الثلاثاء، 30 أغسطس 2022

لم يخال اللبنانيون أنفسهم محور اهتمام العالم؟

حسين عبدالحسين

تحفل نشرات الاخبار اللبنانية والحوارات المتلفزة بتكهنات حول ما يريده "الإيراني" أو "الأميركي" أو "السعودي" في لبنان، وحول "كلمة السر" المطلوبة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية أو تشكيل حكومة.

كما يعكف اللبنانيون على ربط شؤونهم بالتطورات العالمية، مثل أن مصير لبنان مرتبط بالمفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وإيران، أو أن إسرائيل تتربص شرا لاحتلال لبنان لو أتيحت لها فرصة للسيطرة على ثرواته المتخيلة، أو أن الغرب يتحين الفرصة ليعيد فرض انتدابه، أو أن مجلس الأمن يقف خلف الباب في انتظار إشارة بطريرك الموارنة، بشارة الراعي، حتى يعلن لبنان دولة فاشلة ويضعه تحت الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة.

كل السيناريوهات أعلاه هي محض خيال، مصدرها ملل وثرثرة لا قيمة لهما. للبنان دور إقليمي يتيم: يستخدمه "الحرس الثوري" الإيراني كقاعدة صاروخية مسلطة فوق رأس إسرائيل. والصواريخ الإيرانية في لبنان ليست لتحرير فلسطين، على ما يتخيل زعيم "حزب الله"، حسن نصرالله، بل لإقامة توازن إيراني مع إسرائيل لثني الأخيرة عن توجيه أي ضربات عسكرية داخل إيران لتدمير أو تأخير أو عرقلة برنامج التسلح النووي الإيراني.

لبنان مفيد أيضا للحرس الثوري الإيراني، كما للمافيات والعصابات العالمية العابرة للحدود من موسكو إلى ريو دي جينيرو، لاستخدامه لتبييض الأموال، أو لتخطيط وتمويل عمليات إرهابية حول العالم، أو لاستخدام اللبنانيين لبسط نفوذ إيران في سوريا والعراق واليمن.

عدا عن استباحة إيران للبنان، واستخدامه كأداة لتصفية حسابات طهران مع خصومها الدوليين، لا تقيم أي دولة للبنان حسابا، ولا تهتم لشؤونه أو لهوية من يترأسه أو يترأس حكومته. قد يحاول بعض القادة الدوليين، من أمثال رئيس فرنسا، إيمانويل ماكرون، أن "يكاري على ظهر لبنان"، حسب التعبير اللبناني، بمعنى أن يستخدم لبنان لخدمة أغراض فرنسا وسياساتها. 

في هذا السياق، حاول ماكرون التظاهر وكأنه يقنع اللبنانيين بـ "الشراكة مع حزب الله"، على أمل أن تحمل طهران جميلا لماكرون وتبقي له على عقد شركة "توتال" العملاقة للطاقة لتطوير حقل بارس الجنوبي الإيراني، والبالغة قيمته خمسة مليار دولار، وأن تواصل المضي في عقد شراء إيران طائرات إيرباص الأوروبية بإجمالي 30 مليار دولار. وكانت الشركتان عمدتا إلى تجميد عقديهما مع إيران بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية النووية وإعادة فرض العقوبات الأميركية عليها.

عدا عن إيران وفرنسا اللتين تسعيان لاستخدام لبنان المتلاشي لمصالحهما، لا تهتم أي عاصمة من عواصم العالم بلبنان أو أي من شؤونه. 

إسرائيل لا تهتم لمن يحكم لبنان أو كيف. إسرائيل تسعى لسلام مع لبنان لدرجة أنها حاولت فرضه في 1983. لكن إلى أن يأتي السلام بين البلدين، تتعامل إسرائيل مع لبنان على أنه ساحة حرب مع إيران، وتتحسب لتحويله إلى كومة من الركام في حال اندلاع مواجهة عسكرية.

إسرائيل تعرف أن "حزب الله" سيتسبب لها بـ "أنف نازف"، حسب التعبير الأميركي، أي أن الحزب اللبناني سيوقع بعض الأذى بإسرائيل. لكن الأذى الذي ستوقعه إسرائيل بلبنان سيكون ساحقا ماحقا، وهو ما يثني الحزب عن أي مغامرات من هذا النوع (على الرغم من العنتريات الكلامية)، خصوصا أن في أي حرب مستقبلية، لن تتدفق الأموال الخليجية على لبنان لبلسمة جراحه وإعادة إعماره كما بعد حرب 2006. 

هذه هي الصورة الدولية والإقليمية تجاه لبنان: تعب من شؤونه وشجونه وفرقة الزجل والمرتزقة التي تديره. 

الخليج، كما باقي العالم، توصّل لنتيجة مفادها أن الوسيلة الأفضل للتعامل مع لبنان هي نسيانه والتظاهر أنه غير موجود، فسقطت ورقة التوت التي كانت تستر عورة اللبنانيين، وصاروا دولة فاشلة بلا مساعدات، ولا احترام، ولا حتى شفقة من الأشقاء العرب.

ولأن لبنان صار دولة فاشلة، فهو استدعى المساعدة الضرورية التي تقدمها الولايات المتحدة للدول من هذا النوع في سبيل حماية النظام العالمي من الانهيار الشامل. 

هكذا، بعدما كان لبنان في طليعة اهتمامات الولايات المتحدة كنموذج لنشر الديمقراطية، منتصف العقد الأول من هذا القرن، تحولت سياسة واشنطن تجاههه اليوم الى "إدارة الأزمة"، وهي سياسة مبنية على ثلاثة أعمدة.

الأول، هو تزويد البحرية اللبنانية بزوارق بحرية كافية لمنع خروج البؤساء منه إلى أوروبا والعالم، وهو ما أدى حتى الآن لانقلاب زورقين ووقوع ضحايا. العمود الثاني للسياسة الأميركية هو تسديد رواتب الجيش اللبناني للحفاظ على الحد الأدنى من الأمن. أما الثالث، فتمويل "برنامج الغذاء العالمي"، التابع للأمم المتحدة، حتى يزوّد اللبنانيين واللاجئين بالطعام للوقاية من اندلاع مجاعة.

سياسة القوة العظمى الوحيدة في العالم هي شفقة على لبنان، وإدارة أزمة، ولا أوهام لدى واشنطن أن أي من المهرجين اللبنانيين، ممن يسمون أنفسم سياسيين، قادرون على إدارة لبنان أو إخراجه من مأزقه.

لبنان سيبقى على هذا الشكل المتلاشي حتى يزول نفوذ إيران الذي يمسك به من رقبته. أما زوال النفوذ الإيراني، فالأرجح أنه يعتمد على ضعضعة في النظام تلي رحيل "مرشد الجمهورية"، علي خامنئي، البالغ من العمر 87 عاما، وإمكانية اندلاع صراع بين الأجنحة على الخلافة، وهو صراع قد لا ينتهي ولكنه سينهي حتما الكابوس الذي تفرضه طهران على لبنان والمنطقة منذ عام 1979.

لا اهتمام عالمي أو اقليمي بلبنان. كل النقاشات اللبنانية هي من باب الثرثرة، يتداولها لبنانيون تحولوا من كونهم طليعة المنطقة والعالم إلى شعب لا يعرف كيف يحكم نفسه، ولا كيف يقرأ السياسة الإقليمية أو الدولية.

الثلاثاء، 23 أغسطس 2022

القومية العربية هي النكبة

حسين عبدالحسين

صادف الأسبوع الماضي الذكرى الثانية والعشرين لوفاة المؤرخ السوري قسطنطين زريق، مطلق تسمية ”نكبة“ على قيام دولة إسرائيل وخسارة الجيوش العربية حرب القضاء على الدولة اليهودية الفتية. كان زريق مدرسا في دائرة التاريخ في ”الجامعة الأميركية في بيروت“، التي انتسبت اليها بعد تقاعده، وهو تزامل مع أساتذتي المؤرخين. 

في السنوات التي سبقت وفاته، التقيت زريق صدفة في حرم الجامعة، وكان بيننا حوار عن زمن العروة الوثقى، وهي الجمعية القومية العربية التي كان عرّابها والتي شغل عضويتها الطالبين جورج حبش ووديع حداد، مؤسسي ”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين“ وجناحها العسكري، الذي اشتهر بعمليات خطف الطائرات في السبعينيات.

في صباي، استهوتني القومية العربية كهوية علمانية جامعة في عالم يعجّ بالقبلية والمذهبية، كذلك أعجبتني أفكارها الداعية الى تحرر المرأة. وبدا لي زريق مفكرا موزونا، خصوصا بالمقارنة بالمثقفين العروبيين الناصريين والبعثيين ذوي الوزن الفكري الخفيف. زريق كان حاز على شهادة دكتوراه في التاريخ من جامعة برنستون الأميركية العريقة، وتتلمذ على أيدي أبي المستشرقين المؤرخ اللبناني الأميركي فيليب حتي.

على أن أحد أساتذتي في دائرة التاريخ أخبرنا قصة مغايرة عن زريق، مفادها أن استخبارات الدول الثلاثة — بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة — كانت تتنافس على النفوذ في العالم العربي وتعمل على رعاية حلفاء لها. بريطانيا راهنت على الملكيتين الهاشمية في العراق والأردن والخديوية في مصر، وأقامت لهما ”جامعة الدول العربية“ كأداة نفوذ اقليمية. أما فرنسا، فرهانها كان على تشجيع القوميات المحلية، المارونية في لبنان والعلوية والدرزية في سوريا. لكن بعد سيطرة النازية على فرنسا، انتزعت بريطانيا سوريا ولبنان، وطردت الفرنسيين، وحاولت ضم هذين البلدين إلى الاتحاد الهاشمي وفلسطين. وحتى تثأر فرنسا، قامت برعاية التنظيمات الصهيونية ضد بريطانيا والعرب إلى أن وصل الأمر حد الحرب، فقاد غلوب باشا البريطاني الجيش الأردني لانتزاع الضفة الغربية والقدس الشرقية من الصهاينة.

الولايات المتحدة بدورها شجّعت قومية عربية أوسع من الهاشمية والخديوية، تقودها السعودية، حليفة واشنطن. في هذا السياق الأميركي الداعم للعروبة، حاز زريق على شهادة الدكتوراه في سنتين فقط، الأرجح بتسهيل من الاستخبارات الأميركية، وحمل القومية العربية معه الى لبنان، ومثله فعل عدد من القوميين العرب ممكن كانوا يسكنون أميركا أو يحملون جنسيتها. 

واصلت أميركا دعمها للقوميين العرب، بمن فيهم رئيس مصر الراحل جمال عبد الناصر، ووقفت معه ضد الثلاثي بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بعد تأميمه قناة السويس في 1956 والحرب الناجمة عنها. وفي السياق نفسه، شجعت الاستخبارات الأميركية القوميين العرب في العراق في نظام الأخوين عارف ضد الشيوعي عبدالكريم قاسم. ولم تتوقف الرعاية الأميركية للقومية العربية إلا بعدما انقلب عبدالناصر على الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي ومحاولته التلاعب على الإمبراطوريتين باقترابه من الاتحاد السوفياتي.

وعلى عكس الاعتقاد السائد، حتى مطلع السبعينات، لم تكن أميركا عرابة إسرائيل. في حرب 1967، التي دمّر فيها سلاح الجو الإسرائيلي نظيريه المصري والسوري، كانت المقاتلات الإسرائيلية كلها من طراز ميراج الفرنسية، ولم تدخل المقاتلات الأميركية الصنع في الترسانة الإسرائيلية إلا بعد ذلك بسنوات.

الأسبوع الماضي، طالعت كتابات زريق في ذكرى رحيله، فأدهشتني سطحية كتاباته. لم يسع زريق لفهم موازين القوى الدولية والتحالفات، ولا بأس في ذلك، فكانت كتاباته بمثابة كرّاسات لشحذ الهمم والتحريض ضد اليهود (لا الإسرائيليين أو الصهاينة فحسب). 

معالجة الفشل العربي بمحاولة دراسة مكامن الخلل الداخلي، كما فعل زريق، أمر ممتاز، لكن كتبه ”الوعي القومي“ الصادر عام 1939، و”معنى النكبة“ الصادر عام 1949، و”معنى النكبة مجددا“ في 1967، تعاني من اقتباساته من الفكر الأوروبي الشوفيني القومي، النازي منه والفاشي.

صحيح أن زريق استعار في كتابه ”الوعي القومي“ من ”إعلان الاستقلال“ الأميركي بقوله أن غاية قيام الأمم هي ”تحرير الأفراد من القيود الداخلية، أي منحهم حرية فردية، وتوفير قسط من السعادة والهناء لهم جميعا“، الا أن استعارته تبدو سطحية اذ هو يناقضها بقوله أن الأمة المثلى هي ”التي تكون جميع أعمالها منظمة وموجهة إلى غايتها القومية الوحيدة: فلا يكون بين جهودها تضارب أو تنافر“. المشكلة هنا هي في تغاضي زريق عن أن الحرية الفردية تعني أن أعمال الأمة لا يمكنها أن تكون موجهة في اتجاه واحد، بل أن الحرية الفردية تفرض تضاربا في الآراء، يليها سيادة رأي الفائز بثقة الناس وأصواتهم، فيصنع سياسات الدولة حسب رأيه، إلى أن يخلفه معارضوه في الحكم. لقد استعار زريق من التأسيس الأميركي مبدأ الحرية الفردية والسعادة، ولكنه أقحمه في الفكر الفاشستي الشوفيني القبلي، الذي يرى الأمة كائنا متجانسا ذات رأي واحد مع تخوين للرأي المخالف.

ولأن زريق لم يفطن لأهمية الحرية الفردية، فإن مفهومه للذمية، التي كان هو منها كونه كان مسيحيا، لم يتغير، فراح يساير المسلمين بفرضه تاريخا علمانيا على رسولهم، على غرار ما فعل السوري المسيحي الآخر ومؤسس البعثية ميشال عفلق. في ”الوعي القومي“، خصص زريق فصلا حول ”القومية والدين بمناسبة ذكرى مولد النبي العربي الكريم“، اعتبر فيه أن رسول المسلمين هو ”موحد العرب وجامع شملهم“.

وبان فشل زريق التام في فهم الحرية الفردية والمساواة والمواطنية في كتابه ”في معنى النكبة“، الذي أعطى النكبة اسمها، وقال فيه إن العرب في الماضي دافعوا عن ”التسامح الطائفي وحرية العقيدة…و بلغ ]اليهود[ في عهود النفوذ العربي من الحكم وعلو الشأن ما لم يبلغوه في أية دولة أخرى“. وأضاف أن العرب مستعدين ”للعيش واليهود في ظل حكم ديموقراطي واحد ينال اليهود فيه من الحقوق ما يؤهلهم له عددهم“. 

تغاضى زريق عن 1400 عام من الحكم الإسلامي، العربي وغير العربي، الذي عاش فيه اليهود والمسيحيون كذميين، أي مواطني درجة ثانية، محظور عليهم لعب أدوار عديدة في الحكم والحكومة. ثم دعا اليهود إلى العيش مع العرب في فلسطين، لكن بدون مساواة وإنما منحهم بعض المواقع في الحكم بحسب نسبتهم السكانية. طبعا لم يفطن زريق إلى أن نصف اليهود في السنوات الخمس الأولى لتأسيس إسرائيل كانوا عربا أنفسهم، ما يعني أن تعدادهم السكاني هو فعليا تعدادا طائفيا في نظام قبلي يشبه النظام اللبناني الفاشل والماضي في التلاشي.

بالنسبة لمثقف اعتقدته يوما متفوقا على أقرانه، أراني اليوم، بعد عقدين، أعيد النظر. لم يكن زريق ثوريا ولا تقدميا. كان وريثا لفكر مسيحيي النهضة العربية الذين سعوا، في القرن التاسع عشر، لاستبدال القومية الإسلامية التي لم تتسع لهم بقومية عربية عبارة عن ”إسلام لايت“، يتظاهر فيها المسيحيون أن رسول المسلمين كان قائدا ملهما من دون أن يؤمنوا بدعوته الدينية، فيسمح لهم المسلمون بالخروج من قرون الذمية ومواطنية الدرجة الثانية إلى رحاب المساواة، وهو ما لم يحصل أبدا. 

ثم دعا زريق اليهود، عربا أو غير عرب، للانضمام إلى هذه الأمة العربية المتخيلة، التي أثبت قرن من الزمن أنها هي النكبة، وأن الحلول تكمن في اعتبار العرب مواطنين مستقلين متضاربي الرأي، تنظّم الديموقراطية اختلافاتهم، بدلا من النظر اليهم كعناصر متطابقي الرأي في جسم واحد لا يقبل الاختلاف.

الثلاثاء، 16 أغسطس 2022

فوكوياما.. نهاية التاريخ أم نهاية الليبرالية

حسين عبدالحسين

"الليبرالية والامتعاض منها" هو أحدث كتاب للعالم السياسي الأميركي فرنسيس فوكوياما، الذي يقترن اسمه لدى كثيرين بكتابه "نهاية التاريخ"، وهو الكتاب الذي تحول مصدر تهكم لدى البعض. في "نهاية التاريخ"، رأى فوكوياما انتصار الديمقراطية الليبرالية على الدكتاتورية الشيوعية، أواخر القرن الماضي، على أنها انتشار تام لليبرالية ونهاية الصراعات حول العالم، وتاليا نهاية التاريخ. لكن منذ مطلع القرن و"نهاية التاريخ"، اعاد فوكوياما النظر فيما كتبه.

ومنعا للالتباس، يفتتح فوكوياما كتابه بتعريفه الليبرالية في سياقها الكلاسيكي، وهي فلسفة سياسية ترى أن الدولة مبنية على المواطنين كأفراد، على عكس الفلسفات السابقة التي تتشكل بموجبها الدول من تحالف بين رؤساء القبائل والعشائر وتلغي وجود الفرد واستقلاله وحريته في خياراته.

في بريطانيا، أدت الحرب الأهلية في القرن السابع عشر إلى توق بعض المفكرين إلى حاكم قوي يفرض الأمن، لكن هذا الحاكم استبد بأمره وحرم الفرد معظم حريته، فكان لا بد من البحث عن حل وسط بين قوة الحاكم المطلوبة لاستتباب الأمن وحقوق المحكوم، فكانت الليبرالية، التي تمنح الفرد حقوق الملكية المادية والفكرية، وحرية الاختيار في العبادة كما في التصرفات الشخصية الاجتماعية، بما فيها الجنسية، واختيار مكان الاقامة ونوع العمل. الحق الوحيد الذي يتخلى عنه الفرد ويفوّضه لمؤسسات الدولة هو استخدام العنف، فتستخدم الدولة التفويض بالعنف حتى تحمي المواطن من الآخرين ولتحمي الآخرين منه. لكن عنف الدولة قد يؤدي إلى التعسف، وهو ما فرض إقامة مراكز قوى متعددة داخل الدولة يراقب ويحاسب بعضها البعض الآخر.

بعد نهاية الحرب الباردة في العام 1990، انتشرت الليبرالية في العالم وساد السلام بشكل غير مسبوق. لكن البشر حمّلوا الليبرالية أكثر مما تحتمل، فتوقعت الغالبية أن تدر الليبرالية عليهم الأموال والرفاهية. ما حصل، عوضا عن ذلك، هو أن الليبرالية كمنظومة أممية أدت الى الغاء الحدود والعولمة، فهربت بعض رؤوس الأموال الى حيث اليد العاملة الأرخص، وخسرت مجموعات عمالية كثيرة أعمالها ومصادر رزقها، وضعفت الدولة بسبب انعدام قدرتها على اغلاق حدودها لمنع هروب الأموال إلى حيث العمالة الأرخص أو تدفق اللاجئين الذي قدموا يدا عاملة أرخص من المحلية. هكذا اتسعت الفوارق بين الأكثر ثراء والأكثر فقرا في سياسة اسمها نيوليبرالية، وهي تختلف عن الليبرالية الكلاسيكية التي لا تتدخل في سياسات الاقتصاد، بل تنحصر في تحديد الحقوق والواجبات للحاكم والمحكوم.

انتقال الاقتصادات المتطورة من الصناعة إلى المعرفة ساهم بتعميق الأزمة أكثر، وسمح انتشار الفقر بصعود السياسيين الشعوبيين من اليمين الشوفيني المتطرف، الذي طالب بإغلاق الحدود ووقف تدفق اللاجئين والتخلي عن التجارة العالمية، كما من اليسار العالمي المتطرف كذلك، والذي اعتبر أن المعركة هي بين فقراء كل العالم ضد أغنياء كل العالم.

وتسبب غضب الطرفين اليميني واليساري بتراجع الوسط والليبرالية، وتجلى ذلك بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ووصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة.

ويعبّر فوكوياما عن قلقه لأن الغضب العالمي ضد العولمة، خصوصا عند الغربيين، تحول الى تخلٍ عن المبادئ الليبرالية المؤسسة للديموقراطيات الغربية، فصار كل من اليمين واليسار يعبّر عن غضبه ضد الجمهورية ونظامها ومؤسسات الدولة، ويطالب بالانقلاب على هذه المؤسسات بالكامل، وأحيانا اللجوء للعنف لتدمير الدستور والمؤسسات وقوى الأمن والشرطة.

ويطالب اليمين اليوم باستبدال الدولة ومؤسساتها بحكم رجل قوي، سيتحول حتما الى ديكتاتور، كما في المجر، في وقت يطالب اليسار بنسف الدولة بالكامل وتحويلها الى حكم لجان شعبية. كما يتصور كل من الطرفين الآخر على أنه عدو يهدد وجوده، لا مجرد منافس في السياسة يتبارى ضده للفوز بالانتخابات وإقرار رؤية ما أو سياسات في الحكم.

على الرغم من قلق فوكوياما على مصير ومستقبل الليبرالية الغربية والمؤسسات المبنية عليها من اتساع رقعة ونفوذ معادي الليبرالية من اليمين واليسار المتطرفين، إلا أنه يستبعد أن ينجح أي منهما في تقويض الجمهورية الأميركية بسبب القوة الكافية التي تتمتع بها المؤسسات القائمة والتي تحمي الدستور والدولة، مثل الجيش والقضاء والقوى الأمنية.

في الفصول الأخيرة من الكتاب، يتوجه فوكوياما الى كل من الطرفين في محاولة لتوعية كل منهما، فيقول لليسار ألا تناقض بين الأممية والحاجة الى بقاء الدول والحكومات قائمة بحدودها الحالية. ويكتب فوكوياما: "في وقت قد تكون حقوق الانسان شريعة أممية، إلا أن فرضها ليس أمميا لأن فرض القوانين منوط بحكومات ذات حدود جغرافية معينة". ويتابع القول إن "الدول الليبرالية مبررة بالكامل في تمييزها في الحقوق بين المواطنين وغير المواطنين لأن لا موارد أو مسوّغ لهذه الحكومات لفرض الحقوق أمميا"، وإن "كل الأشخاص المقيمين في دولة ما يتمتعون بالحماية القانونية نفسها، لكن المواطنين المشاركين في العقد الاجتماعي وحدهم من يتمتعون بحقوق وواجبات خاصة، خصوصا حق الاقتراع".

أما اليمين الغربي، فينصحه فوكوياما بالتخلي عن عنصريته البيضاء واستبداله بالمواطنية التي ينادي بها. ويقول المفكر الأميركي إنه لو تخلى اليمين عن "سياسة الهوية" لاستقطب الأميركيين غير البيض، ومعظم هؤلاء هم من المهاجرين الجدد ممن يحملون أفكارا اجتماعية واقتصادية محافظة تتوافق مع أفكار اليمين الأوروبي والأميركي، وهو ما يسمح لليمين باكتساح الانتخابات بدلا من التحريض ضد الأقليات واستخدام سياسة التهويل لتحفيز البيض على التصويت.

ويختم فوكوياما كتابه الممتع بالقول إنه لو قيض لكل من اليمين أو اليسار الحكم (وهذا ما حصل جزئيا مع اليمين في فترى حكم ترامب)، فإن التغييرات التي يعد بفرضها لن تتحقق لعدم واقعيتها، بل أن كل من الطرفين سيواصلان الحكم حسب النظام والأعراف السائدة، مع تغييرات طفيفة في السياسات.

الثلاثاء، 9 أغسطس 2022

شعوب عربية قاصرة عن تقرير مصيرها

حسين عبدالحسين

بعد مئة عام بالتمام على إقرار ”عصبة الأمم“ المادة 22 من ميثاقها، والتي نصّبت بموجبها ”الدول المتقدمة“ كسلطات ”انتداب بالنيابة عن العصبة“، وكلفتها بتحقيق ”رفاهية وتقدم لبعض الشعوب“، ما تزال هذه الشعوب، منها ”بعض الجماعات التي كانت تابعة للإمبراطورية التركية“، قاصرة عن حكم نفسها وغير ”قادرة على الوقوف وحدها“، بل أن الدول التي أقامتها سلطات الانتداب لهذه الشعوب تلاشت، وتحولت الى أراض لا قانون فيها، تعيش فيها قبائل متناحرة وفق شريعة الغاب، حيث الحكم للأقوى. 

تقرير المصير حق تكفله الشرائع الدولية، لكنه ليس ضمانة أن الشعوب تعرف كيف تحكم نفسها متى نالت استقلالها، والعراق وسوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية مثال واضح، لا على قصور هذه الشعوب عن حكم نفسها فحسب، بل على عدم إدراكها أنها تعاني من هذا القصور، وقيامها بإلقاء اللائمة في مصائبها على الآخرين، من الغرب الإمبريالي و“عملاء الداخل“ إلى إسرائيل والماسونية. 

الدولة العراقية اندثرت منذ الانقلاب الذي أطاح بحكم الأسرة الهاشمية في العام 1958 إذ هي لم تعد دولة قائمة على المؤسسات، يناقش فيها البرلمان المنتخب شؤون إدارتها وتنمية اقتصادها، وتحولت إلى أجهزة عسكرية واستخباراتية تحكم بالحديد والنار، وتدير ماكينة دعاية إعلامية، وتسعى لتشتيت انتباه قصورها بشتم الاستعمار وسايكس بيكو وإسرائيل. ومع تضخم عائدات النفط، استخدم صدام حسين الأموال لتمويل جنونه العالمي والإقليمي، ولبناء جيش جرار اجتاح به الكويت، ثم انهار، وعاش العراق تحت حصار ومجاعة.

ولأن البعض اعتقد أن صدام هو مشكلة العراق، لم تؤثر الإطاحة به كثيرا، إذ أن العراقيين الذين خلفوه في السلطة لم يختلفوا عنه في جهلهم فلسفة الحكم، ومعنى الدولة، وأهمية القانون فيها، وكيفية عمل المؤسسات. ومع أن الأمم المتحدة وأميركا تركت للعراقيين دستورا، ركيكا وإنما لا بأس به، وقانون انتخابات نسبي عصري جعل من العراق دائرة واحدة، إلا أن نيل العراقيين استقلالهم من أميركا في العام 2011 سمح للحكام الجدد بقيادة البلاد نحو الهاوية مجددا، فأدار رئيس الحكومة السابق نوري المالكي — والذي تحول إلى كابوس يطارد العراق حتى اليوم — شبكة من الفساد والمحسوبية القبلية، فدمر الجيش، الذي انهار في ساعات إمام ميليشيا داعش في الموصل في 2014، وعبث بالقانون الانتخابي، ووضع المصرف المركزي في خدمة نظام إيران، وذاع صيت ابنه أحمد كأحد أثرى أثرياء بغداد، فيما المالكي أمضى سني نفيه خارج العراق يبيع مسابح أمام مقام السيدة زينب في دمشق.

ولم يكن المالكي وحيدا في فساده أو ارتزاقه لدى إيران، ولم يكن وحيدا في جهله شؤون الحكم، بل أن أبرز معارضيه، مقتدى الصدر، ثبت أنه يعاني من نفس المشاكل، فالصدر لا يفهم معنى الحريات الفردية ولا المؤسسات، بل هو يخال العراق قبائل، وأن وحدة القبائل وتبنيها رأي واحد هو الوطنية. 

وبسبب ضحالته الفكرية وانعدام خبرته السياسية، برز الصدر كأكثر زعيم عراقي شعبوي يحب الأضواء وإثارة الضوضاء، غالبا بقيامه باتخاذ خطوات مفاجئة وضخمة، ففي يوم يشكل ميليشيا جيش المهدي، وفي اليوم التالي يحلّها وينقلب على الميليشيات، ثم يرسل بلطجيته لممارسة العنف ضد متظاهري ثورة تشرين، ثم يتحالف مع الثوار، ثم يفوز بأكبر كتلة نيابية، لكنه يأمر كتلته بالاستقالة، فيفتح الباب أمام أزلام إيران الخاسرين للفوز بمقاعد الكتلة الصدرية، وهي خطوة يبدو أن مقتدى ندم على القيام بها، فأرسل مناصريه لتعطيل الدولة برمتها باحتلالهم مبنى البرلمان. 

ثم أطل الصدر على العراقيين بمطالب معقولة، وإن لا يمكن معرفة متى ينقلب ضدها. أما مطالب الصدر، فتتضمن حل البرلمان، وإجراء انتخابات، وتراجع المحكمة العليا عن قرارها غير الدستوري، والذي حوّل حكم الغالبية البسيطة إلى حكم غالبية الثلثين، وهو ما يناقض فسلفة الحكم الديموقراطي لأن الحكم يكون بالغالبية البسيطة وتعديل الدستور بالثلثين.

ومثل في العراق، كذلك في لبنان، الذي كان استقلاله أفضل حالا حتى العام 1969، يوم قرر المصري جمال عبدالناصر التعويض عن هزيمته أمام إسرائيل بإطلاقه حرب العصابات الفلسطينية ضدها، وتم اختيار لبنان كمركز للميليشيات الفلسطينية، ما قوّض سيادة دولة لبنان واقتصادها حتى اليوم مع رفض ”حزب الله“، آخر الميليشيات المتبقية، التخلي عن حكمه لبنان بقوة سلاحه.

ومثل الصدر في العراق، يعاني زعيم ”حزب الله“ حسن نصرالله من ضحالة هائلة في علومه السياسية والاقتصادية، فلا هو يفهم فلسفة الدول ولا الليبرالية ولا الديموقراطية، ولا هو يؤمن بحكم القانون المدني والقضاء، بل يعيش نصرالله في العصور الوسطى حيث الرأي هو دائما رأي القبيلة لا الفرد، وحيث الوطن يعني إجماع القبائل، أو فرض القوي رأيه عليها وباسمها، وحيث العدالة هي القضاء العشائري أو الاسلامي. 

أما الطامة الكبرى فهي أن نصرالله لا يفهم ارتباط السياستين الخارجية والدفاعية بشؤون الداخل والاقتصاد، ويعتقد أنه يمكن الفصل بينهما وتسليم شؤون الداخل لمؤيديه من زعماء الطوائف واحتكاره شؤون الخارج. لا يعرف نصرالله أن السياستين الخارجية والدفاعية — ومعهما الأرض — هي أدوات في خدمة الاقتصاد ورفاه المواطنين، وأن الشعوب تستميت من أجل مصالحها، ولا تموت في سبيل حماية مشاعرها وعواطفها المسماة كرامة وعنفوان.

فلسطين مثل العراق ولبنان: شعب لا يعرف كيف يحكم نفسه أو يدير شؤونه أو يتصرف بين الأمم. اتفقت القيادة الفلسطينية مع اسرائيل على سلام مقابل أجزاء من الأرض وسيادة على مراحل. منذ العام 1993، كلّما التزم الاسرائيليون مرحلة من الاتفاق، قامت حماس بقتل إسرائيليين هنا أو هناك وأظهرت أن لا سلطة للسلطة الفلسطينية، ففشلت عملية السلام وتحولت السلطة الفلسطينية إلى شرطي محلي يغرق في الفساد أكثر منه في إقامة مؤسسات فلسطينية تضمن استمرار الدولة بعد موت الزعيم.

الحكم الذاتي الفلسطيني بقي بدائيا وبحاجة إلى تطوير كبير في مساحات واسعة لا ترتبط بالسيادة. مثلا، قضاء السلطة الفلسطينية متهالك لا قيمة له، ويلجأ الناس غالبا إلى القضاء العشائري المتخلّف. أما الانتخابات الفلسطينية، فهي لم تجر منذ العام 2006. الاقتصاد الفلسطيني كذلك يعاني من شعبوية الحكام وشعارات مقاطعة إسرائيل. كان يمكن للفلسطينيين في الضفة وغزة دعوة العرب إلى السياحة والاستثمار عندهم، بالاتفاق مع إسرائيل، لكن الهوس بالمقاطعة والانتقام من إسرائيل والسعي لتدميرها واستعادة كل الأرض التي تقوم عليها، كلها عوامل حرمت الفلسطينيين فرصة بناء اقتصاد معرفة وخدمات لإقناع العالم أن للفلسطينيين قدرة على تسلم سيادة وإدارة دولة.

الشعوب العربية التي كانت خاضعة لانتداب كانت مهمته إعدادها لتحكم نفسها أثبتت أنها لم تكن قادرة على حكم نفسها قبل الانتداب، ولا بعده. هي شعوب تنعدم لديها الثقافة المطلوبة لبناء دول حديثة، وفي طليعتها انتشار مبادئ الحرية الفردية والديموقراطية بين الناس قبل الحكام، لأن الحكام ليسوا استثناء، بل هم انعكاس لناسهم والثقافة السائدة. لا مؤسسة، ولا نادي، ولا منظمة واحدة في هذه الدول العربية يمكن الإشارة إليها كقصة نجاح ونموذج يحتذى في الحكم. 

أما السؤال فهو: كيف تتسلم السيادة والحكم شعوب لا يمكنها أن تقدم نموذجا واحدا عصريا وناجحا في الحياة العامة؟ هي شعوب قاصرة، ولسوء حظها لم تعد ”الدول المتقدمة“ مهتمة بانتداب أو وصاية، بل أن هذه الدول العربية تستجدي الغرب ليسعفها في قرض لشراء القمح من هنا أو تدخل من هناك، وعندما يتدخل الغرب، تثور ثائرة هذه الشعوب العربية عليه، وتقتله بدلا من أن تشكره. هي مشكلة عربية فادحة تبدو حلولها معدومة.

الثلاثاء، 2 أغسطس 2022

الفلسطينيون بعد محمود عباس

حسين عبدالحسين

في بعض القرى اللبنانية تنتشر صور لرئيس البرلمان نبيه بري مكتوب عليها "يا ويلنا من بعدك يا نبيه". وضع اللبنانيين، بمن فيهم أنصار بري، هو في الويل أصلا. لكن في الضفة الغربية، التي تحكمها السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عبّاس، لم تبدأ بعد عملية الانهيار التي انطلقت في لبنان قبل 3 أعوام. الضفة لا تزال تعيش في زمن الهدوء النسبي الذي يسبق العاصفة، وهي عاصفة من المرجح أن تندلع لسببين: الأول اقتصادي والثاني اقتراب عباس من سن التسعين.

في الشق الاقتصادي، بلغت ديون السلطة الفلسطينية من المصارف المحلية 2,5 مليار دولار، وهو ما دفع المصارف إلى وقف إقراض السلطة حتى تعيد أموالها، وهو ما يعني أن إيداعات الفلسطينيين قد تضيع على غرار ما حصل في لبنان. الاتحاد الأوروبي، بدوره، حاول المساعدة، فقدم 1,4 مليار دولار للاقتصاد الفلسطيني، ولكنه مبلغ ضئيل بالنسبة لحجم الأزمة. هذا من الناحية الاقتصادية.

أما سياسيا وأمنيا، ومع تمنياتنا لعباس بالعمر الطويل، إلا أنه بلغ عامه الثامن والثمانين، وهو ما يعني أنه قد يغادر الفلسطينيين في أية لحظة بدون أن يترك وراءه مؤسسات قادرة على اختيار خليفة أو إدارة السلطة بعده.

حتى قبل موت عباس، بدت السلطة وكأنها دخلت مرحلة احتضار في رحلتها إلى التلاشي، على طراز نظيراتها اللبنانية والعراقية والسودانية. في جنين ونابلس شمال الضفة الغربية، تراجعت قدرة السلطة وأجهزتها الأمنية على فرض القانون والنظام، فتمددت الميليشيات المعارضة. وكان تشييع القيادي في حماس وصفي قبها أظهر حشدا كبيرا لمقاتلي حماس والجهاد الإسلامي، وهو ما أثار غضب عباس ودفعه لإقالة كل مسؤولي أجهزة السلطة الأمنيين المكلفين المنطقة الشمالية. 

خطوة عباس لم تؤد إلى أي تغييرات على أرض الواقع، فدفع ضعف السلطة إسرائيل إلى زيادة نشاطاتها لضبط الوضع في جنين واعتقال المخلين بالأمن. وفي إحدى المواجهات التي خاضها الجيش الإسرائيلي في مخيم جنين، سارعت مراسلة الجزيرة شيرين أبو عاقلة لتغطية عملية تبادل إطلاق النار بين الإسرائيليين وفلسطينيين، ما أدى إلى مقتلها أثناء قيامها بواجبها الإعلامي.

أما جنوب الضفة الغربية فليس أفضل حالا من شمالها، فالأمور في الخليل، أكبر المدن الفلسطينية التي يبلغ عدد سكانها 800 ألف نسمة، لا حكم للقانون، ويعاني السكان من انفلات الأمن، وبلطجة المسلحين في الشوارع، والاشتباكات المتكررة بين مقاتلي العشائر. وفي غياب القانون في الخليل، صار الناس يلجؤون إلى "القانون العشائري" لوقف الثأر بين المتحاربين. 

عباس لا يزال حيا والاقتصاد الفلسطيني يقارب الانهيار التام والأمن غير مستقر. أما السبب الأرجح فلا يرتبط بإسرائيل إذ يمكن المقارنة بما كانت الأوضاع عليه في زمن كان سلام فياض في رئاسة الحكومة. في زمن فياض، كانت إسرائيل كما هي اليوم، لكن الأمن كان مستتبا والاقتصاد ينمو. أما الآن، فالانهيار سببه في الغالب ضعف عباس وسلطته، التي قاربت التلاشي، وانعدام قدرة الفلسطينيين على إقامة مؤسسات حكم ذاتي غير الشخصيات الأمنية التي تتناحر على حكمهم والاستيلاء على مواردهم، على طراز اللبنانيين والعراقيين وعرب آخرين.

عباس كان تذرع بأن إسرائيل لم تسمح باقتراع الفلسطينيين في القدس الشرقية، فنسف انتخابات المجلس التشريعي والرئاسة، التي كان سيخسرها حتما، واستعاض عن الانتخابات بسلسلة تعيينات في "منظمة التحرير" وضع بموجبها المدعو حسين الشيخ في موقع خليفة له بعد رحيله.

لكن الشيخ لا بلطجية لديه، مع أن تقارير تشير إلى سعيه الى تسليح أزلام يعينونه على الامساك بالسلطة بعد عباس. 

وكان شقيق الشيخ تعرض إلى عملية قتل بسبب خلاف مروري في الشارع، لكن الألسنة الفلسطينية تناقلت إشاعات مفادها أن مقتل شقيق الشيخ كان مدبرا، وأنه كان رسالة للأخير للتخلي عن طموحاته في خلافة عباس. ويعتقد مراقبون أنه يمكن للمنافسين اغتيال الشيخ نفسه في حال لم يذعن لمطالبهم ويتنحى بعد موت عباس. 

من يخلف عباس ان لم يكن الشيخ؟ الإجابة الأكثر واقعية هي اندلاع حرب أهلية في الضفة الغربية يكون أبطالها أركان المؤسسات الأمنية من أمثال توفيق الطيراوي وجبريل رجوب وعبدالقادر التعمري وغيرهم. والأرجح أن يتعذر الحسم بين فصائل السلطة الأمنية، وأن تنفلت الأمور من بين أيديهم في جنين ونابلس والخليل، وهو ما يسمح لحماس والجهاد الإسلامي بالظهور وإثبات الحضور والسيطرة على مخيمات أو مناطق أو أحياء أو بلدات، ثم انخراط حماس والجهاد في الحرب الأهلية الفلسطينية المتوقعة، وقد يؤدي لانتصار حماس وسيطرتها على الضفة كما غزة، وهو سيناريو قد يدفع الإسرائيليين إلى حرب شاملة لمحاولة استباق سيطرة حماس ومنعها من ذلك. 

وحرب من هذا النوع تقلق الإسرائيليين لأنها قد تؤدي إلى وقوع إصابات في صفوفهم، وتفرض تورطهم أكثر فأكثر في الضفة وشؤون الفلسطينيين، وهو ما يؤدي إلى تأجيج مناطق فلسطينية ملتهبة أصلا. 

لا قدرة لعدد كبير من الشعوب العربية، كالفلسطينيين والسوريين والعراقيين واللبنانيين، على إقامة دول وحكومات وإدارتها وحكمها وتداول السلطة فيها. هذه الشعوب لاتزال قاصرة، وهي تعزو قصورها دائما إلى أسباب خارجية: إما الامبريالية أو إسرائيل أو من يسمونهم العملاء العرب، وكل هذه أعذار أقبح من الذنوب. 

هذا الخطاب العربي الذي يتنصل من مسؤولية بناء الدول وإدارتها وإلقاء اللائمة على الغريب هو في أساس فشل هذه الشعوب العربية في إقامة دول قابلة للحياة، وهو خطاب لا يبدو أنه في طريقه للتبدل في المستقبل القريب، ما يعني أن لا بصيص أمل، ولا مستقبل، فقط شقاء وفقر والمزيد من الحروب والدماء.

Since December 2008