الثلاثاء، 27 ديسمبر 2022

جنود الرب في دولة حزب الله

حسين عبدالحسين

انشغل اللبنانيون بسطوع نجم مجموعة جديدة من الناطقين باسم الله، مسيحيين هذه المرة، يسمون أنفسم جنود الرب. التقارير اللبنانية تشير الى أن نواة المجموعة تشكلت من مساجين سابقين عملوا حراسا لمصارف لحمايتها من غضب اللبنانيين الذين أحرقوا وكسّروا مصارف بسبب افلاسها وضياع جنى عمر كثيرين. 

كما تشير التقارير الى أن عديد المجموعة يصل الى 300 عنصرا، يستعرضون أعدادهم في الشوارع من حين لآخر وهم يرتدون قمصانا سوداء رسموا عليها صليبا ذي أجنحة. ويبدو أن جنود الرب هم الذين تصدوا، قبل عام، لمتظاهري حزب الله الذين عرّجوا على حي عين الرمانة المسيحي في طريق عودتهم من تظاهرة ضد العدالة لضحايا انفجار المرفأ، فاندلعت اشتباكات مسلحة أدت لوقوع قتلى.

على أن أبرز وجوه ”جنود الرب“ يرفضون وصفهم بميليشيا، ويصرّون أنهم مجموعة دعوية غير مسلحة. لكن التنظيم شبه العسكري والقمصان السود تشبه بدايات صعود ميليشيات النازية والفاشية في أوروبا، وحتى بدايات صعود أحزاب لبنانية تمثلت بالفاشية وتسمت بأسمائها، مثل ”الكتائب اللبنانية“ التي بدأت رحلتها كمجموعة قبضايات تشتبك بالعصي والحجارة مع خصومها، ثم تحولت الى ميليشيا ساهمت في تدمير لبنان أثناء حربه الأهلية. 

هذه المرة، خصوم ”جنود الرب“، أي ”حزب الله“ الشيعي المسلم، أقوى بما لا يقاس من نظرائه المسيحيين، والأرجح أن لدى أجهزة استخبارات الحزب ومخابرات الجيش اللبناني، التي يسيطر عليها الحزب كذلك، ملفات وصور وأسماء جنود الرب كلهم، وقد يكون عدد المخبرين بين صفوف ”جنود الرب“ أكثر من الجنود أنفسهم.

قد يلجأ ”حزب الله“، على عادته، الى تضخيم خطر ”جنود الرب“ لأسباب متنوعة، غالبا لاثارة الرعب في صفوف مناصريه الشيعة، كما لتبرير الابقاء على دويلته والميليشيا. وسبق لـ ”حزب الله“ في الماضي أن قام بتضخيم خطر داعش السنية في لبنان للأسباب نفسها ولتبرير اشتراكه في الحرب التي دمرت مدن السوريين على رؤس ناسها. وقام فعلا نوّاب سابقون بادعاء أن الولايات المتحدة تكدس الأسلحة في بكركي، في واحدة من نظريات المؤامرة الكاذبة الهادفة الى تلطيخ سمعة المسيحيين المعارضين لاستمرار وجود ميليشيا حزب الله.

جنود الرب هم "مجموعة أولاد" حسب التعبير اللبناني. على أن ما يخيب الآمال في هذه المجموعة هو كمية الضحالة التي تعاني منها. حتى أعتى مجموعات الزعران والقبضايات والميلشيات الفلسطينية واللبنانية التي تشكلت في لبنان على مدى القرن الماضي قدمت أفكارا تنظيمية أفضل، وان كانت أفكارا رديئة وبائسة ومستوحاة من تفاهات راحلين من أمثال المصري جمال عبدالناصر والسوري ميشال عفلق واللبناني انطون سعادة. هذه المرة، لا يقدم جنود الرب فكريا غير الرثاثة التي يعزونها الى نصوص دينية. 

ولأن "جنود الرب" أضعف بكثير من مواجهة "حزب الله"، فهم راحوا يستقوون على أضعف فئات المجتمع، خصوصا من مثليي الجنس. 

واستخدام الدين ذريعة للعنف والحرب هو سمة المجتمعات السابقة للحداثة. وفي الفكر السحيق أن من علامات التطويب الإلهي لملك ما هو انتصاره على خصومه. لذا حمل الملوك غالبا أسماء تفيد النصر، مثل سلوقس نقفور (اسمه يعني المختار المنصور) مؤسس الامبراطورية السلوقية الاغريقية في ايران والعراق والمشرق، والقادة في التاريخ الاسلامي كالحجاج (الحجة) الثقفي والمختار الثقفي (واسمه يعني المختار المنصور كذلك)، ومثلهم الخلفاء ممن حملوا ألقاب المنصور والمنتصر. كما صكّ غالبية ملوك الاغريق والرومان نقودهم باستخدام نقش النسر نايكي (نفس اسم الماركة الرياضية اليوم) وهو اله النصر الاغريقي، ومنه ينحدر رسم النسر الذي تتخذه دولا متعددة شعارا لها.

وفي الماضي، كانت الرهبنات جمعيات مقاتلة كذلك، وبها ارتبطت أساطير متعددة لأفراد آثروا الموت على التخلي عن دينهم، وفي طليعة هؤلاء سيرجيوس وباخوس. وسيرجيوس، أو جورج أو سركيس، كان يحمل سيفا أو صليبا ويمتطي حصانا، وتحدث من قبره بعد موته وقام بمعجزات، وكانت عبادته واسعة الانتشار بين العرب، حتى أن رسوما في الأردن تظهره وهو يمتطي جملا ويحمل صليبا. حتى القديس سمعان العمودي، الأكثر شعبية في المشرق والأناضول، تروي الأساطير المختلفة أنه نزل أحيانا عن عموده حيث كان يعيش متنسكا، للاشتراك في القتال مع هذه الجهة أو تلك.

لكن هذه الصور القتالية الدينية تابعة للقرون الوسطى. مع انتشار الحداثة، تبنت التنظيمات المسيحية أشكالا أكثر علمانية، فحزب الكتائب — الذي تشكل منتصف القرن الماضي — لم يعلن هوية مسيحية، بل استعاض عنها بقومية، وان يمينية دينية، فكان شعاره ”الله الوطن العائلة“. 

والتدين كان سبق أن طال ”حزب البعث العربي الاشتراكي“ بفرعه العراقي، الذي انقلب من علماني الى ديني متطرف، فتنظيم ”الدولة الاسلامية في العراق والشام“ (المعروف بداعش) تشكّل على أيدي بقايا أجهزة استخبارات صدّام ممن أبدلوا بذّاتهم الحزبية الزيتونية بسوداء، واستبدلوا شواربهم بلحى. لكن تهور هؤلاء العراقيين في استخدام العنف المطلق أودى بداعش كما سبق أن أودى بالبعث. 

موجة الأصولية الدينية في الشرق الأوسط بدأت شيعيا في ايران مع الثورة الاسلامية في 1979، وسنيا في السعودية مع استيلاء جهمان العتيبي على الحرم المكي في العام نفسه. في السعودية، قضى ولي العهد محمد بن سلمان على التطرف الديني، واعاد البلاد الى الاسلام المعتدل. أما ملالي طهران، فلم يفعلوا ذلك، وهو ما أدى لانفجار شعبي في وجههم على شكل تظاهرات شعبية عارمة ضد الحجاب والتدين، وهي تظاهرات تحولت للمطالبة بالاطاحة بالنظام الاسلامي بأكمله. 

أما سبب وصول الأصولية الدينية الى سنة العراق ومسيحيي لبنان فسببه الخواء الفكري والاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يعم العراق والمشرق على مدى القرن الماضي، اذ في غياب الحكمة، يسود العنف ويختبئ خلف الدين، الذي يفترض أن يكون مصدر السلام والسكينة.

قد يكون الأفضل لو يدرك ”جنود الرب“ في لبنان أن انتصارهم على ”حزب الله“ لا يكون بالعنف، بل بالحكمة والعلم، وتمكين المسيحيين من الصمود في العراق والمشرق فكريا، واقتصاديا، واجتماعيا، فمن انتصر في عقله وروحه لا ينهزم في جسده، أو هكذا علّم يسوع أتباعه يوم علّقوه على خشبة.

الثلاثاء، 20 ديسمبر 2022

السعودية لسلام مع إسرائيل والفلسطينيون لكفاح مسلح

حسين عبدالحسين

سجّل الموقع الإنكليزي لقناة العربية السعودية سابقة بإجرائه مقابلة مع رئيس حكومة إسرائيل المنتخب بنيامين نتانياهو. ومع أن موقع القناة حرص على اخفاء هوية السائلين، ربما لحمايتهم من العواقب قانونية في الدول العربية التي تطبق القوانين البائدة لمقاطعة إسرائيل، إلا أن مقابلة وسيلة إعلام سعودية لرئيس حكومة إسرائيلي يؤشر الى رغبة سعودية في التوصل لسلام مع الدولة العبرية. وفي ختام المقابلة، تمنى نتانياهو الموفقية للسعودية.

حاول محاورو نتانياهو معرفة موقفه من مبادرة بيروت العربية للسلام، والتي تقضي بانسحاب إسرائيل من كل الأراضي العربية، أي الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان السورية، مقابل سلام شامل بين كل حكومة عربية ودولة إسرائيل. يوم أقرّت جامعة الدول العربية بالإجماع في 2002، نسف محور الرفض والشقاء والممانعة المبادرة بتضمينها بند عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى إسرائيل، لا إلى فلسطين المزمع قيامها. وربما لعلمهم أنها ولدت ميتة، سأل صحفيو العربية نتانياهو إن كان يوافق على اعتبار المبادرة منطلقا لمفاوضات سلام جديدة، وذكّروه أن السعودية كررت أنها لن توقع سلاما قبل قيام دولة فلسطينية.

أبدى نتانياهو مرونة عالية، واعتبر كل المواضيع، مثل ترسيم الحدود مع الفلسطينيين أو مع لبنان، تفاصيل صغيرة. المهم، حسب نتانياهو، هو اعتراف الفلسطينيين بدولة إسرائيل. لكن "منظمة التحرير الفلسطينية" سبق أن اعترفت بإسرائيل. 

ما لم يقله نتانياهو صراحة هو أن الاعتراف الفلسطيني الذي تنشده إسرائيل من الفلسطينيين، والعرب عموما، هو الاعتراف بأن إسرائيل دولة يهودية، أو أن السيادة تبقى في أيدي اليهود في دولة إسرائيل. هذا هو الهدف الأساس للصهيونية أصلا: سيادة يهودية وعدم تسليم مصير اليهود لأي كان من غير اليهود بسبب تجارب الاضطهاد التي عاشها اليهود على مدى الألفيتين التي فصلت بين طرد الرومان لهم من القدس وحوض الأردن، وإعلان قيام دولة إسرائيل في 1948.

اعتراف العرب بالسيادة اليهودية يعني أن يتخلى العرب عن حلم أن يصبح عدد العرب الإسرائيليين، الحاليين واللاجئين الذي يطالب الفلسطينيون بعودتهم، أكثرية سكانية في إسرائيل. وقتذاك يمكن للعرب انتزاع السيادة في إسرائيل من أيدي اليهود، وتحويلها الى دولة فلسطين. ربما يعتقد بعض العرب أن حلمهم هذا سر، لكن إسرائيل تعرفه منذ يوم تأسيسها، وتعتبر أن لا سلام بدون اعتراف الفلسطينيين بالسيادة اليهودية، وأنه لا يمكن للفلسطينيين استخدام عودة اللاجئين كحصان طراودة لتقويض هذه السيادة.

بعض العرب من غير الفلسطينيين، كما في السعودية، يبدو أنهم صاروا يدركون عبثية الإصرار على سيادة عربية في إسرائيل تتحكم باليهود، وصاروا يعرفون أن العناد الفلسطيني لا يؤدي إلا إلى تأخير العرب، واعاقة نموهم اقتصاديا، وفكريا، واجتماعيا فحسب، بل يؤخر اندماجهم في الاقتصاد العالمي وسباقهم للحصول على حصة من هذا الاقتصاد المبني على المعرفة.

الفلسطينيون وحدهم لا يبدو أنهم يعرفون، أو يكترثون، لتخلّف العرب عن العالم. ويبدو أن هؤلاء يصرّون على ما كان أساسيا في الماضي وصار اليوم ثانويا، مثل ملكية الأرض والسيادة عليها، في وقت صارت اقتصادات المعرفة، التي لا تعرف حدودا، هي سر العيش الكريم للشعوب.

وفي وقت كانت السعودية تحرك مياه السلام الراكدة، كان الفلسطينيون يعيشون أوهام الوحدة العربية والالتفاف العربي المزعوم حول فلسطين في انتصارات منتخب المغرب في كأس العالم لكرة القدم في قطر.

ولأن الفلسطينيين يعيشون في عالم أوهامهم، أظهرت استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أن 55 في المئة منهم ترى أن مواجهة إسرائيل عسكريا والانتفاضة هما الحل الوحيد لكسر الجمود القائم، فيما أعرب 66 في المئة من الفلسطينيين عن معارضتهم حل الدولتين، على عكس ما تعلن منظمة التحرير والسلطة الفلسطينيتين. وكان لافتا، أنه على عكس ما يعلن فلسطينيو أميركا، الذين ينصبون أنفسهم ناطقين باسم الفلسطينيين، يرفض 71 في المئة من فلسطينيي الضفة وغزة دولة واحدة ثنائية القومية للعرب واليهود.

رفض غالبية الفلسطينيين لحل الدولتين وللدولة الواحدة الثنائية القومية، وتأييدها للكفاح المسلح والانتفاضة ضد إسرائيل، كلها تشي بأن الغالبية الفلسطينية تتمسك بالموقف الفلسطيني الأقدم، والقائل بمحاربة اليهود حتى طردهم واسترداد "كامل التراب" من النهر إلى البحر. 

من حق الفلسطينيين أن يتمسكوا بتدمير إسرائيل عسكريا وإقامة دولة فلسطين على "كامل التراب"، فهذا رأيهم وهذا مستقبلهم. لكن ليس من حق الفلسطينيين الطلب إلى باقي العرب والعالم الاصطفاف خلف مشروعهم الواهم، الغارق في الموت والدم والأسى، بلا نتائج واضحة ولا جدول زمني منظور. ما يريده هؤلاء الفلسطينيون هو صراع أجيال.

لكن من حق العرب أيضا أن لا يشاركوا الفلسطينيين هذه الأوهام الانتحارية، وأن يطلبوا خططا يمكن تحقيق أهدافها في فترة قصيرة، لا على مدى عصور، لأن الجسم العربي سيبقى مريضا طالما بقيت الأمور على ما هي عليه، وهو ما يضع العرب، مكرهين، أمام خيارين: إما البقاء في الشقاء، أو بتر العضو المريض للتعافي بدونه.

مصر والأردن والبحرين والإمارات والسودان والمغرب كلها بترت العضو المريض باختيارها مصلحتها القومية على أوهام وأحلام تدمير إسرائيل. السعودية، بدورها، تبدو ماضية في الطريق نفسه. 

طبعا لا تسعى السعودية لسلام مع إسرائيل لتؤذي الفلسطينيين، لكنها تسعى لسلام هو في مصلحة السعوديين، فإن انتصح الفلسطينيون ووافقوا على حلول معقولة تنهي شقائهم، وإن بدون سيادتهم على "كامل التراب"، يمكن انتظارهم أسابيع أم أشهر. أما إذا تمسكت الغالبية الفلسطينية بصراع الأجيال، كما هو الوضع حاليا، فلكل طريقه وخياراته التي تناسب مصالح ناسه وشعبه.

الثلاثاء، 13 ديسمبر 2022

العقل العربي

حسين عبدالحسين

"العقل العربي"، كتاب صدر في 1973 بقلم عالم الاجتماع اليهودي المجري رفائيل باتاي، الذي يختلط اسمه لدى بعض العرب مع رفائيل بطّي، والد الراحل فائق بطّي، السرياني الأرثوذكسي وأحد مؤسسي الصحافة اليومية العراقية. إبان حرب العراق، وزّع الجيش الأميركي على جنوده الكتاب، فاعترض البعض، مؤكدين أن اعتبار كل العرب عقل واحد، أو شخصية واحدة يعد تعميما وتبسيطا وعنصرية.

لكن علم الاجتماع مبني على تحديد طباع وتصرفات يشترك فيها أفراد المجتمع الواحد، وهذه الطباع معظمها اجتماعية، كالعادات والتقاليد. علماء كثيرون، كعالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي، دأبوا على فهم مساهمة الجماعي في صناعة الفردي. مثلا، يشعر الفرد بالطرب عند استماعه لأغان أو موسيقى من تراثه ولكن لا تطربه موسيقى شعوب لا ينتمي إليها. كذلك الأمر في خيارات المأكل والملبس وبعض العادات، كالصبر والانفعال، أو احترام الحيز العام أو عدمه. هذه خيارات فردية متأثرة بشخصية جماعية وعاداتها وطبائعها.

في كأس العالم لكرة القدم في قطر وبلوغ منتخب المغربي نصف النهائي، تجلّى عقم العقل العربي في الآفات التالية:

أولاً، عقدة النقص، والتي يستحضرنا فيها القول التالي للعزيز السوري الراحل صادق جلال العظم: "لقد تم صنع العالم الحديث دون مشاركة العرب أو حتى استشارتهم.. أُدخِلوا في نسيج العالم الحديث عنوة وإقحاماً وإلحاقاً. هذه الحقيقة هي مصدر العقدة النفسية الهائلة التي يعاني منها الفكر العربي". 

عقدة النقص هذه بدت جلية في حاجة العرب للظهور باستضافتهم بطولة رياضية يحسدونها وهم ليسوا منها، فتصرفوا كحديثي النعمة، وقاموا بشرائها واستضافتها لتعزيز شعورهم الذاتي أنهم كباقي الشعوب، فيما الواقع هو أن كرة القدم العربية تعاني من غياب مدارس وأكاديميات تنتج أجيالا من اللاعبين والمدربين والمنتخبات، على الرغم من "فلتات الشوط" بين البطولة والأخرى، على غرار منتخب السعودية أو المغرب أو تونس.

وانتصار المغرب حصل غالبا على أيدي أوروبيين من أصول عربية. المغربي الذي سجل ركلة الجزاء الحاسمة أشرف حكيمي هو من مواليد مدريد، ويلعب في نادي باريس سان جيرمان الفرنسي، وكذلك عدد كبير من اللاعبين المغاربة الذين لم يصقلوا مواهبهم في الدوريات، ولا في الأكاديميات العربية، بل في نوادي أوروبا. 

ثانياً، حب التباين للظهور. في العالم الذي صنعه الغرب وتعيش فيه الدول العربية كمستهلكة ولا تساهم في صناعة الأفكار ولا العلوم، إلا فيما ندر، يشعر بعض العرب أن عليهم التباين عن باقي العالم لإظهار شخصيتهم الفريدة وهويتهم. المشكلة هنا أن الفرادة التي يقدمها العرب قروسطوية تتضارب مع مفاهيم الحداثة وعصر الأنوار، خصوصا لناحية الحرية الفردية. 

لا ترى هذه الفئة من العرب أن تفوق الشعوب مبني على إطلاق عنان الحرية الشخصية والمبادرة الفردية. يعتقدون أن كل أمة، عربية أو فارسية أو غربية، هي جسد واحد متناسق يتطابق فيه الأفراد في الآراء والأذواق. المجتمع الغربي، حسب الاعتقاد العربي، منحل ويتبنى المثلية الجنسية ويحاول فرضها على باقي الشعوب. 

من نافل القول، أن الغرب ينقسم حول المثلية بين مؤيد ومعارض، وهو لا يشجع عليها، بل هو يشجع على الحرية، أي حرية تقبّل الخيار الجنسي للمثليين كما غيرهم. هكذا، تتحول مطالبة الغرب لقطر باحترام حرية المثليين إلى "فرض المثلية" على مجتمع عربي يخال أن المثلية غريبة عنه، وكأن أبو نؤاس، وخمرته، وغلمانه بدع يسعى الغرب لإدخالها على العرب.

وهكذا يتحول القمع إلى تراث عربي، وينغمس بعض العرب في صياغة قواعد سطحية، مثل أن "حرية الفرد تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين"، وكأن الحرية كمية محددة يتم تقاسمها. ثم يتباهى هؤلاء العرب أن قطر فرضت على العالم احترام التقاليد العربية، وكأنهم لا يدرون أن الصورة التي قدمتها قطر للعالم هي أن القمع هو تقليد عربي.

هذا لا يعني أن التقاليد العربية مصدر خزي، بل على العكس تماما. فبين العرب محبة وألفة وكرم ضيافة قلّ مثيلها بين شعوب العالم. وللعرب تراث ثقافي وموسيقي جميل، ومآكل وملابس واختراعات، كالقهوة والكاميرا، وهي القُمرة التي اكتشفها عرب الأندلس.

وبدا جميلا لما ارتدت الشعوب غير العربية الغترة والعقال، الزي العربي، على ألوان أعلام بلدانها، وكان يمكن لقطر إظهار الكرم العربي بالحرص على أن يتصرف زوارها وكأنهم في بيتهم، وأن يمارسوا مثليتهم أو غيرها، لا أن يتم فرض القيود — التي يفرضها العرب على أنفسهم — على زوار قطر. ويمكن استعادة أمجاد الأندلس بمحاولة تكرار حرية ناسه، ومساهماتهم الفكرية والعلمية للبشرية، لا التمسك بالفتح، والسيف، والحرب، والقمع وكأنها هي التراث العربي.

ثالثاً، النكاية. بسبب الشعور بالدونية، يعتقد بعض العرب أن العالم المتقدم يعاديهم، ويستهدفهم، ويسعى لإعاقة تقدمهم. عربية في أميركا كانت تشاهد نفس القناة التي كنت أشاهد مباراة المغرب وإسبانيا عبرها، قالت إن معلقي القناة التزموا الصمت التام بعد تسجيل حكيمي ركلة الجزاء التي أهلّت المغرب لربع النهائي (على اعتبار أنهم حاقدون على العرب والمسلمين فيما انتصار المغرب أسكتهم). في الواقع، لم يصمت المعلقون الأميركيون، بل راحوا يشيدون بنجاحات حكيمي المنحدر من عائلة متواضعة، إذ كانت والدته عاملة تنظيف ووالده بائع متجوّل في الشارع. 

على وسائل التواصل الاجتماعي، استعرض بعض العرب كل خيباتهم. هنا صورة للاعبي المغرب يسجدون في الملعب، مع أن صلاة المسلمين تقام في عموم المعمورة بدون أي اعتراض. هناك علم فلسطين وعبارة "فلسطين تجمع العرب"، فيما الواقع أن فتح وحماس، من أكبر التنظيمات الفلسطينية، لم يتواصلا منذ 2007. أما من تحمّس كثيرا، فاستعاد أمجاد الأندلس، مع أنه ماض استعماري استعبادي يعاديه كثيرون في العالم اليوم، وفي طليعتهم عرب العالم الغربي. لكن العرب يعادون استعمار الآخرين لهم ويمدحون استعمارهم للآخرين.

لن تقوم قائمة للعرب قبل أن يدركوا أن الحرية الفردية هي حجر زاوية نجاح الشعوب، وهي تتضمن حرية الرأي في دعم فلسطين أو في تفضيل إسرائيل عليها، وتتضمن حرية العبادة وخصوصيتها، لأن في المغرب مسيحيون ويهود، وحتى يفخر هؤلاء بمنتخبهم، لا يجوز أن يؤدي المنتخب صلاة الجماعة الإسلامية أمام الإعلام، بل يمكن للاعبين المسلمين إقامة صلاة جماعة للاحتفال بالانتصار في فندقهم فور عودتهم إليه. 

كذلك في الحرية، حرية الناس في اختيار ملبسها أو عريها، واختيار مأكلها ومشربها، مع كحول أو بدونه، واختيار تفضيلها الجنسي، مثلي أم متحول أم السائد المعروف أم كل هؤلاء سوية. 

الحرية التي انتزعتها أوروبا من فم الكنيسة هي التي سمحت بتطور الفلسفة والعلوم والصناعات. الحرية هي التي تسمح لروسي بابتكار محرك البحث غوغل في أميركا ولا تسمح له بذلك في بلده الأم. الحرية هي مفتاح الانتصارات، في كرة القدم، والعلوم، والتنظيم المجتمعي ،والعام. 

أما استضافة كأس العالم بعائدات النفط وفوز المغرب، ففلتات شوط وانتصارات على شكل فورات، تظهر بين الفينة والأخرى ثم تذوي، ويعود العرب الى شقائهم بسبب عقم عقل كثيرين منهم.

الثلاثاء، 6 ديسمبر 2022

الكويت في قبضة المتشددين الإسلاميين

حسين عبدالحسين

تواصل الكويت - الدولة العربية التي تصدرت لسنوات التصنيفات الدولية في حرية الرأي والفكر والإعلام -غرقها في مستنقع المتشددين الإسلاميين وخضوعها لهم.

آخر تجليات التحول الكويتي إلى "قندهار الخليج"، حسب التسمية المحلية تيمنا بقندهار الأفغانية التي تحكمها غالبية إسلامية متشددة، كان فرض وزارة الداخلية تغييرات على سباق ماراثون يقام سنويا، منذ 28 عاما، بطلبها إلى المنظمين منع الاختلاط بين الجنسين في السباق، وإلغاء الفقرات الغنائية والاستعراضات التي ترافقه.

وجاءت تعليمات وزارة الداخلية الكويتية إلى المنظمين بعد طلب من "لجنة الظواهر السلبية" البرلمانية، التي تعكف على فرض منهجها المتشدد وآراءها على الكويت، وعلى تقاليدها الاجتماعية المعتدلة، وعلى فعالياتها.

ولكن كيف تحولت دولة ذات تقاليد طويلة في الاعتدال والانفتاح إلى "قندهار الخليج"؟ الإجابة الأرجح تكمن في السياسة، حيث تعاني أسرة الكويت الحاكمة، آل صباح، من غياب قيادة موحّدة، وهو ما فتح الباب أمام صراع الأجنحة داخل الأسرة، في محاولة كل جناح لاقتناص منصب أمير البلاد، وهو منصب يتولاه عادة ولي العهد تلقائيا عند وفاة الأمير. لكن اختيار ولي العهد يتم بمشاركة "مجلس الأمة"، وهو ما يعطي حركات إسلامية متطرفة، مثل الإخوان المسلمين - العاملة في الكويت تحت اسم "الحركة الدستورية الإسلامية" (حدس) - قدرة على الانخراط في الصراع بين أجنحة أسرة أل صباح الحاكمة والمنقسمة على بعضها البعض.

تاريخيا، الغالبية في الكويت ناصرية، أي من مناصري رئيس مصر الراحل جمال عبدالناصر وتياره القومي العربي العلماني. القومية العربية في الكويت دفعتها للعب دور طليعي في مناصرة الفلسطينيين وقضيتهم، فياسر عرفات كان مقيما في الكويت، وقام مع مقيمين آخرين، وبدعم كويتي مالي سخي، بتشكيل حركة فتح، التي سيطرت فيما بعد على "منظمة التحرير الفلسطينية".

ظلّ الكويتيون يدعمون عرفات والفلسطينيين حتى اجتاح العراقي صدام حسين الكويت في 1990، فأيد عرفات والفلسطينيون صدام، وهو ما أغضب الكويتيين، فكان أول ما قاموا به بعد استعادة بلادهم طرد الفلسطينيين المقيمين بينهم، وخروج الكويت من محور "جبهة الرفض"، أي الديكتاتوريات العربية التي كانت ترفض السلام مع إسرائيل.

أدرك الكويتيون منذ اجتياح بلادهم أن مصلحتهم تقضي بالتحالف الوثيق مع الولايات المتحدة. لكن الكويتيين تمتعوا بحنكة كافية دفعتهم لتبني سياسة عدم انحياز في المواجهات الإقليمية، على الرغم من صداقتهم الوطيدة مع السعودية وأميركا. كذلك وقفت الكويت بعيدة عن الصراع العربي الإسرائيلي، وتفادت الشعبوية، والتزمت مواقف الجامعة العربية، ذات البيانات الخشبية، حول حل الدولتين. ولم يكن مستغربا أن يخرج بين الحين والآخر أصوات كويتية تدعو لسلام وتطبيع مع إسرائيل، من دون أن تتعرض هذه الأصوات لأذى.

الحياد الإقليمي الكويتي وتفادي الشعبوية قدما مساحة واسعة للحرية في الكويت، حيث كان ممكنا انتقاد أي كان أو أي شيء ما عدا انتقاد رمز البلاد، أي الأمير، وهذا قانون معقول. حتى رئيس الحكومة، وهو عادة من الأسرة، لم يسلم من استجوابات النواب وانتقادات الإعلام القاسية.

لكن خلل ما حدث. بدأ الأمير الراحل المحنك صباح الأحمد يتقدم في السن، واندلعت معركة خلافته، وشمّ الإسلاميون رائحة دم في الماء، فباشروا هجماتهم ضد نظام الحكم بأكمله، وتحالفوا مع قبائل وناشطين مستقلين للإطاحة بالأسرة واستبدالها بجمهورية، في الغالب إسلامية.

لم يتردد الأمير عن المواجهة، فأقام تحالفا مع أعرق الأسر الكويتية، ورمى من اعتدى عليه كلاميا إما في السجن أم في المنفى، وعدّل القانون الانتخابي لمنع قيام محادل انتخابية.

لكن إجراءات الأمير الراحل لم تكن كافية، ما اضطره للاستعانة ببعض الشعبوية لإسكات المتطرفين الإسلاميين. ولأن لا علاقات للكويت مع إسرائيل، ولأن معاداة إسرائيل تبدو مجانية، ولأنه يمكن الاستعاضة عن معاداة الإمبريالية (خصوصا الولايات المتحدة التي تحتفظ بقواعد عسكرية في الكويت) بشتم إسرائيل، أوعز الأمير صباح لحلفائه بانقلاب في الموقف الكويتي من لا مبال تجاه القضية الفلسطينية إلى موقف متطرف، كما بدا واضحا في مواقف الكويت أثناء عضويتها في مجلس الأمن الدولي قبل أعوام.

خلف صباح الأحمد شقيقه نوّاف، العليل، وصار الحكم فعليا في أيدي ولي عهده مشعل، الذي يبدو أنه ارتأى أن يواصل الشعبوية في موضوع إسرائيل وفلسطين، لكنه عمل على عكس سياسات الأمير صباح المتبقية، فأعاد المنفيين، واستبدل حلفاء الحكم بتحالف مع المعارضة، على أمل أن ينجح ذلك في شراء المعارضين. لكن ثمن المعارضين يبدو مرتفعا جدا، ويتضمن الغاء حفلات موسيقية، وفصل الجنسين في الأماكن العامة، وربما إقامة "شرطة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر"، وهي الشرطة التي كانت معروفة بالمطاوعة في السعودية والتي فككها ولي العهد محمد بن سلمان في اندفاعته نحو تحديث السعودية اقتصاديا واجتماعيا.

هكذا، فيما تمضي السعودية في تحديثها، وفيما توصلت الإمارات - التي تتصدر المنطقة في الاقتصاد ورفاهية الحياة - الى اتفاقية سلام مع إسرائيل، وفي وقت استضافت قطر كأس العالم لكرة القدم واستقبلت 15 ألف إسرائيليا، وجدت الكويت نفسها تغرق في قبضة الاسلاميين المتشددين، وهو ما أقلق الإعلام الكويتي، فتصدرت الصحف عناوين تشي بامتعاض الكويتيين من الاتجاه الذي تمضي فيه البلاد.

الاتكاء على الإسلاميين للتغلب على المنافسين ليس فكرة كويتية فحسب. في مصر، استغل جناح العسكري عبدالفتاح السيسي تحالفه مع الإخوان المسلمين ليتولى وزارة الدفاع ويقضي على منافسيه حسين الطنطاوي وسامي عنان. ثم بعد اقصاء خصومه، انقلب السيسي على الإسلاميين واستلم الحكم.

قد ينجح ولي العهد الكويتي مشعل الأحمد في استغلال الإسلاميين للتغلب على الأجنحة المنافسة له، لكنه رهان محفوف بالمخاطر، اذ قد يقوى عود المتشددين الإسلاميين إلى درجة تسمح لهم بالقضاء، لا على أجنحة في أسرة آل صباح فحسب، بل على الحكم بأكمله.

الثلاثاء، 29 نوفمبر 2022

قطر والسعودية وصورة العرب والمسلمين

حسين عبدالحسين

بالتزامن مع استضافتها كأس العالم لكرة القدم، أطلقت الدوحة حملة إعلامية ضخمة تضمنت دعايات بين شوطي المباريات المختلفة لتسويق قطر كوجهة سياحية ومركز أعمال وأموال، فضلا عن دعايات حول مشاريع وبرامج ”مؤسسة قطر“ وأخواتها.

كما أوعزت قطر للمستفيدين من مخصصاتها، بمن فيهم دكاترة من الجامعات الأميركية المرموقة الستة التي تمولها الدوحة وتستضيف فروعا لها، ومعهم كتّاب الأعمدة الأجانب والعرب، لنشر مقالات في الإعلام الغربي والعربي حملت عناوين تتراوح بين ”شكرا قطر“ و“فخورون بقطر“. حتى حركة حماس الفلسطينية في قطاع غزة أرسلت أطفال المدارس إلى الشوراع وهم يحملون العلم القطري ويلوحون بلوحات كتبوا عليها ”نحبك يا قطر“.

لا عتب على قيام قطر بتسويق نفسها. العتب هو في الصورة النمطية التي تحاول قطر تعميمها حول العرب والمسلمين، الذين تحاول اقناعهم أن استضافة قطر كأس العالم هي صورة إيجابية عنهم، وأن عليهم أن يفخروا بحكومة الدوحة وقادتها، وأن يهللوا لها وللصورة التي تبثها عن نفسها وعنهم.

مشكلة أن تعتقد قطر أن بثّ مشاهد افتتاح كأس العالم، التي تصدرها الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة ونجله الأمير الحاكم الشيخ تميم بن حمد، ؤا داخل منازل خمسة مليار بشري، هي مشاهد تندرج تحت خانة” تحسين صورة العرب والمسلمين“. ما الإيجابية في هذه الصورة؟ أن العالم العربي تحكمه مشيخات وراثية؟ ما النموذج الذي تحاول الدوحة تقديمه للعالم؟ إنفاق ربع ترليون دولار من عائدات مبيعات الغاز القطري لشراء لحظات مجد عابرة في استضافة البطولة وافتتاحها؟

لم يتأخر الواقع عن الصورة الوهمية للعظمة القطرية، اذ لم تمض ساعات حتى قدم المنتخب القطري عرضا مزريا في كرة القدم وخسر أمام ضيفيه الإكوادوري والسنغالي، هذا على الرغم من أن الدوحة أنفقت أموالا طائلة لبناء منتخبها، وتجنيس سودانيين وعراقيين وجزائريين وغانيين للعب في فريق باهت. صورة عظمة أميري قطر شيء، وضعف قطر رياضيا شيء آخر.

أما عن تسامح العرب والمسلمين الذي حاولت قطر تعميمه على البشرية، فهي قامت بتعميم عكس ذلك تماما. قضية منع الكحول في الملاعب أظهرت أن قطر ما تزال متأخرة عن دول العالم بإصرارها على هندسة التصرفات الاجتماعية في المساحات العامة، متجاهلة أن الحرية الفردية هي حجر الزاوية للدول المتسامحة.

ثم جاءت قضية رهاب المثلية الجنسية التي تعاني منها قطر. حاول قادة منتخبات أوروبية ارتداء شارة تأييد حرية المثلية، لكن الفيفا فرضت عليهم التراجع. قائد فرنسا هوغو لوريس قال أنه لم يتحمس لفكرة ارتداء شارة تأييد حقوق المثليين لأنه يعتقد أنه عندما يكون في ضيافة دول ما، عليه احترام تقاليد هذه الدول. هذه بالضبط هي المشكلة. تخال بعض الدول أن تقاليد الغالبية فيها تسمح لها بتنظيم حياة البشر الشخصية، إن المثلية، أو ممارسة الجنس خارج الزواج، أو احتساء الكحول. في المحصلة، بثّت قطر للعالم صورة مفادها أن بعض الدول العربية والإسلامية لا تمنح الأفراد حرياتهم، بل تقيدها وتفرض عليهم التزام تقاليد أو أديان معينة دون أخرى.

على أن مفارقة قطر وكأس العالم تكمن في أن الدوحة أنفقت ربع ترليون دولار حتى يتباهى العرب والمسلمون بها، ثم تباهى العرب والمسلمون بالسعودية، التي حقق منتخبها مفاجئة مدوية بانتصاره على الأرجنتين، أحد أعرق منتخبات العالم. لا مجنسين في المنتخب السعودي، الذي شارك للمرة السادسة في تاريخه في البطولة الدولية، مقارنة بنظيره القطري، الذي كلفت مشاركته الأولى في تاريخه ربع ترليون دولار.

الانتصار السعودي جاء في وقت تعيش الرياض في سباق مع الزمن لمنح السعوديين، والمقيمين، والسياح حرياتهم الفردية، وترسيخ أن السعودية دول معتدلة، متسامحة، لا تهندس المجتمع، ولا تفرض دينا على الناس، ولا تمانع تعدد الأديان، والأفكار، والآراء، والمذاهب، والأعراق.

لا توجد قبيلة أو شعب أو دين أو أمة متجانسة في العالم يتطابق أفرادها في كيفية العبادة، أو المعتقد، أو التصرف، أو الأهواء. حتى في قطر الصغيرة نفسها، تنقسم الآراء بين قطريين يعتقدون أن الدين لله والوطن للجميع، وقطريين من المتطرفين ممن يخالون أن الدولة الفاضلة هي التي قامت في زمن الرسول وخلفائه الراشدين، وأن رخاء الانسانية يكمن في إعادة إحيائها. 

الصورة التي كان الحري بقطر أن تبثها للعالم عن العرب والمسلمين هي أن شعب وحكام قطر (وشعوب العرب والمسلمين) يدركون أن دور الحكومات هو إدارة الدولة وسياساتها، وتنظيم الحياة العامة حصرا، لا هندسة المجتمع وتصرفات الأفراد، وأن لكل فرد رأي ومعتقد وذوق يختلف عن الفرد الآخر، بعضنا من مثليي الجنس، وبعضنا الآخر ممن لا تستهويهم المثلية. بعضنا من يؤمن بالله والرسول واليوم الآخر، وبعضنا من يراها أساطير الأقدمين. بعضنا من يؤمن بأن المسيح لم يُصلب، وبعضنا الآخر ممن يعتقده المخلص الذي افتدى خطايا البشر بموته على الصليب وقيامته من الموت. بعضنا ينسب نفسه لموسى وداود ومملكة إسرائيل، وبعضنا الآخر ممن يرى أن ديانة اليهود تحريف للتوحيد. بعضنا يتمنى زوال دولة إسرائيل وقيام دولة فلسطين بدلا منها، وبعضنا الآخر ممن يرى أن إسرائيل في ثنايا العرب دليل على قبول التنوع وفرصة للإفادة من علوم الآخرين وتقدمهم. 

لم تبث قطر الى العالم أي من صور التسامح المذكورة أعلاه، بل بثت لهم أمراض العرب والمسلمين المزمنة. الحاكم شيخ ابن شيخ، والمحكوم مغلوب على أمره يهلل، والمجتمع يمسكه الدجّالون من رجال الدين بإسم الحاكم وإطالة حكمه. هذه ليست صورة تستأهل انفاق ربع ترليون دولار لتعميمها على البشرية، بل هو واقع كان على قطر استثمار كل هذه الأموال لتغييره.

الثلاثاء، 22 نوفمبر 2022

كأس العالم.. ونفاق "حركة مقاطعة إسرائيل"

حسين عبدالحسين

"حركة مقاطعة إسرائيل"، المعروفة بأحرفها الإنكليزية الأولى "بي دي أس"، هي جمعية فلسطينية غير حكومية، تتمتع بانتشار عالمي وشهرة تضاهي القطبين الفلسطينيين "السلطة" و"حماس".

تم تصميم هذه الحركة على طراز حركات مقاطعة نظام الفصل العنصري آبرثايد، في جنوب أفريقيا، التي توسعت عالميا حتى اقتلعت نظام البيض وأنهت نظامهم العنصري. 

و ”حركة مقاطعة إسرائيل“ حنبلية، على ما نقول في العامية الشامية والمصرية، أي أنها متشددة لا تساوم. صحيح أنها حركة لا تدعو للعنف (ولا تدينه كذلك)، لكن مطالبها قصوى، ومواقفها قاسية.

يكفي أن يشارك مراهق إسرائيلي في دورة كرة مضرب وتوقعه القرعة ضد لاعب عربي حتى تنهال "حركة مقاطعة إسرائيل" على اللاعب العربي بطلبات لمقاطعة المباراة وترك اللاعب الاسرائيلي يفوز. 

كذلك الأمر في المؤتمرات. يكفي أن يشارك كاتب إسرائيلي واحد في مؤتمر فيه أكثر من مئة كاتب وأديب عربي وعالمي، مثلا في الإمارات، حتى تنهال طلبات "حركة مقاطعة إسرائيل" على المشاركين العرب للانسحاب من المؤتمر بأكمله، لا من الجلسة التي يشارك فيها الأديب الإسرائيلي.

ولا يهم إن كان الأديب الإسرائيلي مع أو ضد الفلسطينيين. يكفي أن يكون إسرائيليا حتى تصبح مقاطعته إلزامية وتصبح المشاركة معه، أو حتى الحديث اليه، من الكبائر الموجبة لتخوين العربي الذي لا يلتزم المقاطعة. 

والدعوة الى المقاطعة ليست ضد الإسرائيليين فحسب، بل ضد العرب "المتخاذلين" ممن لا يقاطعون إسرائيل. مثلا، دعت "حركة مقاطعة إسرائيل" العرب والعالم، بمن فيهم "الحكومات والشركات والفنانين" إلى مقاطعة "معرض إكسبو" الذي استضافته دبي العام الماضي، وجاء نص الدعوة على الشكل التالي: "قاطعوا إكسبو دبي: نشاط (هدفه) تبييض دكتاتورية الإمارات والآبرثايد الإسرائيلي". 

ثم حان موعد كأس العالم الذي تستضيفه قطر، والذي بدأت أولى مبارياته أول من أمس. 

أعلنت الدوحة، قبل أسابيع من انطلاق البطولة، إقامتها خط رحلات مباشرة بين مطاري حمد بن خليفة وبن غوريون بهدف السماح لآلاف المشاهدين الإسرائيليين والفلسطينيين زيارة قطر على مدى شهر كامل. وفي الدوحة، وقف الاعلاميون الإسرائيليون يستعرضون الأحداث مباشرة من الدوحة على قنوات التلفزة والراديو الإسرائيلية. 

أمام "الخيانة القطرية" هذه، ومع تعامل قطر وإسرائيل بصورة طبيعية، حتى لو في إطار الرياضة، كان متوقعا أن تصدر "حركة مقاطعة إسرائيل" دعوة، على غرار التي أصدرتها ضد الامارات العام الماضي، تكتب فيها "قاطعوا كأس العالم في قطر: نشاط (هدفه) تبييض دكتاتورية قطر والآبرثايد الإسرائيلي".

لكن "حركة مقاطعة إسرائيل" الفلسطينية لم تدعُ إلى مقاطعة قطر أو كأس العالم، بل حاولت الاستعاضة عن صمتها هذا — الذي ينم عن تآمرها مع الدوحة وانحيازها إليها — بحملة سمتها ”فلنسجّل هدفا للحقوق الفلسطينية“، دعت فيها إلى رفع العلم الفلسطيني حيثما يتيسر، والمشاركة في "عواصف على وسائل التواصل الاجتماعي"، ومقاطعة شركة بوما للمنتجات الرياضية لأنها ترعى المنتخب الإسرائيلي. 

لماذا تنحاز "حركة مقاطعة إسرائيل" (بي دي أس) لقطر، ضد الإمارات والبحرين والسعودية؟ الإجابات متعذرة، خصوصا أن الحركة الفلسطينية المذكورة لا تتمتع بشفافية حول مصادر تمويلها. ربما كانت الدوحة من أكبر ممولي هذه الحركة، ومن يغمّس في صحن السلطان يضرب بسيفه. لكن في غياب أي بيانات واضحة، لا يمكن إقامة ربط من هذا النوع الا من باب التكهنات. 

أيا تكن الأسباب، يشكل انحياز "حركة مقاطعة إسرائيل" لدول عربية دون أخرى، أو لإيران وتركيا ضد الدول العربية، امتدادا لسياسة انتهجها معظم قادة الفلسطينيين تاريخيا، إذ راهنوا على ديكتاتوريات شعبوية تطعمهم شعارات لا تغني ولا تسمن، منذ ارتماء مفتي القدس أمين الحسيني في أحضان طاغية العالم الألماني هتلر، ومصادقة رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات طاغية الغرب صدام حسين، حتى بعد قيام الأخير باجتياح الكويت وابتلاعها، ثم ارتماء حماس في أحضان دكتاتور سوريا بشار الأسد. 

اليوم، يواصل فلسطينيو "حركة مقاطعة إسرائيل" ربط أنفسهم بالجبهة المسماة "الجنوب العالمي"، التي تتألف من كل الأنظمة والحركات في العالم المعادية للغرب والديمقراطية والليبرالية، ويتمسكون بالإسلام السياسي، وقطر، والأسد، ونظامي إيران وتركيا الإسلاميين. 

أما النصيحة لهؤلاء الفلسطينيين فهي أن يعملوا بموجب قاعدتين، أولهما "أعرف نفسك"، أي أن غالب شقاء الفلسطينيين مصدره تعذّر قدرتهم على بناء أي مؤسسات سياسية أو اجتماعية لادارة شؤونهم، بل أن التجربة الفلسطينية في بناء دولة — مع أو بدون أرض — هي تجربة تشبه الدول العربية الشقيقة التي كانت تشكل ما يعرف بـ "جبهة الرفض" في الماضي، أي التي رفضت اتفاقية السلام المصرية مع إسرائيل، وكانت تتألف من العراق وسوريا وليبيا واليمن، وكلها دول فاشلة اليوم تشبه قطاع غزة، حتى وإن بدون حصار إسرائيلي. 

القاعدة الثانية هي أن يدرك الفلسطينيون ممن يكررون الخطأ في رهاناتهم الإقليمية والدولية أن صديقك هو من صادقك لا من صدّقك، وهو ما يعني أن صديق الفلسطينيين الحقيقي هو الذي يخاطبهم بواقعية حول فشلهم الذريع، المسؤول عن النسبة الأكبر من شقائهم اليوم، والذي ينصحهم بالتخلي عن المطالب الخيالية المتعذر تحقيقها، والقبول بتسوية "ما تيسر"، يمكن البناء عليها، وتحسينها مستقبلا، وتوسيعها. أما من صدّق الفلسطينيين، أو تظاهر بذلك، وانخرط معهم في الشعارات الخشبية الشعبوية المتكررة على مدى القرن الماضي، فهؤلاء ليسوا أصدقاء الفلسطينيين، بل هم يستغلون قضية الفلسطينيين وشعاراتهم لأسباب خاصة ومصالح غير فلسطينية، إذا ماذا يضير مناضل يتمتع برغد العيش في الدوحة أو أنقرة أن يدعو للقتال والنضال في الضفة الغربية وغزة؟ 

السلام الفوري مع إسرائيل والتطبيع الشامل يحرران كل العرب من قضية أعجزتهم، فأقعدتهم، وأعاقت تطورهم، وكما كتب العزيز الراحل سمير قصير يوما، إن الخيار الأمثل لتعافي العرب يكمن في بتر العضو المصاب حتى يتماثل المريض للشفاء.

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2022

الديمقراطية سبب تفوق الولايات المتحدة

حسين عبدالحسين

في 21 كانون الأول يناير 1997، جلسنا — مصطفى وهنّاد ورياض وأنا — ندردش مع معلمنا المؤرخ الراحل كمال الصليبي قبل بدء الحصة الدراسية عن تاريخ بيزنطية. بادر الصليبي الى الحديث بالسؤال ان كان أحد منا شاهد خطاب قسم الرئيس الأميركي بيل كلينتون لولاية ثانية، وهو خطاب اعتبر فيه كلينتون أن القرن العشرين كان قرنا أميركيا. قال الصليبي: ”لقد كان قرنا أميركيا بالفعل“. 

وراح الصليبي يتحدث عن إبداع الديمقراطية الأميركية ويقول: ”ترى أقوى رجل في العالم، في يديه ترسانة نووية قادرة على تدمير الكوكب، يخرج من البيت الأبيض في دقائق، ويسلّم منصبه لخلفه، ويعود مواطنا عاديا“. 

أزعجني، أنا اليساري المعادي للإمبريالية يومذاك، إعجاب الصليبي بالولايات المتحدة. ولأن الراحل كان منطقيا وموضوعيا، ولأنه كان ملهما لآرائي، بدأت ذاك اليوم رحلة تقصي فكرية أفضت إلى انقلابي على آرائي السابقة، التي كانت ترى كل أمة جسدا واحدا، لا خليطا من الأعراق والمذاهب والأذواق والآراء. 

بدلا من فكري القومي البدائي، حلّ إعجابي المطلق — لا بديمقراطية الولايات المتحدة فحسب — بل بمبادئ عصر التنوير، التي ألهمت الثورتين الأميركية والفرنسية. ومبادئ عصر التنوير تُعلي من حرية الفرد، وتعتبر أن الدولة هي أداة لسعادة الأفراد، على عكس الفكر القومي، الذي يرى أن الأفراد وقود لعظمة الأمة المتخيلة.

هكذا، عندما ظهرت السفن الحربية في الخليج لتحرير العراق من طاغيته صدام حسين في 2003، اقتنصت الفرصة وشاركت، قلبا وقالبا، في المشروع الأميركي لنشر الديمقراطية، وهو مشروع تعثر لأسباب عديدة لا متسع للخوض فيها هنا. ومع حلول 2006 وهزيمة الجمهوريين الساحقة في الانتخابات النصفية، استبدل الرئيس السابق جورج بوش فريقه للسياسة الخارجية، الذي كان يتألف من المحافظين الجدد بقيادة نائب الرئيس ديك تشيني، بفريق من الواقعيين، تصدرتهم وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس. هكذا انتهت المحاولة الأميركية لنشر الديمقراطية.

في هذه الأثناء كنت قد توطنت في الولايات المتحدة، وصرت أراقب عن كثب، ومن داخل أروقة القرار، عظمة الديمقراطية الأميركية التي حدثنا عنها يوما الصليبي. 

وطغاة العالم، العرب والفرس والروس والصينيين، يخشون النفوذ الأميركي الثقافي الذي يجتاح كل بيت من بيوت العالم، ويخشون أن يحمل هذا النفوذ في طياته ديمقراطية، فتستطيبها هذه الشعوب، وربما تتبناها وتستبدل طغاتها بها. 

لذلك، راحت دعاية الإسلامويين واليسار العربي الخشبي تتهم أميركا بالإجرام في حرب العراق، التي قتلت من العراقيين نذرا يسيرا مما قتله صدام في حروبه وطغيانه، وراحت تشير الى الانحطاط الأميركي كما بدا في فضيحة سجن أبو غريب، التي أظهرت سجانين أميركيين يوقعون الذلّ بسجناء عراقيين. طبعا لم تقل دعاية الإسلامويين واليساريين أن الذي فضح أبو غريب هو الإعلام الأميركي، وأن الجنود الذي ثبت تورطهم واجهوا محاكمات وقضوا سنوات في السجن. 

وراحت الصين تشير إلى صعودها الاقتصادي لتثبت أن رفاهية الشعوب لا تحتاج حرية المواطنين ولا ديمقراطية، وسلطت روسيا دعايتها على الأميركيين أنفسهم، وأقامت حسابات وهمية على مواقع التواصل الاجتماعي بهدف بثّ الفرقة وانتخاب من تتصور أن بامكانه تحطيم الديمقراطية الأميركية من الداخل، عن قصد أم عن غباء. أما إيران، فواصلت دعايتها بث أكاذيب خيالية، من قبيل أن أميركا، التي تكبدت عناء هزيمة داعش، هي التي أقامت التنظيم الإرهابي ورعته ومولته وسلحته. 

انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة أخافني، وعقدت وأصدقاء أميركيين حلقات نقاش، وأعدنا قراءة كتاب هانا أرندت، الذي يصف استيلاء النازية على الحكم في ألمانيا عن طريق الديمقراطية، وبدا لنا أن جزء كبير من الأميركيين صار يرى أن زمن الديمقراطية ولّى، وأن الخلاص يكمن باستيلاء رجل قوي على الحكم، مثل ترامب، الذي كان يعلن بدوره إعجابه بطغاة من أمثال بوتين. حتى أن ترامب نفسه نظّم عرضا عسكريا على غير عادات واشنطن.

ثم جاء هجوم أنصار ترامب على مبنى الكونغرس ومحاولتهم وقف تقاليد انتقال الحكم ديمقراطيا لفرض ابقاء ترامب في البيض الأبيض. واتسعت ظاهرة رفض المرشحين الخاسرين قبول هزيمتهم في الانتخابات، على غرار ترامب، حتى أن بعض المرشحين الجمهوريين الموالين لترامب رفضوا الاعتراف بخسارتهم أمام منافسيهم الجمهوريين داخل الحزب نفسه. ووسط هذه الأجواء، راح الإعلام الأميركي يتحدث عن عاصفة حمراء (جمهورية) في الانتخابات النصفية التي أقيمت الأسبوع الماضي، في وقت كان معظم المرشحين الجمهوريين من موالي ترامب ممن ينكرون خسارته الرئاسة في الانتخابات قبل عامين.

لكن شمس الديمقراطية الأميركية أشرقت، فبانت عظمتها، واتضح أن الموجة الحمراء بالكاد قطرة ماء اذ تكبّد مرشحي ترامب هزائم نكراء، فيما اكتسح الجمهوريون ممن لا يوالون ترامب منافسيهم الديمقراطيين.

في اليوم التالي للانتخابات، أدرك قادة الجمهوريين أن غالبية الأميركيين لا تستهويهم فكرة الاستيلاء على السلطة بأي ثمن، حسب أسلوب ترامب، وأن الأميركيين يفضلون الاقتراع لمرشحي الحزب المنافس لحماية الديمقراطية على التصويت لمرشحي حزبهم الذين قد يقوضون هذه الديمقراطية.

ثقافة الديمقراطية لدى الأميركيين هي التي حمت نظامهم من جنون البعض، من الحزبين، ممن يعتبرون أن المؤسسات أدوات في أيدي المصالح الحاكمة، وأن الحل يقضي بهدم الهيكل بالكامل وإعادة بنائه.

ثقافة الديمقراطية الأميركية جاءت في نفس الأثناء الذي كانت الصين، المتقهقرة اقتصاديا، تمعن في طغيان حكامها، وفي وقت انكشف الضعف العسكري والاقتصادي الهائل لروسيا وطاغيتها.

القرن العشرين كان أميركيا، وفي العقود الثلاثة الأولى من القرن الواحد والعشرين، لا علامات تشي أن قوة أميركا الاقتصادية تخور أو أن تفوقها العسكري يتقهقر. أما سبب تفوق أميركا، فديمقراطيتها، وكل دولة ترغب في حذو حذو الولايات المتحدة، ما عليها الا النظر الى النموذج الأميركي، وتبني الأفكار المؤسسة للجمهورية الأميركية، ومحاولة نشر ثقافة الديمقراطية بين المواطنين، على غرار انتشارها بين الأميركيين. كل ما عدا ذلك نماذج في الحكم تؤدي غالبا الى البؤس والشقاء.

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2022

البؤس العربي في "إعلان الجزائر"

حسين عبدالحسين

قدم البيان الختامي لقمة جامعة الدول العربية، المنعقدة في الجزائر، الأسبوع الماضي، لمحة عن الأمراض العربية المزمنة، والفشل في الرؤية والموقف والأخلاق، وانعدام القدرة على الحكم أو على تصور مستقبل أفضل للعرب في دولهم.

تستثنى من الفشل دول عربية تقدم نجاحات باهرة، مثل الخليجية منها، فيما يعكس البيان انحطاط الأعضاء الآخرين ممن يفرضون آراءهم البائسة على بيانات هذه المنظمة الإقليمية.

على عادتهم، حاول بعض القادة العرب إخفاء فشلهم في الحكم بالحديث عن الشؤون الدولية والإقليمية، فتصوروا أنفسهم طليعيين ساعين للتحرر من قوى الاستعمار والإمبريالية في عالم ولّى منذ عقود.

أما البطولة العربية، فيبدو أنها تكمن اليوم في رفض عالم ذي قطب واحد، أي رفض القوة الأميركية، والمطالبة بعالم متعدد الأقطاب، وكأن الكويت كان لها من يحررها من احتلال العراقي الراحل، صدام حسين، غير القوة الأميركية، وهي القوة ذاتها التي أوقفت مجازر صدام ضد شيعة الجنوب وكرد الشمال. أو كأن أقطاب العالم، لا قوة أميركا، هي التي انتزعت ترسانة بشار الأسد الكيماوية منه بعدما استخدمها ضد السوريين، أو كأن أقطاب العالم هم من رعوا قيام سلطة فلسطينية واعتراف العالم بها. 

ورفض "إعلان الجزائر" لعالم تقوده الولايات المتحدة والغرب هو عنوان سبق أن رفعه الإسلام السياسي في سنوات "الربيع العربي"، التي أمسك بها الاسلامويون بالحكومات، مثل الرئيس المصري، محمد مرسي، الذي سعى لضم مصر إلى "مجموعة بريكس"، وهي مجموعة أظهرت الأيام منذ ذلك الحين فشلها الذريع، حتى في موضوع إقامة مصرف دولي ونقد موحّد.

مؤسفٌ أن تقرر الجامعة العربية أن تذهب إلى الحج والناس عائدة، فترفع شعار عالم متعدد الأقطاب في وقت انتهت الفورة الاقتصادية الصينية، وبان زيف الدعاية الروسية حول قوتها العسكرية المزعومة، التي فشلت في التغلب على جارتها الضعيفة، أوكرانيا.

على أن الفشل الأخلاقي العربي الأكبر يكمن في التناقض الصارخ في دعوة "إعلان الجزائر" المجتمع الدولي إلى فرض إقامة دولة فلسطينية، حسب المؤتمرين العرب، من باب المنطق والإنسانية المجرّدة. لكن هذه الإنسانية، التي يطالب بها العرب في فلسطين، تتبخر في الموقف العربي حول أوكرانيا، فيتبنى "إعلان الجزائر" سياسة عدم انحياز في حرب روسيا على الأوكرانيين. 

هناك، في موسكو، دكتاتور يتماهى معه بعض القادة العرب ويرون فيه أداة مفيدة لمناكفة القوة الأميركية، لذا، لا يريد هؤلاء القادة إغضاب طاغية روسيا، فلاديمير بوتين، فيقفون، والإنسانية التي يطالبون العالم بتطبيقها في فلسطين، على الحياد في أوكرانيا، التي اجتاحها بوتين وارتكب مجازر بسكانها، ويرتكب بحقها جرائم حرب باستهداف البنية التحتية المدنية. 

وفي العالم متعدد القطبية الذي ينشده الزعماء العرب، لا يتلفظ "إعلان الجزائر" بكلمة إيران ولا مرة واحدة. قبل أقل من عام، ضربت الدرونات الإيرانية المفخخة أهدافا مدنية وبنية تحتية نفطية في الإمارات والسعودية. وعلى مدى الأعوام الماضية، قامت إيران وميليشياتها بتنفيذ سلسلة من الاغتيالات في لبنان والعراق، ودمرت اليمن. مع ذلك، لا ترد كلمة عن إيران في "قمامة" الجزائر.

ويقدم "إعلان الجزائر" كمية هائلة من التناقضات في الخطاب الخشبي العربي المعروف حول فلسطين. من ناحية، يتواصل التناقض في طرح حل دولتين ذات سيادة، فلسطين إلى جانب إسرائيل، وفي نفس الوقت التغاضي عن سيادة إسرائيل وإجبارها على السماح بعودة ملايين الفلسطينيين إليها.

من ناحية ثانية، يوصي "إعلان الجزائر" بإتمام المصالحة الفلسطينية بين سلطة محمود عباس وحماس. لكن حماس لا تقبل حل الدولتين، بل هي توافق على دولة فلسطينية وهدنة مع كيان ترفض الاعتراف به وتعد بمواصلة السعي على تدميره.

هكذا، تحت بند واحد للقضية الفلسطينية، تقدم الجامعة العربية ثلاث أو أربع أفكار متضاربة، تناقض واحدة الأخرى، ثم تدعو العالم لدعم هذا التخبط العربي وملاحقة الإسرائيليين أمام القضاء الدولي، وهذا كله في سياق الدعوة إلى سلام مع إسرائيل.

ثم يجود "إعلان الجزائر" بحديثه عن العدالة، لكنها ليست عدالةً داخل الدول العربية تحاسب زمر الفساد الحاكمة في بعض الدول والميليشيات العنيفة التي عاثت قتلا ودمارا في البلاد والعباد، بل هي عدالة مبنية على "المساواة السيادية".

و"المساواة السيادية"، أيها السيدات والسادة، تعني أن بعض الدول العربية ترغب في أن تواصل عيشها في العفن الذي تعيش فيه، مثل السلطة الفلسطينية الغارقة في الفساد المدقع، أو الحكومة التونسية التي قدمت دستورا ضحلا لا عمق فيه ولا رؤية، أو الدول المنهارة كاليمن وليبيا، والمتلاشية كلبنان. "المساواة السيادية" هنا تعني ألا تطالب الدول الغربية بوقف الفساد وبناء دول ليبرالية فعلية، وإن غير ديمقراطية، تمنح المواطنين أمنا وأمانا، وعيشا متساويا تحت ظلّ قانون عاقل وقضاء راشد. 

منذ تأسيسها قبل قرابة 70 عاما، لم تكتسب جامعة الدول العربية احترام الشعوب العربية، بل لطالما كانت مصدرا للاستهزاء العربي، فصدرت فكاهات بحقها، من قبيل "اتفق العرب ألا يتفقوا". كذلك تناقلت ألسن العرب حادثة قيام صدّام بضرب طاغية سوريا الراحل، حافظ الأسد، بصحن سجائر، ويتذكر العرب غالبا تلك المواجهة الفكاهية التي اعتدى فيها نائب رئيس العراق، عزّت الدوري، كلاميا على وفد خليجي وقال لأفراده: "يلعن أبو شواربك، أنت أمام العراق العظيم".

الجامعة العربية كمسرح للتندر والفكاهة، بوجود شخصيات رحلت مثل طاغية ليبيا الراحل، معمر القذافي، كانت أكثر فائدة بكثير من جامعة اليوم، التي تتذاكى بألعابها الكلامية والتي يشكر بيانها رئيس الجزائر، عبدالمجيد تبّون، مرتين أو ثلاثة، وكأن الرجل صاحب إنجازات تجعله في مصاف ونستون تشرشل. 

ثم يقولون لك "إعلان الجزائر" يسعى لخلق "فضاءات لتبادل الأفكار والنقاش المثمر والحوار البناء بهدف توحيد الجهود لرفع التحديات المطروحة"، إلى آخره من بيانات صف الكلام والخرافة العربية.

الثلاثاء، 1 نوفمبر 2022

حكومة في العراق وبصيص أمل

حسين عبدالحسين

نجح محمد شياع السوداني في تشكيل حكومة عراقية يراها كثيرون تابعة لإيران وميليشياتها، فيما يتمسك المعارضون والمستقلون والناشطون بالآراء المراهقة ذاتها، التي تلعن الظلام دائما دون أن تشعل شمعة أبدا.

اختيار السوداني جاء، حسب المراقبين، لأنه من "سياسيي الصف الثاني"، وهو ما سهّل الإجماع حوله، إذ رأى سياسيو "الصف الأول"، وفي طليعتهم نوري المالكي، أن السوداني يمكنه أن يترأس حكومة إلى أن تسنح الفرصة لعودة المالكي إلى هذا الموقع. ومنذ خسارته رئاسة الحكومة على إثر انهيار القوات العراقية أمام "داعش" في 2014، تحوّل "أبو إسراء" إلى مهووس بهذا المنصب وبالعودة اليه.

لكن من يعرف التاريخ يدرك أن عددا لا بأس به من سياسيي "الصف الثاني" تحولوا إلى زعماء ومستبدين، من أمثال مرشد إيران، علي خامنئي، الذي حاز على منصبه بسبب انقسام الكبار واعتقاد كل منهم أن مصلحته تقضي بتعيين شخصية ثانوية يمكنه التحكم بها.

ومثل خامنئي، كان المالكي نفسه سياسي "صف ثاني" عندما وقع الاختيار عليه لرئاسة الحكومة للأسباب نفسها.

لكن إلى أن يظهر خير السوداني من شرّه، يمكن تسجيل بعض الملاحظات على تشكيلته الحكومية وبيانه الوزاري.

شكّل تعيين عبد الأمير الشمري وزيرا للداخلية صفعة لميليشيات "الحشد الشعبي" الموالية لمرشد إيران، فالداخلية تسدد رواتب مقاتلي الحشد، البالغة ملياري دولار سنويا، والشمري ضابط متمرس أقسم ولاء للدولة ودستورها، ولا تستهويه خزعبلات الميليشيات.

وبين الشمري والميليشيات الموالية لإيران تاريخ من المواجهات، مثل في 2015، عندما أمر وزير الداخلية الجديد، وكان آمرا لعمليات بغداد، باجتياح مقر "كتائب حزب الله"، أكبر الميليشيات وأكثرها ولاء لخامنئي، ودار اشتباك مسلّح.

السوداني تفادى الحديث عن الميلشيات، التي تطالب غالبية العراقيين، وغالبية الشيعة منهم، بحلّها ونزع سلاحها. لكن السوداني لفت في البيان الوزاري إلى أن دولة العراق ماضية في دعم قواتها النظامية، لأنها الضامن الوحيد للسلم الأهلي والأمن القومي وفرض القانون، وهو ما يشي بأن رئيس الحكومة الجديد قد يراهن على حصر استخدام العنف بالقوات الحكومية دون الميليشيات الخارجة عن القانون. 

كذلك أظهر تعيين طيف سامي وزيرة للمالية جدية السوداني في مكافحة الفساد، فهذه السيدة، المتمرسة في وزارة المالية منذ 1985، تتمتع بسمعة طيبة حول نظافة كفها ومكافحتها للفساد وتصديها للفاسدين، بمن فيهم أعتى السياسيين والميليشياويين، الذين قاموا بتهديدها مرات ومحاصرة منزلها مرة.

على أن السوداني أخذ بيساره ما قدمه بيمينه، فهو إلى تعيينه كفاءات مثل الشمري وسامي، قام بتعيين ميليشياويين وحلفاء المالكي، المشهور بفساده.

في وزارة العمل، عيّن السوداني أحمد الأسدي وزيرا، وهذا سبق أن عمل ناطقا باسم ميليشيات الحشد الشعبي وقائدا لميليشيا "جند الإمام". كما سبق للأسدي أن زار الولايات المتحدة لحشد التأييد بين أفراد الجالية العراقية لميليشيات الحشد. 

أما في وزارة الاتصالات، فعيّن السوداني هيام كاظم وزيرة. وسبق للسوداني نفسه أن شنّ حملة على شركات الخليوي العاملة في العراق واتهمها بالتحايل وتحقيق أرباحا طائلة دون تسديد ما يكفي للدولة. لكن مع حلفاء المالكي في هذه الوزارة، يصبح مستقبل مكافحة الفساد فيها غير مضمونا.

إذا، في حكومة السوداني مصائب، وفيها بصيص أمل. أما اعتراض المعترضين على المحاصصة، فسببه انعدام الثقافة السياسية بين العراقيين، فبناء التحالف من الكتل البرلمانية هو في صميم العمل الديمقراطي.

ما يزعج هؤلاء ليس المحاصصة في التشكيلة الحكومية، بل تقاسم الغنائم بين المشاركين في الائتلاف الحكومي، وهو فساد يحتاج إلى نية سياسية لدعم مؤسسات الرقابة والمحاسبة، ولا حلّ في إقصاء الجميع واستبدالهم بـ "مستبد عادل"، عفيف نظيف الكف حسبما يتخيل البعض، فالاستبداد طامة، وهو مفسد بطبيعته، وحتى لو وصل نظيف الكف إلى سدة الحكم، من شأن استبداده وغياب إمكانية معارضته أو الوقوف في وجهه، أن يفسده ويحوله إلى فاسد.

كذلك لا يدرك التغييريون العراقيون، مثل نظرائهم اللبنانيين، أن التغيير لا يأتي من رأس الهرم، بل من أسفله. فالتغيير يحتاج إلى نشر ثقافة الليبرالية والحرية بين الناس، وتغيير أطباعهم.

مثلا، لا يعقل ألا يلاحظ التغييريون العراقيون مشكلة عبارة "الإسلام مصدر للتشريع" في الدستور العراقي، وعبارة "الله أكبر" على العلم، وألا يدركوا أن رفع الآذان عبر التلفزيون الرسمي، وقراءة تلاوة قرآن أثناء انعقاد جلسة مجلس النواب، هي تعد على الحريات الفردية والعامة، فالدين لله والوطن للجميع، من يؤمن بالإسلام والله ومن لا يؤمن، كما من يؤمن بالأديان الأخرى ومن لا يؤمن، ولا يجوز أن يطغى أي معتقد، حتى معتقد الغالبية، على دستور البلاد، ولا على علمها، أو على مساحاتها العامة، أو مؤسسات الدولة فيها.

لكن إلى أن تنتشر بعض ثقافة الليبرالية والديمقراطية بين العراقيين، أو على الأقل بين النخبة منهم، لا بأس من قبول أفضل الموجود، والتعامل معه كواقع لا بد منه، ومحاولة البناء عليه وتحسينه.

أما شعارات المراهقة مثل "كلا كلا" العراقية و"كلن يعني كلن" اللبنانية، وسياسات التخبط والاستقالة من البرلمان واعتزال السياسة، يوم الجمعة، والعودة إليها، يوم السبت، فهذه انفعالات قد تبدو عفوية صادقة لكنها لا تبني دولا. هي سياسات خنفشارية تافهة، مثل سياسات الطاغية الراحل، صدام حسين، الولد البسيط الذي أثارت السلطة والشهرة، أو "الكشخة" وفق العراقيين، جنونه، فصار عالة على نفسه وناسه وبلاده، وقادها من جحيم إلى جحيم.

السوداني ما زال كمية مجهولة. حتى الآن لا يبدو صاحب كاريزما، ولا يظهر أن لديه ذكاء فطري أو موهبة. لكن السوداني يبدو صاحب نية وفكرة، فهل ينجح في تحقيق أفكاره الجيدة التي وردت في بيانه الوزاري، مثل تحويل اعتماد العراق اقتصاديا من النفط إلى القطاع الخاص واقتصاد الخدمات؟ أم أنه مثل من سبقه، يقدم أفكارا براقة ووزراء ذوي كفاءة، ثم ينهمك في محاولة تمديد إقامته في قصر رئاسة الحكومة بأي ثمن ممكن؟

الثلاثاء، 25 أكتوبر 2022

الديمقراطيون وكارثة سياستهم الخارجية

حسين عبدالحسين

أنا عضو في الحزب الديمقراطي، أقترع لمرشحيه، أتبرع لهم، أساندهم. لا تستهويني عقيدة الحزب الجمهوري التي تلوم المحتاجين على حاجتهم وتتهمهم بالكسل، بل تعجبني السياسات التي تدعم التعليم المجاني، والاستشفاء المجاني، ومساعدة الأقل دخلا والمتقاعدين. كذلك أؤيد الحريات للجميع، ملحدين أو مثليين أو غيرهم، ممن يشبهوني أو لا يشبهوني في التفكير والمعتقد وأسلوب الحياة. هذه الأفكار تشكل أساس الحزب الديمقراطي، الذي يتظاهر بتفوقه أخلاقيا على نظيره الجمهوري. ثم تأتي السياسة الخارجية للديمقراطيين لتكشف أن سياسات الحزب الديمقراطي لا تعدو كونها شعارات شعبوية هدفها حصد الأصوات، وأن الديمقراطيين يغرقون في تناقضات لا قعر لها.

لنأخذ مثلا الحملة التي شنها على السعودية المشرعون الديمقراطيون من أمثال السناتور بيرني ساندرز، ورئيس حملته الرئاسية سابقا وعضو الكونغرس اليوم رو خانا، ومعهم باقة من المشرعين الديمقراطيين الذين يصفون أنفسهم بالتقدميين. ثارت ثائرة ساندرز وصحبه بعد قرار مجموعة أوبك تخفيض انتاجها بواقع مليوني برميل نفط يوميا، واتهم هؤلاء الديمقراطيون السعودية بمحاولة التأثير بنتائج الانتخابات النصفية المقررة في الثامن من الشهر المقبل، وذلك برفع سعر البنزين للمستهلكين الأميركيين لإحراج رئيس البلاد، الديمقراطي جو بايدن. كما اتهم ساندرز وخانا الرياض بقيامها بخطوة رفع أسعار النفط لمساعدة روسيا، التي تعاني من تهالك اقتصادها بسبب حربها على أوكرانيا، وقالا إن السعودية تنحاز لموسكو ضد كييف.

أفكار ساندرز تعج بالتناقضات وتنم عن انحياز مسبق ضد السعودية، فالسناتور الديمقراطي يعلن نفسه مدافعا عن البيئة، وتاليا عدوا للطاقة التقليدية ونصيرا للطاقة المتجددة. هذا يعني أن خفض السعودية وأوبك انتاجهما من النفط هو في مصلحة البيئة والكوكب، ويحد من الاحتباس الحراري. ثم أن ارتفاع سعر الطاقة يدفع السوق للبحث عن طاقة بديلة، مثل المتجددة التي يطالب بها ساندرز. لكن السناتور الديمقراطي وجماعته انقلبوا على كل مواقفهم البيئية في سبيل شن هجوم ضد السعودية.

في الوقت نفسه، لا يعترض ساندرز وخانا وصحبهما من الديمقراطيين على المسيرات المفخخة والصواريخ الباليستية الإيرانية الصنع التي تدفقت من طهران إلى موسكو وعاثت دمارا في عموم أوكرانيا، بل يطالبان برفع أميركا عقوباتها عن طهران، مع أو بدون اتفاقية نووية، لأن العقوبات "تؤذي الإيرانيين ولا تؤثر في النظام"، حسب الحكمة التي يقدمها هؤلاء الديمقراطيون. هكذا أطل ساندرز عبر شبكة "أم أس أن بي سي" على برنامج مهدي حسن، خرّيج الجزيرة القطرية، ليشن السناتور الأميركي حملة ضد السعودية ويتهمها بأن وضع المرأة فيها هو الأسوأ في العالم، وكأن النساء الإيرانيات المنتفضات ضد نظام المرشد الإيراني بسبب فرض الحجاب عليهن يعشن في السعودية، أو كأن السعودية، لا إيران، هي التي تزوّد روسيا بالدرونات لقتل الأوكرانيين.

وهكذا دواليك، يمضي الديمقراطيون أيامهم في تقديم سياسة خارجية، ليست غبية فحسب، وإنما خبيثة، وتناصر أعتى الديكتاتوريات المعادية لأميركا، في إيران وكوبا وفنزويلا، وتدعو لتخلي أميركا عن معظم حلفائها، إن الأوتوقراطيات منها كالسعودية أو الديموقراطيات مثل إسرائيل.

والسياسة الخارجية للبيت الأبيض، الذي يشغله الديمقراطيون، مزيج من الغباء والعقائدية. أولا، يعتقد الديمقراطيون أن الشر الأكبر الذي ظهر في تاريخ البشرية هو الرجل الأبيض الأوروبي الكولونيالي، الذي دمّر الشعوب واستولى على مقدرتها، وأن العالم سيكون مكانا سالما متناسقا إن هم نجحوا في عكس الكولونيالية وكل نتائجها. وهؤلاء الديمقراطيون هم في الغالب أنفسهم من البيض، ولكنهم يعتقدون أنهم يتفوقون على أقرانهم البيض الآخرين لأنهم جالوا دول العالم وتلقفوا ثقافاتها، فاتسعت آفاقهم ونبذوا تراثهم الأبيض.

في الواقع، اقتصرت الثقافة العالمية لهؤلاء البيض على معرفة سطحية بحضارات العالم وشؤونه، مثلا أتقنوا الفرنسية أو لغات أخرى، واعتبروا أنهم صاروا عارفين، لكنهم حتى أثناء إقامتهم خارج أميركا، عاشوا في قصور عاجية، فهم لم يعيشوا يوما في عوز أو فاقة، ولا في حرب، بل أقاموا حول العالم معززين مكرمين، يحملون جوازات أميركية تأخذهم حيثما يشاؤون، وينفقون أموالا من الثراء الأميركي اللامتناهي. حتى في السنوات التي قضوها في دول العالم، كانوا يتمتعون بحماية القوة الأميركية، ويعاملهم الناس كأميركيين.

لم يعش وزير الخارجية أنتوني بلينكن مواطنا تحت حكم طغاة مثل صدام حسين وحافظ وبشار الأسد وعلي خامنئي، ولا هو تجوّل يوما في مطارات العالم بجواز سفر لا قيمة له صادر عن هذه الأنظمة الفاشلة، ولم يعانِ مسؤول ملف إيران روبرت مالي من العيش في حرب أهلية، أو في خوف من اغتيالات الأنظمة التي يسعى لمصادقتها، إن إيران أو حماس أو غيرها. جلّ ما يردده بلينكن ومالي - وقبلهما جون كيري ووندي شيرمان - أن كل ما نحتاجه هو الاستماع الى أنظمة إيران وسوريا وغيرها لنعرف ما الذي تريده فنصل لتسوية معها. ألا يعرفون ما الذي يريده الأسد؟ يريد البقاء في السلطة ولو على جثث كل السوريين وأنقاض كل مدنهم وقراهم. ما الذي تريده إيران؟ بقاء حكم خامنئي وتوريثه لابنه وإعادة إقامة إمبراطورية متخيلة تكون ندا للغرب كما في ماضي الزمان.

العرب والإيرانيون يعرفون بالضبط ما الذي تريده أنظمة الطغيان. الأميركيون الديمقراطيون "التقدميون" وحدهم لا يعرفون ما الذي تريده هذه الأنظمة ويخالون أن مشكلة العالم هي أميركا، لا تخلّف العالم عن الالتحاق بمنظومة الليبرالية، ثم الديموقراطية، كما فعل الغرب، ويرون أن الحل يقضي بانكفاء العالم والغرب، ووضع إشارة X على جواز سفر الأميركيين المثليين، وكأن كل ما ينقص المثليين هو إعلان هويتهم الجنسية المرفوضة لدى معظم حكومات العالم غير الغربية، وهو ما قد يجعلهم أهدافا سهلة ويعرضهم لأعمال عنف.

هكذا هي السياسة الخارجية للحزب الديموقراطي، شعبوية ومزيج من الخبث والانحياز لإيران أو غيرها ضد حلفاء أميركا مع بعض الغباء الذي يعتقد أن مشكلة العالم هي سطوة الرجل الأبيض بدلا من أن يرى أن هذه السطوة هي الحاجز الأخير بين العالم القائم اليوم وعالم مغاير على شاكلة خامنئي ورئيس روسيا فلاديمير بوتين و"تصديهما للامبريالية" الذي حوّل سوريا واليمن وأوكرانيا إلى جبال من الركام، والذي يهدد بتحويل الكوكب بأكمله الى هذا الشكل البربري.

الثلاثاء، 18 أكتوبر 2022

التطبيع الإلهي

حسين عبدالحسين

ممتازة هي السياسية الخارجية التي قدمها زعيم حزب الله، حسن نصرالله، في الخطابات الثلاثة التي أدلى بها قبل توصل لبنان لاتفاقية ترسيم حدود بحرية مع إسرائيل.

بلغة غير متخصصة عكست نباهة فطرية وضحالة فكرية، وصف نصرالله موقفه العملاني الواقعي المعاكس لعقيدته بقوله "نريد أن نأكل عنبا"، وهي عبارة عامية تعني أننا "نبحث عن مصالحنا". وعلى عكس غالبية اللبنانيين، خصوصا من القادة والسياسيين، قدم نصرالله فهما للمصالح الدولية أظهر أنه في قرارة نفسه يدرك أن لا أميركا ولا إيران ولا أوروبا ولا الصين يعنيها الانهيار اللبناني، ولن تأتي أيٌّ منها لنجدته وإخراجه من حفرته.

نصرالله حاول تصوير المفاوضات التي أمر بها مع إسرائيل على أنها عملية تقوم بها دولة لبنان، لا حزبه، مع أن العالم كله يعرف أن قصر الرئاسة اللبنانية في بعبدا، فيما رئيس لبنان الفعلي في حارة حريك، حيث مقر الأمانة العامة لـ "حزب الله".

كل كلمة وفاصلة في الاتفاقية مع إسرائيل كان مصدرها نصرالله. أما رئيس لبنان، ميشال عون، وباقي السياسيين، فناطقون باسم الحزب اللبناني، يرضون غرورهم بالأضواء والكاميرات، ولا يزعجهم كونهم مسؤولين شكليين .

نصرالله حاول تصوير إسرائيل وكأنها قدمت تنازلات للبنان بسبب رعبها من القوة العسكرية لحزبه. أما المفارقة، فتجلّت في مانشيت صحيفة مقرّبة من "حزب الله" جاء على الشكل التالي: "الاتفاق (مع إسرائيل) وإلا…" الحرب.

لم تتنبه ماكينة دعاية "حزب الله" أنها فجأة صارت تنادي بالمفاوضات والاتفاق مع إسرائيل، وهي فكرة تناهض الفكر الخشبي الثوري الإسلاموي الشيوعي للنظام الإيراني والميليشيات التابعة له مثل "حزب الله"، التي تعتبر أن السبيل الوحيد للتعامل مع إسرائيل هو العنف المسمى ”مقاومة“.

ثم في محاولة أخيرة لحفظ ماء الوجه، قال نصرالله، في خطابه الأخير، عشية الاعلان عن التوصل للاتفاقية بين لبنان وإسرائيل، أنه يعتقد أن حدود لبنان البحرية تصل غزة، لكن في الوقت الحالي، ولأن العالم يتضور من الجوع ومعه لبنان، فلا ضير من التوصل لترتيب تسمح بموجبه إسرائيل لشركة توتال الفرنسية بالتنقيب عن الغاز في حقل قانا، الواقع على الحدود البحرية المتنازع عليها بين البلدين.

كما لا ضير في أن تتولى الولايات المتحدة، صاحبة "سفارة عوكر" المهووسة في "تمويل عملاء لبنانيين" ضد الحزب "لتقويض المقاومة" حسب نصرالله، في إدارة عملية وساطة أفضت لمنح لبنان كل المساحة البحرية التي كان متنازعا عليها مع إسرائيل.

وبعد لقاءات عقدها مسؤولو وزارة الطاقة الاسرائيلية في باريس مع شركة توتال، أعلن الإسرائيليون أنهم سيتسلمون 17 في المئة من عائدات حقل قانا في حال تم اكتشاف وإنتاج وبيع الغاز.

لم يمانع "حزب الله" مبلغ النصف مليار دولار التي ستتسلمها إسرائيل من عائدات حقل قانا، لكنه طالب أن يتم تصوير هذه الأموال وكأنها تخرج من جيب توتال لا من حصة لبنان، وهذا تلاعب شكلي يهدف إلى نفي واقع الشراكة في حقل قانا بين لبنان "حزب الله" وإسرائيل.

في أدبيات جبهة الممانعة والمقاطعة ونظام إيران الإسلامي وحزب الله، الأموال التي سوف تتتسلمها إسرائيل هي أموال الفلسطينيين، وهو ما يعني أن "حزب الله" وافق على استيلاء إسرائيل على ما هو فلسطيني. لكن الضرورات تبيح المحظورات، ولا يمكن للجوع اللبناني أن ينتظر تحرير فلسطين، بل هو يملي مهادنة إسرائيل والتوصل لتفاهمات معها.

هذه السطور لا تهدف إلى تخوين "حزب الله" بسبب الشراكة التي توصل إليها مع إسرائيل حول حقل قانا، بل هي تهدف إلى إقناع نصرالله وجماعة الممانعة أن مساومتهم، التي أدت لتسوية مع إسرائيل تخدم مصلحة لبنان، وأنها السياسة الأفضل التي يجب على إيران الإسلامية وحزب الله والممانعة عموما تبنيها.

طبعا نحن نعرف أن نصرالله، كأحزاب الإسلام السياسي، لا يمانع بعض الخديعة خدمةً للهدف الأكبر، مثل عرض حماس لهدنة مع إسرائيل مقابل موافقة الإسرائيليين على إقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة. ثم بعدما تتمكن حماس، تقضي على إسرائيل.

وهكذا ترى إيران أنه يمكن لوزير خارجيتها السابق مصافحة يد نظيره الأميركي جون كيري، مقابل حصول طهران على عائدات النفط. أميركا أوباما كانت تسعى لتكون الاتفاقية النووية مع إيران فاتحة خير لتطبيع العلاقات، فيما طهران كانت تراها نهاية المطاف، ووسيلة لحصول إيران على أموال أكثر للانغماس في حروب أوسع، ضد العرب أولا وبعدهم أميركا وإسرائيل.

وهكذا نصرالله، يريد تثبيت وضع لبنان الاقتصادي، لا لحبه باللبنانيين، بل لأن مغامرات المقاومة متعذرة فيما يقتات اللبنانيون من جبال القمامة المتراكمة عبر الأراضي اللبنانية. بكلام آخر، نصرالله وافق على تطبيع بحري لاستئناف حروبه البرية لاحقا، غالبا لقمع السوريين والعراقيين واليمنيين والإيرانيين الثائرين على نظامهم الإسلاموي الدموي.

لكننا سنحسن الظن بنصرالله ونعتبر أنه تعقّل وأدرك أن الناس "بدها تاكل عنب"، وهو ما يقتضي إنهاء الحروب بالكامل، لا مؤقتا فحسب وكأنه يسعى لإطعام اللبنانيين وتسمينهم تمهيدا لذبحهم في آتون الحروب الإيرانية المتوالية منذ 1979. أما تطبيع نصرالله البحري مع إسرائيل، فأظهر أن السلام في مصلحة اللبنانيين، وعموم العرب، أكثر بكثير من المقاومة وحروبها.

ثم أن القضية الفلسطينية بأكملها تشبه حقل قانا للغاز، ويمكن التوصل إلى شتى أنواع التفاهمات العربية مع إسرائيل التي تؤدي إلى تحسين معيشة الفلسطينيين واللبنانيين، مقابل تخليهم عن مطلب إقامة دولة فلسطينية بدلا من إسرائيل، هذا إن كان العرب "يريدون أن يأكلوا عنبا"، حسب تعبير نصرالله.

عندما يطالب أي لبناني بالتوصل لتفاهمات واتفاقيات مع إسرائيل، يثور محور الممانعة ويصف المطالبين بالسلام بـ "الانهزاميين" و"العملاء" و"المنحطين المرتزقة" التابعين للسفارات. أما أن يقول نصرالله نفسه: "نريد أن نأكل عنبا" ولتنتظر فلسطين وقضيتها، فالتطبيع الإلهي لا غبار عليه.

الثلاثاء، 11 أكتوبر 2022

إيران وصناعة الخرافة الدينية

حسين عبدالحسين

مطلع القرن الميلادي السادس عشر، اشتد ساعد اسماعيل صفوي الأول وتوسعت سيطرته على إيران، فقام بتحدي سلالة الغازي عثمان، التي أقامت لنفسها سلطنة في اسطنبول. وتبنى الصفوي - وشجّع وطوّر - الفئات الإسلامية المعارضة لشرعية السلطان، خصوصا المعروفة منها بالشيعية.

العثمانيون كانوا بنوا شرعيتهم على الخليفة الرابع عثمان بن عفّان، الذي يشترك في الكثير من أساطيره مع القديس سمعان العمودي، صاحب الطائفة الواسعة الانتشار في المشرق وجنوب الأناضول. لغويا، يتطابق الاسمان عثمان وسمعان، وفق مبدأ القلب والإبدال، ويتطابق معهما اسم سماعن أو اسماعيل. وكان سبق لمعظم السلالات التي حكمت المشرق وشمال أفريقيا أن بنت شرعيتها على عثمان، كالأمويين، أو على اسماعيل (ابن فاطمة)، كالإسماعيليين الفاطميين.

والصفوية هي طريقة صوفية سابقة للإسلام تقدّس إلهة الحكمة صفاء، صوفيا عند الإغريق، وهي أول خليقة في العالم، شكّلت نفسها من العناصر الأساسية الأربعة، فصارت حجرا أسودا هو حجر زاوية العالم، وحبلت بدون دونس، وولدت إلها هو الشمس، الذي يولد كل يوم، ويموت كل مساء، ثم يولد في يوم جديد وحياة جديدة. وفي وقت لاحق، دمج الأقدمون صفاء بإلهة الحرب زهراء، التي يرمز إليها الكوكب الذي يحمل اسمها، والذي يرسم نجمة خماسية في السماء مع اتمامه دورة كاملة.

مطلع القرن السادس عشر، بدأت كل من الحركتين الصوفيتين - الصفوية الإيرانية والعثمانية التركية - تتنازعان على زعامة العالم الإسلامي. ولأن الأتراك تبنوا الأمويين والفاطميين ومذاهب المماليك، بنى الصفويون مذهبهم على مذاهب شيعية، أبرزها الإثني عشرية والحجتية، التي تنتظر عودة المهدي، ونصّب الحاكم الصفوي نفسه نائبا للإمام المنتظر حتى عودته من غيبته.

ومضى الصفويون يمولون ويرعون انتشار نسختهم الشيعية بين الفرس والعرب، وساهم محمد باقر المجلسي، المتوفى في 1699، في إدخال كمية هائلة من الخرافات التي يرفضها الشيعة العرب حتى اليوم، وبعضها نبوءات فاشلة، مثل أن المهدي يعود مع فتح قسطنطينية (وهذا كان حصل في 1453). ومع الفرس، تبدلت زوجة الحسين، الرباب ابنة امرؤ القيس، وصارت ابنة آخر ملوك الساسان الفرس في بغداد، يزدجرد الثالث، وصار الحسين، ثالث أئمة الشيعة، أميرا فارسيا. وحاول علماء الشيعة العرب تنقية مذهبهم مرارا من البدع الفارسية، فقام على سبيل المثال السيد محسن الأمين، اللبناني المقيم في دمشق، بمحاولة تنقية رواية عاشوراء من الأساطير، وتحريم اللطم، وأفتى الأمين أنه "لا يجوز إطاعة الله من حيث معصيته"، والمعصية هنا هي إيذاء النفس. 

لكن الشيعة العرب فشلوا في وقف الإعصار الفارسي الذي اجتاح مذهبهم، وكانت أبرز معالم هذا الاجتياح زيارة المقامات، التي راح عددها يتضاعف، وما زال يزداد حتى اليوم، وكان آخرها إعلان مقاما جديدا، ونسبه لابنة الحسين صفية، وتحديد موقعه في حوش تل صفية، القريبة من بعلبك شرق لبنان. ولأن هذه المقامات تدر أرباحا وفيرة على من يديرها، أمسكت "حركة أمل" الشيعية اللبنانية بإدارة هذا المقام، الذي يبعد كيلومترات قليلة عن مقام ابنة الحسين الأخرى خولة، والتي يقع مقامها الذي يديره "حزب الله" قرب آثار بعلبك الرومانية.

شرق المقامين يقع "مسجد رأس الحسين"، الذي سيطر عليه شيعة بعلبك بقوة "حزب الله"، على الرغم أن ملكيته تعود لدار إفتاء المذهب السني في لبنان، وقفا منذ زمن المماليك. وتعتبر التقاليد الشيعية أنه بعد معركة كربلاء في 680 ميلادية، حمل جيش الأمويين رأس الحسين ومعه السبايا، وساروا مع الفرات شمالا، ثم انعطفوا شرقا فجنوبا، ومروا ببعلبك في طريقهم الى الخليفة يزيد في دمشق. وفي بعلبك، أوهم الأمويون السكان أنهم يحملون رؤوس خوارج، لكن زينب أخت الحسين قالت للسكان أنها رؤوس أبناء بيت الرسول، فثار البعلبكيون، ولكنهم فشلوا في انتزاع الرؤوس، فبنوا مسجدا في الموقع الذي كان الأمويون وضعوا فيه الرأس. مصدر هذه الرواية هو ابن شهر آشوب، المتوفى في حلب في 1192 ميلادية، أي بعد 500 عاما على الواقعة.

على أن في هذه الرواية نقاط ضعف كثيرة، أولها أن سكان بعلبك لم يكونوا تحولوا الى الإسلام بعد في 680، أي بعد أقل من 50 عاما على "الفتوحات الإسلامية". ثاني المشاكل أن من زاروا بعلبك حوالي 1200 ميلادية ودونوا لائحة بالمقامات الدينية فيها لم يصادفوا مسجد رأس الحسين ولا قبري ابنتيه خولة وصفية. جلّ ما رآه أبو الحسن الهروي في بعلبك، ودونه في كتابه "الاشارات الى معرفة الزيارات"، أن على بابها من الشمال قبر مالك الأشتر، وفيها قبر حفصة زوجة الرسول، وفي جوارها دير الياس النبي، والأرجح أن هذه البقعة معروفة اليوم بقرية النبي إيلا.

على أن كتابا آخر من الزمن نفسه قد يحمل في طياته قصة "مسجد رأس الحسين"، وهو كتاب "تاريخ العظيمي" لصاحبه محمد التنوخي الحلبي، المتوفى في 1160 ميلادية، والذي كتب أنه في سنة 1043 "ظهر ببعلبك في حجر منقوش رأس يحي بن زكريا عليه السلام فنقل الى حمص ثم الى حلب" حيث تم دفنه.

هذا يرجح أن أسطورة "مسجد رأس الحسين" تعود أصلا ليوحنا المعمدان، الذي تكلم رأسه، بعد قطعه، في معجزة ينسبها بعض الشيعة لرأس الحسين في حضرة يزيد. هذه الأسطورة تتكرر حول الجامع الأموي في دمشق، حيث قبر المعمدان والركن الذي تم وضع رأس الحسين فيه. وهناك مقامات متعددة تنسب أن رأس المعمدان، لاحقا الحسين، ارتاحت أو تم دفنها فيها، منها في القاهرة الفاطمية.

ويقع معبد المعمدان - مسجد رأس الحسين - في بعلبك على ضفة نبع رأس العين، وهو ما يؤكد أنه يعود لطائفة معمدانيين ممن ترتكز تعاليمهم على الاغتسال في الماء الجاري والعمادة. والرأس العين، أو العين على رأس الهرم، هو الخالق الساهر على خليقته، وهو الذي يمنح الحياة على شكل نبع مياه.

ومثل في بعلبك، لم ير الهروي في زيارته لدمشق وريفها مقاما لزينب، بل قال إن في قرية راوية قبر لأم كلثوم ابنة الرسول. وراوية هي صفة لصفاء إلهة الحكمة التي تعطي الحياة، وفعل اعطاء الحياة يتم الرمز إليه بإعطاء الماء أو المطر، أي الري. راوية صارت العذراء مريم، واليوم هي زينب وصفية. ومع بدء انتشار الدعوة الصفوية في بلاد العرب، قام أحدهم بإعلان راوية موقعا لمقام زينب بنت علي، أخت الحسين، على الرغم أن الروايات الأقدم تعتبر أن قبرها في البقيع قرب المدينة المنورة.

ما تزال عملية إعلان المقامات والمشاهد (أي عندما يبصر مؤمن في نومه أو وعيه نبيا أو وليا) جارية على قدم وساق، وآخرها ظهور موقع صفية وسكينة، في داريا بريف دمشق، بالضبط مثل أسطورة فاطمة المعصومة في قم، وهو على الأرجح موقع عبادة قائم منذ الزمن السحيق، يعود لأناهيد الآلهة الفارسية، وتم تحويلها الى فاطمة شقيقة الإمام الشيعي علي الرضا.

هي خرافة صناعتها مربحة، ماليا عبر السياحة الدينية، وسياسيا عبر بناء شرعية الحاكم على الدين، وهي صناعة أتقنتها إيران منذ خمسة قرون، وماتزال تبرع فيها حتى اليوم.

الثلاثاء، 4 أكتوبر 2022

عندقت… النسخة اللبنانية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي

حسين عبدالحسين

نشب نزاع حول ملكية عقارية بين أهالي بلدة عندقت الشمالية اللبنانية، ذات الغالبية المسيحية، وجيرانها الى الشرق عشيرة آل جعفر الشيعية. ويتمحور النزاع حول بدء شخص من آل جعفر ببناء بيت سكني له في أرض مشاع، لا ملكية فردية لها، لكنها تقع ضمن نطاق بلدية عندقت، وهو ما اعتبره أهالي عندقت تعديا على أملاكهم العامة.

وصدر بيان عن مخاتير عندقت جاء فيه التالي: ”بعد ان استنفدنا الوسائل القانونية والسلمية كافة مع بعض اهالي آل جعفر حول التعديات التي يقومون بها على مشاعات بلدتنا من تشييد أبنية، أو جرف اراضٍ، أو قطع حطب، متبعين سياسة القضم البطيء، وعدم احترامهم للقوى الأمنية ولحسن الجوار وتطبيق قرارات القضاء، ونسفهم المفاوضات في المطرانية (المارونية)، قامت مجموعة من شباب عندقت بقطع الطريق العام في بلدة القبيات-الجرد المؤدية الى بلدة الرويمة احتجاجا“.

ودعا البيان إلى تسوية ”قبل ان تصل الامور حد الاشتباك“، ولكنه حيا ”موقف شبابنا الشجاع وشهامتهم“ لقطعهم الطريق وتحدي آل جعفر، وشكر ”شباب القبيات“ المسيحيين لوقوفهم في صف شباب عندقت. وختم المخاتير بالقول: ”لن نفرط بأي شبر من حقوقنا لأن كرامتنا وأرضنا (هما) أغلى ما لدينا“. 

والخلافات العقارية بين المذاهب اللبنانية ليس حديثا، فقبل عامين نشب نزاع مشابه في بلدة لاسا في منطقة جبيل. 

والخلافات العقارية ليست عابرة للمذاهب فحسب، بل هي داخل كل واحد من المذاهب اللبنانية وغير اللبنانية في عموم المشرق، الإقطاعي تاريخيا، والذي تشكل الملكية الفردية العقارية ظاهرة حديثة نسبيا لا يتعدى عمرها القرن أو أكثر بقليل. وفي لبنان روايات كثيرة عن أخ وأخيه قتل واحدهما الآخر بعدما أغلق الأخ طريق المرور الى أرض أخيه. أما فرز الأراضي، فغالبا شفاهي ومبني على معالم غير ثابتة، مثل ”من شجرة الزيتون إلى الصخرة خلف بيت أبي فلان“.

كان الخليفة العربي أو السلطان العثماني يمنح الأراضي للمقربين منه وضباط جيشه، فيسمح هؤلاء للفلاحين في زراعة وحصاد الأرض مقابل ضرائب يدفعوها للإقطاعي، الذي يسدد بدوره جزء كبيرا منها للحاكم، الخليفة أو السلطان. 

هكذا كانت عائلة سرجون المسيحية العربية التي فتحت أبواب دمشق أمام الغزو العربي، وهكذا كان البرامكة الذين عيّن هارون الرشيد جعفرا منهم واليا على الغرب والفضل واليا على الشرق. وهكذا كان الأمراء المعنيون والشهابيون في جبل لبنان. كل هؤلاء جباة ضرائب تحت اسم وزير أو أمير أو مقاطعجي. أما الملكية، فهي لله ومن بعده السلطان، بحسب هوية هذا السلطان.

لكن لكل مذهب إلهه وسلطانه. لهذا السبب، قام الغزاة غالبا بحفظ أراضي من غزوهم من المذاهب الأخرى. كما سمح الغازي للمُغزى بتدبير شؤونه الدينية والاجتماعية، مثل عقود القران والطلاق والولادة والوفاة، وهو ما أنجب في نهاية المطاف النظام العثماني المعروف بـ ”الملي“، والذي ورثته الدول التي أقامها الانتداب الفرنسي، والى حد أقل البريطاني.

لذا، عندما أقامت بريطانيا فلسطين بجمعها سنجق القدس، التابع لاسطنبول، مع سنجقي عكا ونابلس، التابعين لولاية بيروت، اقتصر الاقطاع الفلسطيني على عائلات ثلاثة أو أربعة في القدس، كالنشاشيبي وخالدي والحسيني، فيما كان اقطاع مساحات فلسطينية شاسعة يقيم في ولاية بيروت ومتصرفية جبل لبنان. وكانت هذه العائلات — مثل بسترس وسرسق وتويني المسيحية وجنبلاط الدرزية وسلام السنية — تقطع أراضيها لفلاحين يرتزقون منها ويسددون ضرائبها للاقطاعيين، الذين يسددونها بدورهم للباب العثماني العالي.

وعندما مضت الوكالة الصهيونية في أكبر عملية شراء عقارات في الشرق الأوسط، قامت بشراء عدد كبير في فلسطين من الاقطاع اللبناني، وبعض هذه الأراضي التي يملكها الصهاينة هي داخل حدود لبنان اليوم. مثلا، هضبة المطلة اشتراها الصهاينة من عائلة جنبلاط، ولكن عند ترسيم الحدود، بقيت أراض صهيونية على الجهة اللبنانية وهي اليوم جزء من بلدة كفركلا اللبنانية المواجهة للمطلة.

هكذا هي منطقة الشرق الأوسط، حديثة العهد بشؤون الحريات الفردية والملكيات الخاصة. الملكيات، حتى الخاصة منها، هي عادة في حماية القبائل أو العشائر، مثلما حصل في عندقت التي هبّ مسيحيو القبيات لنجدة أبناء مذهبهم في مواجهة المسلمين الشيعة، وكأننا نتحدث عن مواطني دولتين مختلفتين لا عن مواطني لبنان واحد.

على هذه الخلفية هو الصراع بين الفلسطينيين والاسرائيليين. الفلسطينيون لم تكن بأيديهم السيادة في تاريخهم. مع نهاية القرن الماضي، تملّك فلسطينيون وتوارثوا أراضٍ في ما أصبح في ما بعد فلسطين البريطانية. حتى هذه الملكية لم تكن وطنية، بل تملّك المسلمون السنّة أراضي قراهم والبساتين المحيطة بها، وكان للمسيحيين قراهم، وكذلك كان للدروز قراهم، وكانوا يتنادون ضد واحدهم الآخر في حال تعدى أي منهم على أراض الآخر، بالضبط مثل عندقت وآل جعفر. 

في هذا النظام القبلي ارتمت إسرائيل. طبعا قبيلة إسرائيل تفوقت على كل أقرانها، ماليا وتنظيميا وعسكريا، لذا، ابتاعت مساحات واسعة، وفرضت سطوتها على المشاعات. ثم عندما أعلن العالم اعترافه بدولة إسرائيل وانضمت الضفة للأردن وغزة لمصر، فرض الجانبين الاسرائيلي والعربي عملية تبادل سكاني على غرار ما فعلت تركيا واليونان. وتضمن التبادل تخلي إسرائيل عن أكثر الأراضي التي تقدسها، أي الضفة والقدس الشرقية، مقابل حصولها على دولة يهودية ذات سيادة. رفض العرب التسوية وخاضوا حروبا خسروها، ففرضت إسرائيل سيادتها على الضفة والقدس الشرقية، وهي سيادة لا يعترف بها العالم حتى اليوم. 

موضوع السيادة يرتبط باعتراف دولي وينفصل عن من يملك الأراضي. لفلسطينيين أراض يملكوها في إسرائيل، ولإسرائيليين أراض يملكونها في الضفة والقدس الشرقية منذ زمن الدولة العثمانية.

النموذج الملي العثماني مازال سائدا اليوم في كل الشرق الأوسط وما زال يثير نزاعات لا تعترف بأي من الحدود القائمة. وحدها نزاعات الفلسطينيين والإسرائيليين تتصدر الإعلام العالمي، ولكنها فعليا مشاكل عقارية مألوفة في المنطقة، وحلّها يتطلب إما نشر ثقافة مواطنية غير قبلية تسمح بالاختلاط السكاني والعقاري، أو ترسيم حدود القبائل بين مسيحيي عندقت وشيعة آل جعفر كما بين مسلمي فلسطين ويهود إسرائيل، وكذلك في سوريا والعراق وغيرها.

الثلاثاء، 27 سبتمبر 2022

ردا على كتابها "ينادوني لبؤة" رسالة إلى عهد التميمي

حسين عبدالحسين

عزيزتي عهد،

سلام وبعد. قرأت باهتمام كتابكِ الصادر مؤخرا بالإنكليزية بعنوان "ينادوني لبؤة" حول تحريضك لشن عمليات ضد إسرائيل وانخراطك في مواجهات مع جنودها، ما أدى لاعتقالك ثمانية أشهر في سجن هاشارون ومنحكِ شهرة عالمية. 

اسمحي لي أن أقدم نفسي. أنا أميركي، عربي المولد والنشأة والثقافة. في سني الجامعة والشباب في لبنان، انخرطت في العمل الطلابي وآمنت بقضية فلسطين مستندا إلى نفس التعليل الذي تقدمينه في كتابكِ. يوم زارتنا في "الجامعة الأميركية في بيروت" وزيرة الصحة الأميركية السابقة، دونا شلالا، جلست في الصف الأمامي والكوفية على اكتافي استفزازا. شاركت في كل التظاهرات لدعم الفلسطينيين، ورافقت أعضاء مجلس الشيوخ البلجيكيين في تحقيقاتهم في مجازر مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين، وسهلت تغطية إعلاميين أميركيين لفلسطينيين رفعوا مفاتيح بيوتهم الحديدية القديمة، وسندات ملكياتها في مخيم عين الحلوة. كانت المظلومية الفلسطينية واضحة أمام عيني بنفس وضوحها في عينيكِ اليوم. ثم كَبِرت.

ربما تعرفين المثل القائل أنك إن لم تكن ثوريا في شبابك فأنت بلا قلب، وإن بقيت ثوريا بعد عمر الشباب، فأنت بلا عقل. تقولين أنك تسعين لشهادة في الحقوق لتثقيف الفلسطينيين حول حقوقهم في حالات اعتقالهم. هذا يشي بأنك تخالين أن الصراع أزلي، وأنك تختارينه — للأسف — طريقة حياة لك وللفلسطينيين. الصراع، أي صراع عسكري أم مدني، هو وسيلة لحياة أفضل، ويصبح عبثيا إن تحوّل إلى طريقة عيش، وأنت الأدرى بذلك إذ أنكِ نشأتِ في ظلّه. هو دوامة من العنف والثأر. الموت يخطف بعض من تحبين. السجن يصبح عادة، فتخرجين وأمكِ من السجن ليدخل أبوكِ وأخواكِ وعد وأبو يزن. هذه ليست حياة. 

الحياة هي السعي للاستقرار، وتحصيل العلم، والعمل الدؤوب، وحرية العبادة أم عدمها، وحرية التعبير عن الرأي، والسعي لتأمين حياة أفضل للجيل الذي يلينا من التي عشناها، لا إعداده للتعامل مع نفس حياة البؤس والمواجهات والاعتقال التي عشناها. 

أنا ولدت وترعرت في حرب لبنان الأهلية وحروب العراق كلها. كان هروبنا مستمرا من جحيم متواصل في نقاط مختلفة: بغداد، بحمدون، بعلبك، بيروت. خسرنا في كل منها أراضٍ، وبيوت، وأقارب، وأصدقاء. لذا، قطعت عهدا على نفسي أن أسعى لحياة أفضل لي أولا ولأولادي من بعدي.

هكذا انخرطت في التغيير في العراق ولبنان. لكن الثورة والتغيير في دنيا العرب عبث ولا تؤثران في مجرى الأمور، بل إن أوضاع البلدين هي اليوم أسوأ بكثير عما كانت عليه في زمن سكني في المنطقة. أما المفارقة فهي أن لبنان والعراق — على عكس فلسطين — يتمتعان بسيادة كاملة. لكن السيادة لا تؤثر في دنيا العرب، بل أن المشكلة هي في انعدام الثقافة المدنية والدستورية لدى الغالبية. 

إن أجمل فكرة وردت في كتابِك هي أنه "علينا كفلسطينيين أن نكون صادقين مع أنفسنا، وأن نعترف أن مشاكلنا لن تصل لحلول فورية عندما ننهي الاحتلال (الاسرائيلي)"، والأرجح أنها فكرة تواترت اليكِ في السجن تحت تأثير "خالتو خالدة" جرار، التي تنتمي لـ "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، ذات التوجه العلماني الماركسي الذي يولي تحرر المرأة في المجتمعات العربية أهمية كبيرة.

ما أختلف فيه معك، ومع "خالتو خالدة"، هو أن حلول مشاكل الفلسطينيين، كباقي العرب، لا ترتبط بإسرائيل، ولا بالاحتلال، ولا بالسيادة العربية أو عدمها، بل أن استمرار الاحتلال سببه الفشل الفلسطيني — كما اللبناني والسوري والعراقي — في انجاب دول حديثة قادرة على استلام السيادة من الإسرائيليين. 

والفشل العربي يتجلى في معتقدات مثل التالية التي أوردتها: "حتى يحقق الفلسطينيون أي شيء ذي معنى، نحتاج أولا إلى وحدة وطنية وقيادة قوية". طبعا هذه فكرة قديمة وردتك من المحيط العربي الذي نشأتِ فيه، والذي يتخيل أن سر النجاح هو الانضباط، والعسكر، والقوة، فيما الواقع هو أن سر نجاحات الدول الغربية وإسرائيل هو عكس ذلك تماما. نجاح الدول مبني على تعدد الآراء وتضاربها، والقدرة على تنظيم الاختلاف في الرأي، ومنح القيادة للرأي الذي يحوز على الغالبية في الانتخابات.

وتعدد الآراء ينحصر في صنع السياسات، أما الأمور المصيرية فتحتاج لإجماع. عندما تبنت "منظمة التحرير" حل الدولتين ودعت المجتمع الدولي لإقراره وفق قرارات ملزمة صادرة عن مجلس الأمن الدولي، كان ذلك باسم الشعب الفلسطيني ككل، وهو ما يعني أنه لما استلمت حماس الحكم بالانتخابات، كانت مجبرة على التزام هذه الاتفاقيات والتنسيق أمنيا مع إسرائيل. لكن حماس لا تعترف بالمجتمع الدولي ولا بقانونه، وهي شنت عمليات انتحارية في زمن المفاوضات أظهرت أن عرفات لا يمثل الفلسطينيين، وتاليا لم يبصر حل الدولتين النور، وتعثّر في منتصف الطريق، وصار عبارة عن كائن هجين: لا هو حرب ولا هو سلم. 

على أن حماس لو التزمت وعود "منظمة التحرير" لإسرائيل والعالم، لكانت حكومة فلسطينية اليوم تتمتع بسيادة على كل الضفة، بما فيها "المنطقة ج"، حيث بلدتك النبي صالح، وحيث نبع مياهِك المفضل عين قوس، ولكانت دولة فلسطين تحكم الضفة وغزة من مقرّ لها في القدس الشرقية، ولكنتِ أنتِ قادرة على زيارة عكّا في إسرائيل متى شئتِ، كما يزور أي أردني أو مصري أو إماراتي أو بحريني أو تركي عكّا وحيفا ويافا وباقي إسرائيل. 

أما عرب إسرائيل، فدعيهم يتحدثون عن أنفسهم. هم أوضاعهم أفضل من كل عرب المشرق، فيما تظهر الانتخابات الإسرائيلية أنهم ينقسمون إلى ثلاث كتل: واحدة تتبنى الصهيونية وتنخرط في أحزابها مع حفاظها على ثقافتها العربية كأقلية، وثانية عربية غير صهيونية تشارك في دولة إسرائيل مثل كتلة رعم، وثالثة تعارض وجود دولة إسرائيل بالكامل مثل كتلة المشتركة وحزب بلد في الكنيست. أما لو شاء عرب إسرائيل الانضمام إلى دولة فلسطين لو قامت، فيمكنهم ذلك إما بضم مناطقهم المجاورة للضفة إلى الدولة الفلسطينية، أو بحمل جوازات فلسطينية مع إقامة دائمة في إسرائيل، أي يصبحون مواطني فلسطين ويعيشون في إسرائيل بدون حق الترشح والانتخاب.

عزيزتي عهد،

كل الأفكار التي أوردتها حول "المقاومة" و"الصمود" هي أفكار عفا عليها الزمن، وأثبتت فشلها على مدى القرن الماضي. حتى يحيا الفلسطينيون حياة أفضل، عليهم التخلي عن حلم إزالة إسرائيل وإقامة دولة فلسطينية مكانها، وعلى الفلسطينيين تقديم أفكار قابلة للحياة للمجموعتين. مثلا، عندما تغمضين عينيك وتتخيلين أن "فلسطين تحررت"، تقصدين تحررت ممن؟ إذا كنتِ تعتقدين أن العرب واليهود سيعيشون بمساواة في دولة واحدة، هذا يعني أن كلمتي احتلال وتحرير لا تصفان الوضع لأن التحرير من الاحتلال يقضي بجلاء المحتل، فيما أنتِ تقترحين العيش بمساواة مع المحتل نفسه، وهذا تناقض. لو كنتِ ساعية للعيش بمساواة فلن تنشدي التحرير، بل لطالبتِ بحقوق متساوية مع الإسرائيليين بعد قسمك الولاء لإسرائيل. أما إن كان هدفك السيادة الفلسطينية، فلا مناص من حل الدولتين.

وحتى يصبح حل الدولتين ممكنا، على الفلسطينيين التخلي عمّا يسمونه "حق العودة"، الذي ينص عليه قرار صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقرارات الجمعية هذه غير ملزمة. لكن قرارات مجلس الأمن، التي تكرّس حل الدولتين، ملزمة، وهو ما يعني إن كان القانون الدولي هو ما تصبين إليه، فهو يملي بالتخلي عن الدولة الواحدة وتبني حل الدولتين، فلسطين عربية خالصة إلى جانب إسرائيل، يهودية خالصة بدورها. 

إن مفتاح خلاص الفلسطينيين هو تخلصهم من ثأر الماضي، وتطلعهم نحو مستقبل أفضل، وهو ما يقتضي نظرهم إلى الأمور بواقعية، ومقارنة إمكاناتهم وإمكانات الإسرائيليين، وهنا لا أقصد العسكرية، بل التفوق الإسرائيلي في البنية السياسية والثقافية والعلمية والاجتماعية والحريات الخاصة والعامة. 

في اليوم الذي يدرك فيه الفلسطينيون أنهم متأخرون عن الإسرائيليين في قدرتهم عل بناء دولة وإدارتها، سيدركون أيضا أن مصلحتهم تقضي بتسليم السيادة للخبّاز حتى لو أكل نصفها. فقط تأملي كيف يتظاهر عرب إسرائيل كل مرة تعرض إسرائيل ضم مناطقهم إلى حكم السلطة، ففلسطينيي الداخل يدركون أنه على الرغم من تمتع اليهود بحظوة أكبر لدى الدولة، إلا أن وضعهم أفضل بكثير من سائر عرب المشرق.

عزيزتي عهد،

عندما ابتعتُ كتابك كان أملي أن أطالع أفكارا خلّاقة يقدمها جيل جديد. ثم خاب أملي عندما رأيتني أقرأ سطورا قلتِ فيها أن مانديلا لم يكن مناضلا سلميا بل كان داعية مقاومة مسلحة وحرب. خاب ظني أني بدلا من قراءة أن الجيل الجديد ملّ الموت والثأر والاعتقال، قرأت أنه يستعد لجولة جديدة منها. للأسف.

الثلاثاء، 20 سبتمبر 2022

التغييريون واستعادة الكويت

حسين عبدالحسين

نجح التغييريون في الكويت في تكبيد المحافظين والإسلامويين هزيمة سياسية تشي بأن حظوظ التغييريين كبيرة في إحراز انتصارات، وإن صغيرة، في انتخابات "مجلس الأمة" المقررة في التاسع والعشرين من الجاري. وتجلّى انتصار التغييريين في فشل الإسلاميين في حمل المرشحين على توقيع وثيقة تنتمي للعصور الظلامية أسموها "وثيقة القيم".

فمن أصل 376 مرشحا، بلغ عدد الموقعين على الوثيقة 48 فقط، أي 12 في المئة، وهو ما يمثّل على الأرجح الشعبية المتدنية للإسلام السياسي، خصوصا في دولة كالكويت تعيش غالبية سكانها في بحبوحة، وهو ما يحرم الإسلامويين فرصة بناء قاعدة شعبية مستندة إلى شبكات رعاية اجتماعية، كعادة تنظيمات الإسلام السياسي في الدول ذات الغالبية السكانية المسلمة. 

ومما ورد في "وثيقة القيم" أن المرشح للبرلمان الكويتي يتعهد بـ"العمل على تطبيق منع الاختلاط" في المؤسسات التربوية "بما يحقق فصل مباني الطلاب عن مباني الطالبات". كما ترفض الوثيقة "مهرجانات الرقص الهابطة وحفلات الرقص المختلطة التي تخالف الآداب والذوق العام والقانون". 

ومن بنود الوثيقة أيضا "رفض المسابح والنوادي المختلطة، والعمل على تفعيل قانون اللبس المحتشم، ووقف عرض الأجساد بما يخدش الحياء على الواقع وفي مواقع التواصل، وتطبيق قانون تجريم الوشوم الظاهرة على الجسد"، فضلا عن تجريم "سب الصحابة". 

كل ما كان ينقص "وثيقة القيم" الكويتية الطلب إلى الحكومة تأسيس شرطة فضيلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على طراز الشرطة السعودية التي كانت معروفة بـ "المطاوعة"، والتي كان أكبر انجازات الحكومة السعودية حلّها ومنح السعوديين حريات فردية تتضمن كيف ومتى يعبدون، وما يلبسون، وكيف يتصرفون — رقصا أم غناء أم سباحة. 

مسكينة الكويت التي لاتزال بعض القوى السياسية فيها تدفعها باتجاه العصور الظلامية بدلا من الالتحاق بالزمن القائم وتحويل البلاد إلى اقتصاد معرفي قادر على التنافس في الاقتصاد العالمي لتخفيف اعتماد الكويت على عائدات النفط، وترشيق القطاع العام، وإصلاح مسار الموازنة العامة.

جارتا الكويت، السعودية والإمارات، سارتا في ركب التغيير، وتداركتا أهمية إقامة حيّز عام معولم يقبل الحريات الفردية ويسمح للبلاد المنافسة في الاقتصاد العالمي المبني على المعرفة والخدمات. 

أما الكويت، فتعاني مما كانت تعاني منه السعودية قبل العام 2015: قادة حكماء إجلاء ولكن طاعنون في السن ولا قدرة لديهم على التحديث، ولا تصور لديهم حول كيفية تمرير القيادة للجيل الحالي، ويقتصر ما يسعون إليه — مشكورين طبعا لضرورته — على الحفاظ على التماسك الوطني والاستقرار العام، وهذا ما أملى عليهم مسايرة المحافظين والإسلام السياسي، محليا وإقليميا. 

وفي غياب قادة كويتيين شباب تحديثيين، من أمثال ولي عهد السعودية محمد بن سلمان، وقعت مهمة مواجهة الإسلاميين، ورفع راية التغيير واستعادة الكويت، على مرشحين شباب من أمثال المرشح في الدائرة الرابعة عبيد الوسمي والمرشح في الدائرة الثالثة جاسم الجريد، والذي يجاهر بإعلاء مصالح الكويت وتقليد نموذجي الإمارات والسعودية في الانفتاح على العالم وبناء اقتصاد معرفي معولم.

وكان بعض التغييريين في "مجلس الأمة" الأخير حاولوا الالتفاف على المحافظين والإسلامويين بالمزايدة عليهم في موضوع مقاطعة إسرائيل ومناصرة فلسطين، لكن هذه "المجاملة" لم تنقذ الحكم الكويتي ولا حلفائه من حقد المعارضة ضدهم وتعطيل الدولة بشكل عام، وهو ما دفع بعض أبرز البرلمانيين، من أمثال رئيس "مجلس الأمة" مرزوق الغانم، إلى الاعتكاف عن الترشح. 

والغانم مشرّع في منتصف العمر، أظهر طاقة وحنكة كبيرتين على مدى العقد الماضي، لكنه وكتلته لم يتمكنا وحدهما من دفع الكويت في اتجاه التغيير والانفتاح، ولم ينجحا في التخلص من الشعبوية والمزايدات في قضية فلسطين. ودفع انسحاب الغانم إلى ترشح برلمانيين سابقين يقارب عمرهم التسعين، طامحين لقيادة المجلس، وكأن كل ما ينقص الكويت المزيد من القادة الطاعنين في السن.

ولا يزال التغييريون الكويتيون اليوم يخشون مواجهة المحافظين والإسلامويين في موضوع السلام بين الكويت وإسرائيل، على الرغم من رفع التغييريين شعار "الكويت أولا". هذه الخشية مصدرها أن القضية الفلسطينية تحولت طوطما إيمانيا لا يرتبط بالمصالح الوطنية ولا بالسياسات، فاقتراح "تغليظ العقوبات" على التعامل أو التطبيع مع إسرائيل كان سيؤدي إلى منع شركات خليجية وعالمية من العمل في الكويت، وهو ما يؤدي إلى حرمان استثمارات أجنبية في الاقتصاد الكويتي وتاليا يجبره على الاعتماد أكثر على عائدات النفط. والمحافظون من معارضي التطبيع، المتوقع عودتهم إلى "مجلس الأمة"، لا يبدو أنهم يدركون أن للشعبوية حول فلسطين ثمن، وأن هذا الثمن هو فعليا عافية الاقتصاد الوطني وتاليا مصالح الكويت ككل.

ثم أن كل المواقف الكويتية لا تقرّب ولا تؤخّر في وضع الفلسطينيين، ولا هي حتى تشتري تعاطفا فلسطينيا تجاه الكويت، إذ يندر أن يعثر المرء على موقف فلسطيني واحد يلعن العراقي صدام حسين الذي اجتاح الكويت يوما ودمرها.

في العالم العربي نموذجان. الأول فيه دول تعي مصلحتها وتعليها على عواطفها، فلسطين أو غيرها، وتتعامل بعقلانية وواقعية مع الأمور، وتعرف أن العالم في سباق لبناء اقتصادات معرفية منفتحة على كل الشعوب والدول، بغض النظر عن تاريخ الصراعات معها (العلاقة الممتازة اليوم بين أميركا واليابان أو ألمانيا مثالا)، والثاني فيه دول تغرق في الشخصانية والنميمة، إن في الديوانيات أو على وسائل التواصل الاجتماعي، وتتلهى بصغائر الأمور والعواطف، كالدين وفلسطين، وتنسى الصورة الكبرى — أي مصلحة الكويت.

بعد تسعة أيام سيتوجه الناخبون الكويتيون إلى صناديق الاقتراع. في مصلحتهم انتخاب ليبراليين وتغييريين شباب من أمثال الوسمي والجريد وغيرهما، واختيار أصحاب السياسات الواضحة للانتقال بالدولة إلى اقتصاد عصري يستقل عن عائدات النفط ويرتكز على القطاع الخاص، وهذا قوي جدا ومتطور اليوم في الكويت، وأن تطوي الكويت صفحة الريعية المبنية على وظائف القطاع العام وشعارات الماضي البائد، فلسطين أو غيرها.

Since December 2008