الثلاثاء، 28 يونيو 2022

شارل مالك وإدوارد سعيد والقوة الأميركية

حسين عبدالحسين

كتاب شيّق وممتع يقدم سيرة الفيلسوف والسياسي اللبناني شارل مالك وقريبه الفلسطيني اداور سعيد، ومعهما بعض معاصريهما من أمثال السوريين قسطنطين زريق وصادق جلال العظم واللبنانيين كمال الصليبي وفؤاد عجمي. يروي الكتاب دور الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، وعلاقة هؤلاء المثقفين ومواقفهم المتضاربة من القوة الأميركية في المنطقة والعالم. 

ولد مالك في 1906 في شمال لبنان لعائلة من الأقلية الكاثوليكية، وتبنى الأفكار التي نشرتها المدارس الإرسالية المسيحية التي تعلّم فيها، لناحية أن العرب كانوا من الشعوب المتأخرة، وأن دور الإرساليات كان تعليمها ونشر الحضارة في صفوفها. والحضارة، في رأي الإرساليات، بدأت مع اليونان والرومان وبعدهم المسيح، وتتضمن العلوم الإنسانية، خصوصا لناحية الفلسفة. 

اعتبر مالك أن الولايات المتحدة هي وريثة الحضارات الغربية العريقة، وأن دورها يكمن في مكافحتها الشيوعية السوفياتية ونشر الحرية والديموقراطية في العالم، ووصف العرب المسلمين بـ ”البدو“ من أصحاب ”التاريخ المتقطع“، وقال أنهم يعانون من ”ضعف الحجة والمنطق“، وأن انتاجهم الفكري ”من النوع الخيالي الذي يُعلي الكلمة والقافية“ على المضمون. وقال مالك أن في تفسيرهم للأحداث، يولي العرب المسلمون أهمية ”للسحر والحظ“، مضيفا أن وجود الاصلاحيين والثوريين بينهم نادر وأن ”الكائن العربي (يعيش) خارج التركيبة اليونانية-الرومانية-العبرية-المسيحية الأوروبية“. 

حتى لو تجاهلنا عنصرية مالك ضد المسلمين والعرب، يبدو جليا جهله أو تجاهله لوجوه النهضة العربية الذين ثاروا في القرن التاسع عشر ضد التقاليد السائدة، بما في ذلك الدين، من أمثال طه حسين وتوفيق الحكيم ومعروف الرصافي وعبدالرحمن الكواكبي وعشرات من العرب المسلمين غيرهم. 

ولكنه على تبنيه للحضارة الغربية، لم يخرج شارل مالك من المذهبية القبلية التي نشأ فيها، فحاول أثناء مشاركته في اعداد وثيقة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إضافة بند يمنح حق الأقليات العرقية والدينية ”معاملة تفضيلية“ من الدولة، على غرار التفضيل الذي ناله المسيحيون في لبنان إبان تأسيسه في العام 1920. هذه التفضيلية تتعارض مع مبدأي الحرية الفردية (ليبرتي بالانكليزية) والمساواة بين المواطنين كأفراد لا كجماعات. ويشكل المبدآن حجر الأساس في الثورتين الأميركية والفرنسية، مع ذلك، يبدو أنهما فاتا المفكّر الراحل مالك. 

أما سعيد، وهو من مواليد 1935، فتأثر بمعاداة الإمبريالية التي كانت سائدة أثناء صباه وشبابه، إن معارضة حرب أميركا في فيتنام، أو هزيمة العرب في العام 1967 أمام إسرائيل. سعيد، وهو من المسيحيين البروتستانت، لم ينحدر من أقلية مشرقية صغيرة فحسب، بل هو انحدر من عائلة ثرية ترتبط بعائلات من النخبة الثقافية، فهو كان يحسب مالك في عداد أقاربه، وكذلك عائلات زريق وقرطاس ومقدسي وبدر. 

نشأ سعيد في بيت يتحدث الانكليزية، وعاش مع علية القوم في مصر، وأتم دراسته الثانوية والجامعية في الولايات المتحدة، حتى أن والده وديع كان ينوي شراء بيت في مدينة نيويورك أثناء الرحلة التي رافقت فيها عائلة سعيد ابنها إدوارد ابان انتقاله طالبا الى أميركا. لكن سعيد لم يستخدم قدراته الفكرية، حسبما كان متوقعا، لتحديث العالم العربي واصلاحه، بل هو وضع علمه في خدمة معاداة الإمبريالية، الإمبريالية التي حسبها أساس مشاكل العرب. 

لم ينشأ سعيد مع العرب، لذا فهو لم يدرك فداحة المشكلة داخل المجتمع العربي، بل اعتقد أن الأمبريالية هي التي منعت النهضة العربية في سبيل سيطرتها على مقدرات العرب، وأن الإمبريالية هي التي أقامت اسرائيل كأداة لخدمة مشروعها. صدّق سعيد ”الخطاب الخشبي“ للقومية العربية. لم يدرك أن أميركا لم تمارس ضغوطا هائلة على اصلاحيين مثل محمد عبده وطه حسين لتجبرهم على التراجع عن كتاباتهم النقدية الثورية الاصلاحية، بل أن الرأي العام الإسلامي المحافظ هو الذي رفض التحديث وأجبر المثقفين على التراجع، وكان ذلك قبل أميركا بعقود. 

ولأن سعيد اعتقد أن مشكلة العرب من خارجهم لا من داخلهم، اعتقد أن معالجتها تكمن بتغيير نظرة ورأي الخارج تجاه العرب. هذا الاعتقاد هو الذي أدى الى نظرية سعيد حول الاستشراق، والتي اعتبر فيها أن مشكلة العرب هي نظرية الإرساليات المسيحية (وقريبه مالك) عن ضرورة ادخال العرب في الحضارة. 

العظم اتهم سعيد بالتعميم، وبحصر رأي ومعارف الغرب حول العرب بمدرسة واحدة، وبتجاهل بعض الاستشراق الذي قدّم خدمات جليلة للعرب في العلوم الانسانية، خصوصا في علوم التاريخ والآثار واللسانيات والعلوم الاجتماعية. كيف ردّ سعيد على العظم؟ رفض نشر مقالته واتهمه بالعمل لمصلحة نظام السوري حافظ الأسد، الذي كان يعادي زعيم الفلسطينيين ياسر عرفات. لم يقو سعيد على محاججة العظم فقام بالهجوم على شخصه. 

والعظم كان ثوريا أكثر من سعيد بأشواط، فهو لم يتوقف عن النقد الذاتي، وهاجم زعيم العروبة المصري عبدالناصر لعدم رعايته الثورة على الموروث، وخصوصا الدين، وهاجم العظم عرفات وغيره من الفصائل الفلسطينية معتبرا ثورتهم شكلية غير جدية. لكن العظم نفسه كان ممن علمتهم تجارب الحياة ضرورة الواقعية، بعيدا عن الشعارات الثورية، وهو في السنين التي سبقت موته تبنى مفهوم التغيير التدريجي، وقال أنه كان يرضى لو سمح النظام الديكتاتوري السوري بهامش من الحرية بمقدار عشرة أو عشرين في المئة، وأن ذلك أفضل من التغيير الفوري الشامل. 

سعيد لم يعرف العرب عن كثب فرآهم كتلة واحدة، ولم ير مشاكلهم من الداخل، وأصر على التعالي عن مشاكل الداخل وتأجيلها لمصلحة مواجهة اسرائيل والامبريالية. هكذا، خالف سعيد الاجماع العالمي على الحرب التي أدت الى تحرير الكويت من احتلال العراقي صدام حسين، وحاول سعيد الدفاع عن صدام بالقول أنه صحيح أن صدام طاغية، لكن لا دلائل تثبت استخدامه السلاح الكيماوي، وهو استخدام لم ينفه صدام نفسه بل سعى لتبريره. 

كذلك كتب سعيد أن لا دلائل أن لصدام "أطماع أخرى غير الكويت" وأن الحل يكون بالدبلوماسية فقط لأن هدف الحرب هو اضعاف صدام الذي يهدد اسرائيل، وكأن لا بأس من ابتلاع صدام الكويت، بدون غيرها، لأن المشكلة الوحيدة هي اسرائيل، مع أن سعيد نفسه كان يصرّ أن تأييد البشر لفلسطين والفلسطينيين يجب أن يكون مبنيا على موقف أخلاقي حصريا بدون أي اعتبارات استراتيجية أو سياسية. أما في الكويت، فالاخلاق كان عليها أن تنتظر ولا تعرقل استراتيجية تحرير فلسطين. 

لأن سعيد كان غريبا عن مشاكل العرب، فهو نظر اليها من منظور الأقليات الأميركية التي تعادي الرجل الأبيض، وقام بربط قضايا العرب بـ ”الجنوب العالمي“، بدلا من ربطها بضرورة نشر المبادئ الغربية كالحرية الفردية والمساواة والديموقراطية بين العرب. والعرب لم تكن لغتهم أو ثقافتهم أو تاريخهم يوما في خطر من الإمبريالية. الطغاة العرب وحدهم من تمسكوا بمعاداة الإمبريالية لابعاد كأس نشر الحرية والديموقراطية عن أنفسهم وعن شعوبهم، وسعيد ساعدهم في ذلك من حيث لا يعلم. 

مالك وسعيد عاشا كأقليات ولم يتسن لهما رؤية وفهم مشاكل العرب من الداخل، كما فعل العظم أو عجمي أو غيرهما. رؤية مالك لمشاكل العرب كان مبالغا بها وقاربت العنصرية، فيما لم ير سعيد أي من هذه المشاكل، بل تغاضى عنها وحاول تزيينها وتقذيع من يراها بتهمة الاستشراق الذي كان هو من يعاني منه. علوم ومواقف مالك وسعيد عانت من انعدام الواقعية والنظر الى مشاكل العرب من القصور العاجية التي عاشوا وماتوا فيها.

الثلاثاء، 21 يونيو 2022

ذكريات لاجئ عراقي

حسين عبدالحسين

منذ أبصرت النور وأنا وأبواي نتنقل هربا من الحروب. وعيي السياسي الأول كان في بيروت وفيه أن أمي، وهي لبنانية، تستمع الى الراديو وقد بدا عليها القلق الشديد. عانقتها كما يفعل الصغار للتخفيف من همّ الكبار، وسألتها لما كانت خائفة. قالت لي قتلوا طوني فرنجية. من هو طوني هذا؟ أجابتني ابن رئيس الجمهورية. النائب طوني فرنجية كان ابن رئيس لبنان الراحل سليمان فرنجية وقتلته ميليشيا القوات اللبنانية في العام 1978. كان بيتنا في بيروت الغربية الإسلامية، وكان موقع عمل أبي في بيروت الشرقية المسيحية. خشيت أمي أن يحصل ما يحصل عادة في حالات قتل كهذه: يرد الطرف الثاني بشكل عشوائي، غالبا بـ"الذبح على الهوية".

نجا أبي، وهو عراقي، وعقدنا العزم أن نعود الى بلدنا العراق. بالكاد مرّ عامين على عودتنا حتى دخلت البلاد في حالة تعبئة عامة بسبب اندلاع الحرب مع إيران. صافرة الانذار في بغداد كانت تقرع مع كل غارة إيرانية وكنا نركض ونختبئ تحت الدرج. السيارات طلت مصابيحها الأمامية بألوان داكنة، وفرضت الحكومة تقنينا على السيارات: يوم تسير السيارات ذات اللوحات المزدوجة، واليوم التالي المنفردة.

تواصلت الحرب وكانت "طائراتنا العراقية الباسلة تغير فوق ايران" وتعود دائما سالمة، حسب التلفزيون. على الرغم من الانتصارات الباهرة، استمرت الحرب وتحولت إلى محرقة للشباب العراقي. راحت الحكومة تستدعي الاحتياط. مساء كل يوم على الجريدة الرسمية التلفزيونية يتم استدعاء دفعات من مواليد العام كذا وكذا. بلغ جيراننا من آل الصفار أن ابنهم تم فقدانه أو أسره في خانقين أو غيرها. راح أخوه يسوق ساعات طويلة بحثا عن الخبر اليقين عن شقيقه المفقود. بيت العزاوي، جيراننا كذلك، فقدوا شابا سقط في معركة. خشي أبي أن يتم استدعاؤه. من يطعمنا أمي وأختي وأنا بدونه؟ بدا الحل الأنسب هو في العودة الى بلدنا لبنان، وكان ذلك في اواخر مايو 1982.

تدقيق الجوازات في مطار بغداد كاد يعتقل أبي ليمنعه من السفر مع أن مواليده لم تكن مطلوبة بعد. ابتسم لنا الحظ بمرور ضابط كان يعرف والدي منذ زمن الدراسة، فسمح لنا بالمرور مخاطرا بذلك بحياته هو. وصلنا لبنان فبدأت دبابات إسرائيل اجتياحها الشهير الذي تعدى العاصمة. لجأنا الى بعلبك بلد أجدادي لأمي واعتقدنا أنها فرصة صيف ونعود الى بغداد. على عكس بغداد حيث كان صدام بطل القادسية والخميني دجالا، انقلبت الصورة أمامي في بعلبك وصار الهتاف "الهي الهي حتى ظهور المهدي احفظ لنا الخميني".

في بعلبك كانت الغارات الاسرائيلية، وأحيانا الفرنسية (للثأر من تفجير مقر القوة الفرنسية لحفظ السلام) أسبوعية تقريبا. في العام 1983، شنت المقاتلات الإسرائيلية غارة دمرت فيها مخيم الجليل للاجئين الفلسطينيين وموقع الشرطة اللبنانية (الدرك) الذي يجاوره، وشاهدت الغارة مذعورا وأنا في مدرستي القريبة.

على أن الغارات والرعب والخوف والاختباء لم تثر في شعور بالغربة، اذ هو شعور يشترك فيه أهل البلد مع أمثالي. وأقول إني لست من أهل بعلبك لأن الأعراف القبلية العربية لا تنسب الأولاد إلى أخوالهم بل إلى أبيهم وأعمامهم. في العشرين عاما التي أمضيتها في لبنان، وكنت تطبعت لبنانيا بشكل جعل من المتعذر على اللبنانيين معرفة جذوري العراقية، لم يحسبني اللبنانيون واحدا منهم لأن أبي من بغداد، حتى بعد صدور مرسوم الجنسية الذي جعلني وأبي وأخوتي مواطنين لبنانيين.

لكن منذ وصولنا لبنان في 1982 وحتى 1988، كان أبي متخلفا عن الخدمة العسكرية العراقية، وهو ما حرمنا امكانية تجديد جواز سفرنا العراقي، وبدونه صارت الإقامة قانونيا في لبنان متعذرة. لأعوام طويلة، عشنا في لبنان بدون أوراق ثبوتية، وهو أمر فيه خطورة بسبب حواجز الميليشيات وتقاسم مناطق النفوذ بينها، وصار المرور على أي حاجز رعب لنا.

مع حلول العام 1988 ونهاية الحرب مع إيران، تحسن الوضع العراقي قليلا، ومنحتنا السفارة العراقية جوازات جديدة، ومع مطلع التسعينات صرنا لبنانيين كذلك. لكن صدام حسين كان يحظّر على العراقيين حمل جنسيات عربية شقيقة (لعله في إطار الوحدة وعشق العرب بعضهم البعض)، وهو ما أجبرنا على اخفاء هويتنا اللبنانية خوفا من العقوبات العراقية علينا.

مطلع التسعينات، قتل ديبلوماسيون عراقيون في بيروت المعارض المسّن طالب السهيل وانقطعت العلاقات بين البلدين، وهو ما أجبرني على زيارة الأردن بعد ذلك بسنوات لتمديد جوازي العراقي الذي كانت صلاحيته تنتهي في أيام. طرت الى عمّان وتوجهت فورا الى السفارة العراقية وقرعت الجرس. فتح موظف شبّاك صغير ونظر الي وكأني قتلت عائلته وكل عشيرته: "ها شتريد؟" أجبته أني أسعى لتجديد جوازي، فراح يسأل عن الوثائق بحوزتي، الهوية، شهادة الجنسية، صور فردية. ثم وصل لبطاقة الحصة التموينية. طبعا لم يكن لدينا بطاقات كهذه لأننا كنا من المغتربين. بالكاد قلت لا فأقفل الشبّاك ولم يفتحه مرة ثانية.

جلست على جانب الطريق في عمّان حائرا في أمري: ماذا أفعل بعد أيام عندما تنتهي صلاحية جوازي؟ أصبح مثل المواشي. على الأقل يمكن للمواشي التجول بأمان بدون أوراق ثبوتية، أما بني البشر، فلا يمكنهم أخذ اجازة من الحضارة وأنظمتها الإدارية.

أنا كنت من المحظوظين. صديق آخر لأبي من زمن الطفولة كان صار تاجرا كبيرا في عمّان. خابرته، فتكفّل بتجديد الجواز. مع ذلك، عندما أجرى القائم بالأعمال مقابلة معي، حاول انتزاع اعتراف أني أحمل جنسية لبنانية، وطبعا أنا كنت أعي ألاعيبه ولم أقع.

إبان هجرتي إلى الولايات المتحدة، كفلت الحكومة الأميركية اصدار تأشيرات دخول لي ولزملائي اللبنانيين الذين نالوا تأشيرة ستة أشهر مع دخول متعدد، أما أنا، فبسبب جوازي العراقي، نلت ثلاثة أشهر مع دخول واحد فقط. كان تجوالي بجوازي العراقي بمثابة جريمة: أصل أي مطار في العالم وأمضي ساعات أمام التحقيق.

اليوم أتجول بجوازي الأميركي بدون أي عوائق أو أسئلة، لكني لا أنسى أني أمضيت عمرا وأنا أتوقع الذل في كل سفارة وفي كل مطار، حتى أني كنت أتفادى السفر لأتجنب الاستجداء والتوتر والقلق.

في يوم اللاجئين العالمي، الذي احتفلت به الأمم المتحدة أمس، تحية لكل اللاجئين الصابرين الصامتين.

أما من نصبوا أنفسهم أبطالا في اللجوء — من أمثال عضو الكونغرس الصومالية الأميركية الهان عمر التي تحتفظ بكلمة لاجئ في تقديمها نفسها على مواقع التواصل والأكاديمي الفلسطيني الأميركي الراحل اداور سعيد الذي أطلق اسم "خارج المكان" على كتاب مذكراته — فهؤلاء حوّلوا شقاء اللجوء إلى مهنة وسياسة فيما هم يتجولون بجوازاتهم الأميركية التي تمنحهم احتراما كاملا حول العالم منذ ولادتهم، في حالة سعيد، وقبل بلوغهم سن الرشد، كما في حالة عمر.

الثلاثاء، 14 يونيو 2022

الديمقراطية في أيدي العرب كارثة

حسين عبدالحسين

بعدما تم الدوس على كل عناصر الديمقراطية في العراق، يستمر الجهل الدستوري المعزز بجهل المحكمة العليا، والذي كان آخره السماح لمجلس النوّاب بالتشريع حتى بدون انتخاب رئيس جمهورية أو اختيار رئيس للحكومة. ومثل في العراق، كذلك في لبنان، بدا الجهل بأصول الديمقراطية والدبلوماسية فاقعا حتى بين النخبة التغييرية التي دخلت مجلس النواب منتصف الشهر الماضي.

في برلمانات العالم دورتي انعقاد، واحدة انتخابية وثانية تشريعية. الدورة الانتخابية هي التي تتضمن قسم اليمين وانتخاب الرئيس ونوابه ورؤساء اللجان وأعضائها، فضلا عن انتخاب رئيس الجمهورية، أو اختيار الحكومة بحسب طبيعة النظام. 

لكن في العراق، نجح النظام الإيراني، عن طريق موالين له، بتحويل الغالبية المطلوبة للحكم، أي نصف زائد واحد، إلى غالبية الثلثين المطلوبة عادة لشؤون أساسية مثل تعديل الدستور أو النظام الداخلي، وهو ما جعل من المتعذر على البرلمان العراقي الانعقاد بغالبية بسيطة لانتخاب رئيس جمهورية واختيار رئيس حكومة، وهو ما صار يعني فعليا أن الحكم في العراق يتطلب غالبية ثلثين بدلا من غالبية النصف، وهو ما يجافي مبدأ الديموقراطية بأكمله.

ثم بعدما خرّبت طهران والمحكمة العراقية أبسط متطلبات الديمقراطية المبنية على حكم الغالبية البسيطة، أمعنت الأحزاب العراقية على أنواعها في عملية تدمير الديمقراطية بالسماح بانعقاد البرلمان للتشريع حتى بدون انتخاب رئيس جمهورية. ولا يجوز التشريع في فترة انعقاد الانتخاب، ولكن الأحزاب العراقية لا تهتم، فمضت بالتشريع في غياب سلطة تنفيذية، أي في ظل رئيس جمهورية منتهية ولايته وحكومة تصريف أعمال محظور عليها عقد اجتماعات. 

ولأن التشريعات تتطلب توقيع السلطة التنفيذية، أي رئيس الجمهورية، صارت القوانين الصادرة عن البرلمان العراقي في الأسابيع الأخيرة قوانين تنتظر توقيع رئيس منتهية ولايته، ولكن لا يبدو أن ذلك أثنى العراقيين عن التشريع في فترة الانعقاد الانتخابية أو في غياب رئيس أصيل.

أما مضمون التشريعات التي أصدرها مجلس النواب العراقي، فكارثة أكبر من تجاوز أصول الانعقاد وتشكيل الدولة. أول التشريعات كان "قانون تجريم التطبيع مع إسرائيل"، وهو قانون يهدد بالسجن المؤبد أو الإعدام كل عراقي يروج "للصهيونية أو الماسونية"، أو يتواصل مع إسرائيليين، عبر وسائل الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي. هذا يعني أن أي عراقي يكتب مقالة في جريدة يدعو فيها لسلام بين العراق وإسرائيل يعرّض نفسه لخطر الاعدام. أما الماسونية، فإضافتها الى الصهيونية تظهر مدى الضحالة المعرفية والفكرية لدى المشرعين العراقيين. 

كما أن القانون العراقي ضد إسرائيل يعرّض حياة ملايين العراقيين، ومنهم مواطنون أميركيون، من مغبة التواصل مع أوروبيين أو أميركيين من أصحاب الجنسية الإسرائيلية، ويهدد الشركات الدولية العاملة في العراق من احتمال مصادرة أصولها وطردها في حال كانت لها أعمال في إسرائيل، وهو ما يعني مثلا أن كل شركات السيارات العالمية التي تبيع سياراتها في إسرائيل لن تعود قادرة على بيع سياراتها في العراق.

ولم يكتف المشرعون العراقيون بتدمير أصول الديمقراطية وتقديم تشريعات فاشلة، بل تناقل الإعلام العراقي تقارير مفادها أنه في ظل استحالة انتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة جديدة، تسعى القوى العراقية في البرلمان إلى التمديد لحكومة تصريف الأعمال لمدة عام أو عامين تشرف فيها على إقامة انتخابات مبكرة. 
بغض النظر عن هرطقة "التمديد للحكومة"، تبدو السذاجة جلية في اعتقاد أن الانتخابات المبكرة ستؤدي إلى قيام غالبية الثلثين حتى تحكم. المشكلة في العراق هي أن المحكمة العليا عطّلت الديمقراطية بشكل دائم، بعد قولها أن الغالبية للحكم تتطلب نصاب الثلثين بدلا من النصف زائد واحد.

لبنان، الأعرق في العمل البرلماني، بدا كالعراق في انعدام الثقافة المطلوبة للديمقراطية إذ قامت نائبة في البرلمان بمطالبة رئيسه بتشريع قانون يفرض على الحكومة أن حدود لبنان البحرية مع إسرائيل هي الخط 29. لحسن الحظ، بدا رئيس البرلمان نبيه بري محنكا في العمل البرلماني ورد بالقول إن البرلمان لا يمكنه التشريع قبل اتمام إعادة تشكيل نفسه.

أما النقاش حول حدود لبنان البحرية مع إسرائيل فعكس ضحالة لبنانية تضاهي العراقية، إذ برزت طائفة بقيادة "كتلة النواب التغييريين"، تنادي بتعديل مرسوم لبناني ينص على أن حدود لبنان البحرية مع إسرائيل هي الخط 29، وكأن المشكلة هي داخلية لبنان، وحلّها يتطلب مراسيم أو قوانين. 

لبنان في حالة نزاع حدودي مع جارتيه إسرائيل وسوريا، وهو ما دفع بمجلس الأمن في الأمم المتحدة الى إصدار القرار 1680 لفرض ترسيم الحدود بين لبنان سوريا، وبعده القرار 1701 الذي يفرض ترسيم الحدود مع إسرائيل كذلك. ولأن الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل متنازع عليها، ولأن الحدود البحرية مبنية إلى حد بعيد على تحديد النقطة التي تلتقي فيها اليابسة بالمياه، ولأن هذه النقطة غير متفق عليها، أصبح ترسيم حدود لبنان البرية مع إسرائيل كمقدمة لتحديد الخط البحري بينهما، متعذرا.

مسألة ترسيم حدود لبنان مع إسرائيل يتطلب موافقة إسرائيل والاعتراف الدولي بالاتفاق، أو الذهاب إلى تحكيم دولي إن تعذر الاتفاق ثنائيا، ويعمد كل من الطرفين إلى تقديم كل الحجج المتوفرة لديه أمام التحكيم لإثبات ملكيته للأجزاء المتنازع عليها. كيف يؤثر مرسوم لبناني في موضوع دولي؟

هؤلاء اللبنانيون والعراقيون، لا يأبهون كثيرا للأصول الدستورية والدبلوماسية بقدر هوسهم بالشعبوية والصراخ والمزايدة وإثارة العواطف، وهذا أسلوب للأسف يشمل الحكام ومعارضيهم، وهو الأسلوب الذي يبقي لبنان والعراق، ودول عربية كثيرة، في دوامة الانهيار المتواصل بلا نهاية.

هذه المقالة لا تروّج للطغيان كبديل للديمقراطية، ولكنها تسعى إلى تذكير العراقيين واللبنانيين أن قيام الديموقراطية يتطلب: انتشار ثقافة الديمقراطية بين الناس أولا. كيف السبيل إلى ذلك؟ 

"لو كان الجهل رجلا لقتلته"، بالاستعارة من الإمام علي بن أبي طالب وتعديل مقولته عن الفقر.

الثلاثاء، 7 يونيو 2022

لبنان.. لا تغيير ولا هم يحزنون

حسين عبدالحسين

لم يعمّر تفاؤل البعض في لبنان بكتلة نواب التغيير الجدد أكثر من أسبوع. كان الأمل معقودا على أن هؤلاء النواب الجدد يرون الصورة بشكل أشمل وأعمق، وأنهم يدركون أن حجر زاوية التغيير هو إعادة الاقتصاد للنمو، وهو ما يتطلب تطبيق كل القرارات الدولية المتعلقة بلبنان وصراعه مع إسرائيل، والعودة للهدنة وللاقتصاد الدولي، واستعادة الثقة الدولية بالبلاد واستقرارها وأمنها واقتصادها.

ثم كان أول امتحان مع قيام إسرائيل بالتنقيب في حقل كاريش على حدوها البحرية المتنازع عليها مع لبنان. 

ليس مطلوبا من شعب لبنان أو نوابه أو دولته التفريط بحقوق البلاد وثرواتها، مثل الطاقة الممكن اكتشافها على الحدود البحرية الجنوبية مع إسرائيل، أو على حدود لبنان البحرية الشمالية مع سوريا. المطلوب هو العدل والإنصاف، وإعطاء إسرائيل وسوريا حقيهما مع الحفاظ على الحق اللبناني، وهو ما يتطلب حوارا ودبلوماسية مع دولة إسرائيل ومع الجمهورية العربية السورية، والأفضل أن يتم الحوار برعاية الأمم المتحدة، وبالاستناد إلى القوانين الدولية والوثائق المتراكمة تاريخيا. 

من الوثائق التاريخية للصراع اللبناني مع إسرائيل هو قرار مجلس الأمن رقم 1701، الذي يطلب في بنده العاشر من "الأمين العام أن يضع، من خلال الاتصال بالعناصر الفاعلة الرئيسية الدولية والأطراف المعنية، مقترحات لتنفيذ الأحكام ذات الصلة من اتفاق الطائف، والقرارين 1559"، الذي ينص على نزع سلاح كل الميليشيات في لبنان بما فيها "حزب الله"، والقرار "1680 لترسيم الحدود الدولية للبنان، لا سيما في مناطق الحدود المتنازع عليها أو غير المؤكدة، بما في ذلك معالجة مسألة منطقة مزارع شبعا".

هذا يعني أن القرارات الدولية واضحة من ناحية مطالبتها بترسيم حدود لبنان البرية والبحرية مع كل من إسرائيل وسوريا، وهو ما يؤدي الى إنهاء صراعات لبنان الحدودية التي تتذرع بها ميليشيات مثل "حزب الله" لتبرير بقائها، وهو ما يفتح باب نزع السلاح، واستعادة سيادة دولة لبنان باحتكارها لإمكانية استخدام القوة.

كما يفرض القرار 1701 العودة لاتفاقية الهدنة بين لبنان وإسرائيل للعام 1949. ومع ترسيم الحدود وتثبيت الهدنة واستعادة سيادة لبنان، يعود الاستقرار إلى البلاد ومعه يعود النمو الاقتصادي، ويصبح توقيع السلام مع إسرائيل قرارا يتم اتخاذه في حال توافرت أكثرية برلمانية لدعمه. حتى في غياب السلام اللبناني مع إسرائيل، يكون لبنان في حال سلم مع الإسرائيليين، وهو ما يعيد الحياة في لبنان إلى بعض طبيعتها.

كان التعويل على أن نواب التغيير الجدد في لبنان يفهمون ارتباط السلم بنمو الاقتصاد، وأنهم يعون الإجماع الدولي على تأييد ترسيم الحدود مع إسرائيل وسوريا، والعيش في سِلم (السِلم غير السلام) مع الدولتين.

كل المطلوب من نواب التغيير، دفاعا عن حقوق لبنان في الطاقة الممكن استخراجها من البحر على الحدود مع إسرائيل، هو إعلان تمسكهم بالقرار 1701 وتقديم مشروع قانون في البرلمان يجبر الحكومة على تطبيق هذا القرار وحشد التأييد الدولي والإقليمي له، بما في ذلك القيام بزيارات إلى طهران ودمشق وواشنطن (بالنيابة عن تل أبيب) ليدعوا هذه العواصم إلى تحييد لبنان عن صراعاتها الإقليمية والدولية.

لم يفعل نواب التغيير الجدد في لبنان أياً من الخطوات العقلانية والقانونية أعلاه، بل أصدروا بيانا شعبويا عمدوا فيه إلى المزايدة على "محور الممانعة؛ الإقليمي وممثله "حزب الله" في لبنان في العداء ضد إسرائيل، وعاتبوا الحكومات السابقة على إيداع الأمم المتحدة خريطة لتثبيت حدود لبنان مع إسرائيل، وطالبوا الحكومة الحالية بإيداع خط جديد يمثل أقصى المطالب الممكنة، دون مفاوضات مع إسرائيل، ووجهوا اللوم إلى رئيسي الجمهورية والحكومة لتهاونهما، مع أن الأخيرين قاما بدعوة المبعوث الأميركي للتفاوض.

والتفاوض في المفهوم اللبناني يبدو حتى الآن على الشكل التالي: "إما تقبل إسرائيل أن الخط 29 هو الحدود، أو لا ترسيم ولا سِلم". 

أما تبريرات نواب التغيير، فشعبوية مملة مفادها أنهم يحاولون إحراج رئيس الجمهورية، ميشال عون، أمام حليفه "حزب الله"، أي أن نواب التغيير يتخلون عن السياسة الحكيمة الراشدة، والدبلوماسية الهادئة لتحصيل الحقوق، في سبيل الغرق في تفاهات السياسة اللبنانية وتحالفاتها المتقلبة التي لا تغني ولا تسمن. وربما يتوقع هؤلاء النواب تعاطفا شعبيا إن هم أظهروا موقفا صارما ضد من يسمونه "العدو الإسرائيلي".

كاتب هذه السطور يؤمن بأن السلام الكامل بين لبنان وإسرائيل يعود على لبنان بفوائد اقتصادية هي أضعاف ما يعود عليه السِلم مع إسرائيل بموجب الهدنة التي يطلبها القرار 1701 والبطريرك الماروني، بشارة الراعي، وحزب "القوات اللبنانية". لكن في غياب تأييد الغالبية اللبنانية للسلام، لا بأس من الهدنة، ولا بد منها لاستعادة أي نمو اقتصادي. 

أما أسوأ المواقف، فالشعبوية التي ترى أن المواقف الدولية لا ثمن لها، بل مجانية. أن تسمي "كتلة التغيير" إسرائيل بـ "العدو" فهذه ليست وطنية، بل شعبوية. هذه الولايات المتحدة يندر أن تصف دولة بـ "العدو"، عملا بالقول المعروف إن في السياسة "لا عدو دائم ولا صديق دائم بلا مصالح دائمة".

للأسف في الحالة اللبنانية، يبدو أن "حزب الله" وحليفته الطبقة الحاكمة لا يختلفان عن الثوار والمعارضة والمطالبين بالتغيير، وأن الشعار الدائم في لبنان هو "لا مصالح وطنية ولا وعي سياسي أو اقتصادي، فقط ألاعيب سياسية وشعبوية وخزعبلات".

Since December 2008