الثلاثاء، 28 سبتمبر 2021

حرب العراق لم تفشل.. العراقيون فشلوا

حسين عبدالحسين

أصدرت محاكم بغداد قرارا بالقبض على 300 عراقي شاركوا في مؤتمر دعوا فيه للسلام وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، والقرار أحد أكثر الدلائل وضوحا على سبب الانهيار والفشل في بناء دولة حديثة في العراق، منذ نهاية الحكم العثماني له قبل قرن وحتى اليوم.

يوم اجتاحت الولايات المتحدة العراق، لم تكن تدرك عمق الأمية السياسية التي يغرق بها العراقيون، ولم تقدّر فداحة غياب ثقافة الديمقراطية والحرية. اعتقدت إدارة الرئيس السابق جورج بوش أن تخليص العراقيين من طاغيتهم الدموي صدام حسين كفيل بتقديم فرصة لبناء عراق جديد وحديث وديمقراطي.

ما لم يفهمه الأميركيون يومذاك أن صدام لم يكن استثناء عراقيا، بل كان عراقيا أصيلا، وكان نتيجة لثقافة تسودها العنف، وينعدم فيها فهم تباين الرأي، وضرورة احترام رأي الآخر.

اعتقدت الولايات المتحدة أن دولة لديها عائدات نفطية مثل العراق كانت ستستغل فرصة انهيار نظام صدام لبناء دولة تعيش في بحبوحة ويتمتع مواطنوها بحرية التعبير.

لكن واشنطن كانت مخطئة. الحرية والديمقراطية لم تغيبا عن العراق بسبب صدام، بل أن صعود صدام كان بسبب انعدام الوعي في العراق. لذا، ذهب صدام ولم تنته معاناة العراق والعراقيين.

في أربيل، تداعى عراقيون، منهم من شيوخ العشائر السنية التي شاركت في قوات الصحوات التي ساهمت في القضاء على التنظيمات الارهابية، وحضر شيعة وغيرهم. لم يقُل المؤتمرون الكثير، بل اعتبروا أن لا سبب للبقاء في حال عداء مع دولة إسرائيل.

وقدم بعض المشاركين مطالعات مقنعة حول الفوائد، خصوصا الاقتصادية، التي يمكن للعراق أن يجنيها من تطبيع علاقاته مع إسرائيل، ومن الإفادة من إمكانية عودة يهود عراقيين، إما للسكن والاستثمار أو للزيارة.

لم يدّع العراقيون المطالبون بالسلام أنهم يمثلون الموقف العراقي الرسمي، ولا شارك إسرائيليون في المؤتمر (بشكل يخالف القوانين العراقية المرعية الإجراء)، ولا زار أي من العراقيين المؤتمرين إسرائيل. بكلام آخر، لم يرتكب العراقيون المطالبون بالسلام مع إسرائيل أي مخالفة قانونية. مع ذلك، قامت الحكومة بالادعاء عليهم واعتقالهم.

بعد اعتقال البعض وتهديد ميليشيات إيران العراقية البعض الآخر بالتصفية الجسدية، تراجعت غالبية الحاضرين، وأدلى أبرزهم، الشيخ وسام الحردان، ببيان بدا وكأنه يدلي به تحت ضغط وتهديد، تراجع فيه عن مطالبته بالسلام. هكذا هو العراق الديمقراطي، يشبه العراق الصدامي، ويتراجع الناس فيه عن آرائهم، ويقبلون الذلّ لحماية حياتهم.

بعد قرابة عقدين على "عراق ما بعد صدام"، لا يزال العراقيون بغالبيتهم ودولتهم، لا يفهمون الدستور ولا القوانين، وهو أمر جلي في مواضيع متعددة، من الفساد المستشري في الحكومة إلى الميليشيات الولائية التي تسدد رواتبها وزارة الداخلية العراقية، واسمها الولائية لأنها تقسم الولاء لمرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي.

ما زال العراقيون، ومعهم غالبية العرب، يعتقدون أن القانون يتم تطبيقه بحسب الرأي السياسي، فإذا كانت الميليشيات الولائية ضد التطرف والإرهاب، لا ضير من تعديها على الوظيفة الأساسية للحكومة المنتخبة وقواتها الأمنية، والقاضية بحصر استخدام العنف بأيدي القوات الرسمية.

أما أن عبّر مواطنون عراقيون، من دون ان يتجاوزوا أي قوانين، عن رأيهم، وطالبوا بسلام مع دولة يعاديها العراق، يجيز رأيهم المخالف للرأي الرسمي اعتقالهم ومحاسبتهم.

هذا التخلّف الحضاري يصيب الأمتين العربية والإسلامية، ولا يمكن تجميل هذه الصورة أو مراعاة شعور العرب والمسلمين. وهذا التخلّف، لا الإمبريالية ولا التدخلات الخارجية، هو السبب الرئيسي في حالة الانهيار الدائم التي تعيشها دول مثل العراق ولبنان وإيران واليمن وسوريا وأفغانستان.

لن تخرج هذه الدول من دوامتها قبل اجتثاث الثقافة الصدامية التي تحرّم الرأي المخالف، ولا خروج من هذه الدوامة من دون احترام تام للدستور والقوانين، التي تكفل بدورها حرية الرأي والتعبير وعقد المؤتمرات والمطالبة بسلام، إن مع اسرائيل أو إيران أو أي دولة في العالم.

ثم أن الدولة العراقية، التي ترفع شعار الحياد الإقليمي عنوانا لسياستها وترفض أن تكون ساحة تصفية حسابات أميركية إيرانية، لا ضير أن وسّعت حيادها هذا ليشمل الصراع العربي الإسرائيلي، فالسلام والتجارة والعلاقات الجيدة مع كل دول الإقليم هي مصلحة خالصة، ولا سبب لاستثناء إسرائيل من دائرة الدول التي يسعى العراق إلى صداقتها.

من المحيّر كيف تنتقل الضحية إلى لعب دور الجلاد. رئيس العراق برهم صالح، الذي أدان المؤتمر، كان نفسه منفيا في زمن صدام بسبب رأيه. مقتدى الصدر، الذي قتل صدام والده محمد محمد صادق بسبب آرائه التي كان يدلي بها في خطب الجمعة، طلب من الدولة العراقية محاسبة واعتقال كل المشاركين في المؤتمر. ومثل صالح والصدر، انبرى معظم ضحايا صدام إلى الدعوة لمعاقبة عراقيين آخرين، فقط بسبب اختلافهم في الرأي.

لولا حرب أميركا التي أسقطت صدام، لكان برهم صالح لا يزال منفيا يستجدي مراكز الأبحاث إنقاذ العراقيين من مخالب صدام، ولكان رئيس الحكومة السابق نوري المالكي لا يزال بائعا للمسابح أمام مقام السيدة زينب في دمشق، ولكان رئيس الحكومة الحالي مصطفى الكاظمي لا يزال مرتميا في أحضان المعارضين العراقيين من أصدقاء إسرائيل، ومشاركا في العمل على توثيق جرائم البعث العراقي.

لولا أميركا لكان الصدر لا يزال شخصية تتفادى السياسة خوفا من غضب صدام، ولكان الصدر لا يزال يحمل لقبه "ملا أتاري"، نسبة إلى لعبته الإلكترونية المفضلة.

صدام مات وبقيت الصدامية منتشرة في العراق، وصارت الدعوة للسلام جريمة، وصارت الدعوة للحرب المفتوحة والميليشيات بطولة ووطنية.

الثلاثاء، 21 سبتمبر 2021

الشرق الأوسط الجديد 2.0

حسين عبدالحسين

مرّت الذكرى الثامنة والعشرين لاتفاقية أوسلو للسلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، في وقت سابق من الشهر الجاري، مرور الكرام، ولم يحتف بها أحد، بل أن وسائل إعلام الإسلام السياسي بفرعيه، الشيعي في إيران ولبنان، والسني في حماس غزة، شنت حملة تقذيع ضد الاتفاقية، معتبرة أنها لم تعود على الفلسطينيين بأي فوائد، بل أنها فاقمت من بؤسهم.

طبعا لا تذكر حماس أنها لم تعط السلام ولا فرصة واحدة، وأن عملياتها الانتحارية بدأت منذ اليوم الأول الذي جلس فيه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة للتوصل لسلام.

الإسرائيليون رفضوا التفاوض مع عرفات ما لم يضبط عرفات حماس، فيما واصل عرفات بهلوانياته، فألقى بلائمة العنف على الإسرائيليين، على الأرجح لانعدام قدرته على ضبط الفلسطينيين.

على أن الولايات المتحدة، راعية النظام العالمي الجديد لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، رمت بثقلها خلف السلام العربي الإسرائيلي، وصار للفلسطينيين مطارا دوليا في غزة، ومرفأ، ومنتجعا مع كازينو.

اعتقدت أميركا أن الديمقراطية تؤدي الى بحبوحة اقتصادية وأن الأخيرة تدفع إلى التعاون بين الشعوب بسبب المصالح المالية والتجارية المتبادلة، فتتقلص الحروب. ولخّص المعلّق في صحيفة "نيويورك تايمز" توماس فريدمان التفكير الأميركي يومذاك بالقول إن أي دولتين فيهما مطعم "ماكدونالدز" الأميركي لا تتحاربان.

وانضم الإسرائيليون إلى قافلة القائلين إن الديمقراطية مفتاح البحبوحة، وأن البحبوحة مفتاح السلام، وأصدر رئيس حكومة إسرائيل، رئيس الدولة فيما بعد، الراحل شمعون بيريز كتابا بعنوان "الشرق الأوسط الجديد". وتوسّعت فكرة نشر الديمقراطية كمفتاح للسلام والبحبوحة، فطالت روسيا ودول أوروبا الشرقية، واكتسحت أفغانستان والعراق فيما بعد.

لكن شعوب الدول التي كانت هدفا للديمقراطية الغربية لم تر قيمة لهذا المفهوم، وأجابت عراقية على سؤال حول شعورها بنهاية عهد صدام حسين والديمقراطية التي خلفته بالقول: "أين هي الديمقراطية؟ كهرباء ماكو (أي لا كهرباء). بنزين ماكو. فلوس ماكو".

ولاحظ الإسلام السياسي أنه يمكن للفقر وعدم الاستقرار أن يجهض مشروع نشر الديمقراطية، فراحت إيران والميليشيات التابعة لها في عموم المنطقة تنشر العنف، وتربط الديمقراطية بالغرب والفوضى، بالتزامن مع إرهاق أصاب الغرب، وخصوصا الأميركيين، من مشروع نشر الديمقراطية المتعثر. هكذا مات "الشرق الأوسط الجديد".

لكن الاستقرار والبحبوحة التي فشل رئيس حكومة لبنان الراحل رفيق الحريري في نشرها في لبنان، ومثله فشل رئيس حكومة السلطة الفلسطينية سلام فيّاض في نشرها في الأراضي الفلسطينية، نجحت في دولة الإمارات العربية المتحدة، التي أصبحت قبلة الشعوب التي تغرق دولها في فوضى وفقر.

أظهر نجاح النموذج الإماراتي أن الأمن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي يسمو على الديمقراطية، خصوصا في الدول التي لم تتبن غالبية المواطنين فيها أفكار التنوير الأوروبي، فالديمقراطيات تموت في مجتمعات ما قبل الحداثة التي تنتشر فيها الثقافة الأبوية والقبلية، كما أن الديمقراطيات تموت في المجتمعات التي ينتشر فيها الإسلام السياسي.

أما لو حصل نمو اقتصادي وبحبوحة في المجتمعات المتأخرة عن الحداثة، مثل في الأراضي الفلسطينية، فيمكن أن يؤدي ذلك لانتشار الديمقراطية، أي على غرار تجربة كوريا الجنوبية، التي قادها الحكم العسكري إلى نمو اقتصادي أولا، وأعقب ذلك الانتقال إلى حكم ديمقراطي.

هذا التفكير هو السائد اليوم في الولايات المتحدة ولدى الحكومات المتحالفة معها، العربية منها وإسرائيل. وبموجب هذه السياسة، تعمل أميركا وحلفاؤها على تحقيق رخاء للفلسطينيين، بغض النظر عن وضع المفاوضات السياسية أو مصير الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها.

في ظل إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، اعتقد صهره وكبير مستشاريه جاريد كوشنر أن تحقيق الرخاء للفلسطينيين يجب أن يكون ثمنه توقيع الفلسطينيين وثيقة إنهاء صراع والتخلي عن أي مطالب لهم.. "خطة كوشنر" هذه واجهت معارضة غير مسبوقة بين صفوف الفلسطينيين وبعض العرب.

خرج ترامب وكوشنر، ومعهما رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتانياهو، من الحكم، وخالف نفتالي بينيت نتانياهو.

وبينيت يميني يرفض قيام دولة فلسطينية، لكنه يفترق عن نتانياهو في اعتباره أن أفضل السبل للتعامل مع أزمة الفلسطينيين تقضي بتحسين مستوى معيشتهم، بغض النظر عن المفاوضات السياسية معهم.

نظرية التعاون العربي مع اسرائيل للنمو اقتصاديا أثبتت نجاحا باهرا مع توقيع اتفاقيات إبراهيم للسلام. في السنة الأولى التي تلت الاتفاقية بلغت التجارية الثنائية بين الإمارات واسرائيل 712 مليون دولار، فيما تبلغ التجارة بين مصر وإسرائيل، بعد 40 عاما من السلام بينهما، 267 مليونا فقط.

هذا التباين يبدو أنه دفع رئيس مصر عبدالفتاح السيسي، الذي جعل من نمو بلاده الاقتصادي أولى أولوياته، إلى استقبال رئيس حكومة إسرائيل علنا، في زيارة كانت الأولى من نوعها منذ 10 سنوات.

وتزامنت القمة المصرية الإسرائيلية مع إعلان الطيران المصري نيته تسيير رحلات علنية إلى مطار بن غوريون، وتلت اجتماعا لأكثر من 60 من رجال الاعمال من البلدين في مارس.

وفي سياق تحويل النمو الاقتصادي إلى أولوية، بما في ذلك للفلسطينيين، كتب في صحيفة "فاينانشال تايمز" وزيرا خارجية الإمارات عبدالله بن زايد، وإسرائيل يائير لابيد، مقالا مشتركا جاء فيه أن "اتفاقيات إبراهيم أكدت أنه حتى لو لم يتم التوصل إلى اتفاق سلام شامل، فإن الظروف الأفضل للفلسطينيين هي مصلحة مشتركة لنا جميعا"، وأضافا: "يجب أن يساعد التطبيع (العربي الإسرائيلي) في تسهيل زيادة الاستثمار والتجارة والتبادلات بين الفلسطينيين والعالم العربي".

وعن تحسين ظروف الفلسطينيين، بغض النظر عن السياسة، كتب الإسرائيلي ميخا غودمان بالتفصيل في كتابه "عقدة 67" عن استحالة التوصل لاتفاقية ليست بين الإسرائيليين، من ناحية، والفلسطينيين، من ناحية ثانية، بل بين الإسرائيليين أنفسهم والفلسطينيين أنفسهم حول شكل التسوية المقبلة.

ولأنه لا توافق داخليا لدى الجانبين حول شكل السلام، ولا توافق بين الجانبين حول معظم النقاط العالقة، يعتقد غودمان، الذي يعمل اليوم مستشارا لدى بينيت، أن الحل الأفضل المتاح هو رفع مستوى معيشة الفلسطينيين إلى أقصى حد ممكن، وهي السياسة التي يبدو أن إسرائيل وبعض الدول العربية عاكفة على تنفيذها.

هذا هو "الشرق الأوسط الجديد 2.0" المنشود: يتجاهل السياسة والخلافات التاريخية، ويستبدلها بسياسات فورية لتحسين حياة الفلسطينيين وباقي العرب، فتبنّي الحداثة والديمقراطية في دنيا العرب قد يكون أيسر مع بطون مليئة منه في مواجهة أفواه جائعة.

الاثنين، 13 سبتمبر 2021

هل موّلت السعودية هجمات 11 سبتمبر؟

حسين عبدالحسين

في الذكرى العشرين لوقوع هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية، التي راح ضحيتها نحو 3000 أميركي، أدت الضغوط التي يمارسها التيّار المعروف بـ "التقدمي" داخل الحزب الديمقراطي إلى قيام إدارة الرئيس جو بايدن برفع السرية، أول أمس، عن 16 صفحة من التحقيقات التي أجرتها وكالات الاستخبارات الأميركية عام 2016 للبحث عن إمكانية وجود صلة بين منفذي الهجمات، وغالبيتهم كانوا من حاملي جوازات السفر السعودية، والحكومة السعودية.

والتيّار التقدمي يناصب السعودية العداء لأسباب متعددة، منها عقائدية معادية للإمبريالية وحلفائها بشكل عام، ومنها سياسية، مثل قربه من شبكات الإسلام السياسي، بما فيها اللوبي الإيراني في واشنطن، وهو تيّار يبحث دائما عن كل ما من شأنه أن يسيء إلى السعودية وحكومتها، وحتى شعبها أحيانا، بوصفه بدويا يفترض أنه متأخر عن الحضارة.

لذا، لم يكد التقدميون يفرغون من الضغط على الرئيس جو بايدن وإدارته لرفع السرية عن تقارير الاستخبارات الأميركية حول جريمة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، حتى انتقلوا إلى مطالبة الإدارة برفع السرية عن التقارير التي يأملون أن تثبت أن الرياض كانت شاركت في هجمات 11 سبتمبر، على الأقل لناحية تقديمها التمويل والدعم اللوجستي.

على أن المفارقة تكمن في أن التقرير الذي رفع بايدن السرية عنه يضم معلومات أقل مما هو متوفر في العلن منذ 17 عاما على الأقل.

مثلا، في كتابه "للاستخبارات أهمية" الصادر في العام 2004، أورد السناتور الديمقراطي السابق، رئيس لجنة "التحقيقات في الهجمات"، بوب غراهام، تفاصيل بشأن أموال قدمتها زوجة السفير السعودي في واشنطن عام 2000 إلى زوجة طالب سعودي اسمه عمر بيومي. وتظاهرت زوجة بيومي هذه أنها بحاجة إلى عملية في عينيها، وطلبت مساعدة مالية، فما كان من الأميرة هيفاء الفيصل، زوجة السفير بندر بن سلطان، إلا أن قدمت لها ما تيسر.

كما أن بيومي كان يعمل لدى شركة سعودية، أثناء إقامته كطالب في الولايات المتحدة، لكنه كان يتلقى راتبه دون أن يعمل فعليا، وهو ما دفع بعض الأميركيين للاعتقاد أن بيومي هذا كان يتلقى الأموال بهدف دعم الإرهاب.

لكن أي عربي، يعرف كيف تعمل اقتصادات بعض الدول العربية في زمن ما قبل الإصلاح، خصوصا الخليجية النفطية منها كالسعودية، لن يفاجئ أن السفارة السعودية قدمت أموالا لمواطنة ادعت الحاجة، أو أن بيومي موظف يتقاضى راتبه دون أن يعمل. حتى أن السلطات الأميركية ألقت القبض على زوجة بيومي أثناء محاولة الأخيرة سرقة مجوهرات خلسة من أحد المحلات. كل هذه أمور مألوفة في الأوساط العربية ولا تعني أن بيومي يعمل بتوجيهات الحكومة السعودية أو بدعمها حتى يقوم بدعم اثنين من الإرهابيين الانتحاريين.

وكتب غراهام: "من المصدرين (الحكوميين السعوديين) حصل بيومي على 40 ألف دولار علاوة على معاشه، (أي ما يوازي) واحد على ستة، أو واحد على 12 من الاجمالي الذي تم استخدامه لتمويل هجمات 11 سبتمبر".

هذا يعني أن اجمالي الأموال التي انتقلت من مسؤولين حكوميين سعوديين إلى أيدي بيومي، ومنه تاليا لتمويل إقامة الإرهابيين في أميركا، لم تتعدَ نسبة 17 في المئة كحد أقصى من إجمالي الأموال المطلوبة. والسؤال هو: أهكذا تموّل حكومة تتمتع بواحدة من أعلى نسب الإيرادات في العالم هجوما ضد دولة حليفة، ومن دون حتى أن تغطي آثار انتقال الأموال من حساب الأميرة هيفاء إلى عائلة بيومي؟

الأرجح أن تقدميي الحزب الديمقراطي لم يقرأوا كتاب غراهام (وهو ليس صديق السعودية أبدا بل عكس ذلك)، أم هم قرأوه ولكن مصلحتهم السياسية تقتضي مواصلة التحريض ضد السعودية.

والأرجح أن التقدميين هؤلاء هم من أصحاب الشعارات والصراخ، ومن دون ذاكرة أو معرفة ببواطن الأمور، لأن من يعرف شؤون واشنطن يعلم أن فور وقوع هجمات 11 سبتمبر قامت أجهزة الاستخبارات الأميركية بتجميد كل الحسابات السعودية في المصارف الأميركية ريثما يتسنى لها دراسة حركة انتقال الأموال منها وإليها، وهو ما اضطر السفير السعودي في واشنطن يومذاك الى الاستعانة بالمصارف الكندية لإجراء سحوب نقدية لتسديد رواتب موظفي السفارة.

والسفير السعودي يومذاك كان بندر بن سلطان نفسه، الذي يشتهر بصورته وهو يجلس على كتف الأريكة ويتحدث إلى الرئيس الأميركي جورج بوش.

بندر تمتع بنفوذ أسطوري في واشنطن لا يزال صداه يتردد حتى اليوم، ومع ذلك، ورغم علاقة أميركا المتينة بالسعودية، لم تتأخر واشنطن عن تجميد الحسابات السعودية وفحصها، ثم الإفراج عنها، ولو كانت تلك الحسابات أظهرت أي تورط للحكومة السعودية في الهجمات، لكانت "الجرة انكسرت" بين الحليفين، لكن ذلك لم يحدث بعدما تأكدت الاستخبارات الأميركية من أن الحكومة السعودية لم تكن متورطة في الهجمات، حتى لو تبين ضلوع عنصر غير منضبط هنا أو هناك.

الدليل الثالث، الذي يرجح بشكل شبه مؤكد عدم ضلوع الحكومة السعودية في هجمات 11 سبتمبر جاء من مفكرة زعيم "القاعدة" الإرهابي أسامة بن لادن، الذي قتلته القوات الأميركية عام 2011 وجمعت الوثائق في منزله.

في مفكرته، يبدو بن لادن عدوا لدودا للحكومة السعودية، حتى أنه يرفض تسميتها بذلك، بل يستعيض عنها بتسميات مثل الحجاز أو نجد أو ما شابه، ولو كانت "القاعدة" تلقت مساعدة حكومية سعودية لتنفيذ الهجمات، حتى لو من أفراد تصرفوا من تلقاء أنفسهم، لكان ذلك ظهر في أوراق بن لادن، وهو ما لم يحصل.

الدلائل المتوفرة منذ وقوع هجمات 11 سبتمبر 2001، وحتى اليوم، لا تشي بأي تورط للحكومة السعودية في تلك الهجمات، لكن التقدميين لن تثنيهم أي من الدلائل، بل سيواصلون التحريض، لا لأنهم ينشدون العدالة، بل لغاية في نفس يعقوب.

الثلاثاء، 7 سبتمبر 2021

دور فرنسا السلبي في لبنان والعراق

حسين عبدالحسين

يوم وقّع الرئيس السابق باراك أوباما الاتفاقية النووية مع إيران، كان ووزير خارجيته جون كيري يدركان أنها قاصرة عن تحقيق الأهداف التي تخدم المصالح القومية للولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط.

لكن أوباما وكيري كانا يعتقدان أن الاتفاقية هي أول الدرب، لا آخره، وأنه متى بدأ مشوار بناء الثقة مع طهران، وأنه متى بدأت كبرى الشركات الأميركية والأوروبية تضرب جذورها في إيران، فان المصالح المركنتيلية (الإتجارية) الغربية ستتولى الدفاع عن الاتفاقية، وحمايتها مستقبلا.

وفعليا، تنبه النظام الإيراني لضرورة شراء ود الشركات الغربية، فوقّعت حكومة حسن روحاني اتفاقيات بقيمة 30 مليار دولار مع شركة بوينغ الأميركية العملاقة للطيران لشراء طائرات وقطع غيار، ومثلها فعلت مع شركة إيرباص الفرنسية الألمانية مع عقد بقيمة 25 مليار دولار.

كما وقّعت طهران عقدا بقيمة 5 مليارات دولار مع شركة توتال الفرنسية للطاقة، حتى تقوم الأخيرة بتطوير حقل بارس 11 النفطي الجنوبي.

لكن الاتفاقية التي كانت بداية المشوار لدى الأميركيين والأوروبيين، كانت نهايته عند الايرانيين، إذ لم تمرّ أيام حتى أخلّت طهران بتعهد شفهي كان قطعه وزير خارجيتها جواد ظريف لنظيره كيري، وعد فيه بعدم القيام بتجارب صاروخية.

وعندما احتج كيري لدى الإيرانيين، توصّل الطرفان لإلى تصريح لحفظ ماء الوجه قال فيه الأميركيون والأوروبيون إن "إيران تجاوزت روحية الاتفاقية النووية معها، ولكنها لم تتجاوز النص".

ربما اعتقدت إيران أن عقودا بقيمة 60 مليار دولار كانت كافية لشراء الأميركيين والأوروبيين، فراحت تستخدم طائراتها الجديدة لنقل المقاتلين والأسلحة إلى الحرب السورية، واستخدمت عائدات النفط لتمويل الميليشيات الموالية لها في عموم المنطقة، وهي الميليشيات التي ضاعفت من حروبها. كما راحت طهران تستخدم الأموال سرا في أوروبا، في سعيها للحصول على تقنيات مزدوجة الاستخدام يمكنها استخدامها لتطوير برنامجها النووي.

ويوم وصل الرئيس دونالد ترامب إلى الحكم، لم ينسحب فورا من الاتفاقية النووية مع إيران، بل حاول إغلاق الثغرات التي تركها أوباما، وبدأ مفاوضات عبر الأوروبيين مع الإيرانيين لهذا الغرض، ولما رفضت إيران أي تعديلات، انسحب ترامب بعد سنة ونصف من دخوله البيت الأبيض.

في الولايات المتحدة، صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، لا تشكل 30 مليار دولار مبلغا يمكنه تحريك المصالح التجارية، لكن في أوروبا، وخصوصا فرنسا ذات الاقتصاد المتهالك دائما، شكّلت المليارات الإيرانية حافزا كبيرا لمحاولة منع انهيار الاتفاقية مع إيران، على الرغم من كل الثغرات، ودفعت المليارات المذكورة أوروبا للانفصال عن أميركا عندما طلبت الأخيرة الخروج من الاتفاقية.

على أن خروج واشنطن من الاتفاقية النووية وعقوباتها على إيران أوقف كل العقود، بما فيها مع أوروبا، التي حاولت الالتفاف على العقوبات الأميركية وفشلت في ذلك. ومنذ انسحاب أميركا، ما زالت أوروبا، وفي طليعتها فرنسا، تستميت على صداقة إيران وعلى إعادة إحياء الاتفاقية النووية.

وحتى تعود الاتفاقية النووية مع إيران إلى الحياة، هذا إن عادت، يسعى الأوروبيون بكل قوّتهم لمجاملة طهران وخطب ودها لاعتقادهم أن العقود الأوروبية مع طهران مجمّدة، وأنها ستعود يوما.

هكذا، دأب رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون على التدخل في شؤون الدول التي تقع تحت نفوذ إيران، مثل لبنان والعراق. للوهلة الأولى، بدت زيارات ماكرون المتكررة إلى لبنان واهتمام باريس المتزايد بشؤون بيروت عودة "الإمبريالية" الفرنسية إلى مستعمرتها اللبنانية السابقة، حتى أن أنصار "حزب الله" اللبناني الموالي لإيران هاجموا تدخل الرئيس الفرنسي وحنينه إلى الزمن الإمبريالي، ولقاءه الزعماء اللبنانيين وكأنه يعطيهم التعليمات.

لكن أنصار "حزب الله" لم يلاحظوا، أم هم تجاهلوا، أن بين زعماء لبنان الذين شاركوا في الجلسة مع الرئيس الفرنسي كان رئيس كتلة "حزب الله" البرلمانية محمد رعد، الذي عقد خلوة ثنائية مع ماكرون بعد الجلسة.

وأشارت التقارير يومذاك أن الرئيس الفرنسي حاول إقناع الحزب بضرورة المضي قدما في تشكيل حكومة وحدة وطنية لوقف الانهيار اللبناني وإطلاق عملية الاصلاح، وهي سياسة توافق رؤية إيران وحزبها اللبناني وحلفائه للحل في لبنان: حكومة، فإصلاح شكلي، فمساعدات مالية دولية.

لكن "ثورة لبنان" ترى غير ذلك، فلبنان يعيش في ظلّ حكومات وحدة وطنية، منذ عام 2005، لم تنجح أي منها في وقف التدهور أو القيام بإصلاح. مفتاح الحل، حسب ثوّار لبنان، هو الإطاحة بكل الطبقة السياسية، بما فيها "حزب الله"، وإعادة تشكيل العقد الاجتماعي اللبناني بما يتضمن حصر استخدام العنف في أيدي حكومة منتخبة، أي حلّ ميليشيا "حزب الله".

وكما في لبنان، كذلك في العراق، حيث يرى الناشطون، ومعهم أعلى مرجعية شيعية، علي السيستاني، أن مفتاح إنقاذ العراق هو قيام الميليشيات الموالية لإيران بتسليم سلاحها وتطويع أفرادها في القوى الأمنية. ولكنها رؤية حل لا تتناسب وسياسات إيران، ونموذجها الذي تسعى إلى فرضه في لبنان والعراق واليمن وسوريا. لهذا السبب، تقوم الميليشيات الموالية لإيران باغتيال ناشطي الثورة العراقيين، ومثلهم يفعل "حزب الله" في لبنان.

وكما في لبنان، كذلك في العراق، زار ماكرون بغداد متظاهرا أن هدفه هو الإصلاح والإنقاذ، فيما الرؤية التي قدمها حول التسوية بين الدولة والميليشيات هي نفس الرؤية الإيرانية، التي تسعى دائما لتشتيت الانتباه بعيدا عن المشكلة الأساس: أي سلاح الميليشيات الموالية لإيران.

على عكس إدارة الرئيس السابق ترامب، التي كانت ترى حل الميليشيات مفتاحا للحل في لبنان والعراق، ترى إدارة الرئيس جو بايدن، كما ماكرون، أنه يمكن التوصل لحل بالتي هي أحسن، بشكل يرضي إيران ويعيدها للاتفاقية النووية، ويعيد المليارات الإيرانية إلى الشركات الفرنسية.

على عكس ما يسعى لتصوير نفسه، ليس رئيس فرنسا ماكرون صديقا للشعبين اللبناني والعراقي، بل هو صديق الحكام الإيرانيين في البلدين.

Since December 2008