفلسطينيين كما باقي العرب.

للتمسك بتفادي السلام مع اسرائيل، وجدت الحكومة الكويتية ضالتها في "مبادرة بيروت للسلام"، التي أقرتها الجامعة العربية في العام 2002، والتي تدعو إلى سلام عربي شامل مع إسرائيل مقابل انسحابها من كل الأراضي الفلسطينية، وسماحها بقيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل.

"مبادرة السلام" العربية كانت ولدت ميته بعدما أقحمت الأنظمة "الثورية" في نصّها بندا يشترط عودة كل الفلسطينيين الى أراضي 1948، التي تشكل اليوم دولة إسرائيل باعتراف دولي. بدون تعديل هذا البند، يستحيل على إسرائيل قبولها، وهو ما يعني أن المبادرة ليست للسلام، بل لـ"رفع العتب" ولمواصلة حالة العداء العربي مع إسرائيل.

واستمرار العداء يؤثر على الدول العربية بطرق متفاوتة. الدول التي تحكمها أنظمة أو ميليشيات ثورية، مثل سوريا ولبنان والعراق، يعتاش حكامها على الحروب ويستخدمونها وسيلة لتشديد قبضة استبدادهم تحت شعار أن "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" وهو ما يعني أن شعوب هذه الدول تموت من الفقر والجوع فيما الحكام يصرّون على مواصلة الحرب التي تمنع أي نهوض اقتصادي أو فكري أو ثقافي أو غيره.

أما الحكومات التي تنعم بعائدات النفط، فيمكنها تفادي السلام مع إسرائيل لأن اقتصادها ينمو بغض النظر عن تعثر تجارتها، التي تتطلب "تصفير المشاكل الخارجية"، بما في ذلك سلام مع إسرائيل، صاحبة رابع أكبر اقتصاد في المنطقة بعد السعودية وتركيا والإمارات.

لكن النفط في سنواته الأخيرة، وهو ما أدركته دول، مثل الإمارات والبحرين، وراحت تسعى لتبني نموذج اقتصادي بديل مبني على التجارة والخدمات، وهو ما دفع الدولتين إلى توقيع سلام مع إسرائيل. السعودية وعمان، بدورهما، تحذوان حذو الإمارات في تحويل اقتصاديها من نفطي الى خدماتي، وهو ما يعني أن سلاميها مع إسرائيل صار يقترب أكثر فأكثر.

أما الكويت وقطر، فتنعمان بعائدات ضخمة وتعداد سكاني صغير. لكن في الحالة الكويتية، لم يعد عدد السكان ضئيلا ولا مصاريف الدولة والشعب محدودة، وهو ما صار يثقل كاهل الاقتصاد الكويتي، ويدفع إلى انكماش النمو والسيولة، ويجبر الكويت على الاستعانة بمدخراتها في "صندوق الأجيال".

لكن على المدى المتوسط والبعيد، لا بديل للكويت عن اللحاق بركب الإمارات والسعودية في تحديث الاقتصاد وتوسيع رقعة التجارة عبر السلام، بما في ذلك مع إسرائيل، وهو سلام سيسمح للكويتيين، وبينهم أعرق العائلات التجارية في الخليج، في تحقيق نمو اقتصادي وتفادي تبديد أموال "صندوق الأجيال".

يوم وقّعت الإمارات والبحرين "اتفاقيات إبراهيم" للسلام مع اسرائيل، أصدر المرشح للرئاسة آنذاك جو بايدن بيانا أشاد فيه بالخطوة ووعد بالبناء عليها في حال وصوله للبيت الأبيض. اليوم، لا يبدو أن الرئيس بايدن يسعى للحفاظ على وعده في حثّ الدول العربية لسلام مع اسرائيل يسبق السلام الفلسطيني ويساعد على إبرامه.

هي فرصة أضاعها بلينكن لحثّ الكويت على السلام مع إسرائيل وإقناعها بفوائده، فهل يعيد الوزير الأميركي النظر في سياسته الحالية وتفويته الفرص؟

Since December 2008