الثلاثاء، 3 ديسمبر 2019

أين أخطأ السيستاني؟

حسين عبدالحسين

يظهر التاريخ أن المجتمعات التي تعاني تفكك الحكم وضعفه غالبا ما تشهد صعود المؤسسات الدينية كقيادة بديلة. هكذا كان الحال بعد انهيار آخر السلالات الرافيدينية، أي الأسرة النيوبابلونية، قبل خمسة قرون من الميلاد. وقتذاك، اجتاح قورش الإيراني فتحول معبد ماردوخ والكهنة إلى قادة العراق تحت الاحتلال، ومثلهم القضاة في تاريخ العبرانيين، وصولا إلى قم وملالي إيران، الذين قادوا تحول إيران من ملكية ظالمة إلى جمهورية دينية أكثر ظلما.

وعلى عكس مرجعية قم الإيرانية المشغولة بالصواريخ والنووي، تنهمك مرجعية النجف العراقية بالدين والعبادة. ومرجعية النجف تقليدية، تعتبر أن دور المراجع هو تقديم المشورة والنصح للعباد في شؤون الدين فقط، وانتظار ظهور الإمام المنتظر، محمد المهدي، الذي يجوز له وحده الفصل في شؤون القتال (الجهاد)، وجمع الزكاة.

ولهذا، كان شيعة العراق تقليديا يقتنون سيوفا يخبؤونها للقتال مع المهدي وقت ظهوره، وكان هؤلاء العراقيون يدفنون زكاتهم في الأرض لتقديمها للإمام وقت ظهوره كذلك، وفي الأثناء كان شيعة العراقيون ينتظرون، ولذا حمل إمامهم اسم المنتظر، يأتي ليخلصهم من الظلم والجور، وليملأ الأرض قسطا وعدلا.

عراق ما بعد صدام لم يشذّ عن قاعدة الدول التي أدى انهيار القيادة السياسية فيها إلى بروز المرجعية الدينية، فقامت المرجعية الشيعية في النجف، بقيادة علي السيستاني، بدور ممتاز لتفادي إراقة الدماء، ودعت التعاون مع الاحتلال الأميركي بما فيه مصلحة البلاد، بدلا من تحويل العراق إلى بركة دماء لانتقام إيران من الولايات المتحدة وابتزازها.

وفي الأثناء، تستمر محاولات إيران في تصوير السيستاني على أنه يقسم الولاء لـ "ولي الأمة المرشد الأعلى" الإيراني، على الرغم من أن السيستاني هو من المراجع الكبار، فيما خامنئي من درجة دينية متوسطة.

هكذا، يوم انهار جيش رئيس حكومة العراق نوري المالكي أمام اجتياح "داعش" الموصل صيف 2014، وجدت إيران فرصة في استبدال قوة دولة العراق بقوة الميليشيات الموالية لها المعروفة بـ "الحشد الشعبي"، لكنها خطوة كانت لتكون مستحيلة لولا خطأ ارتكبه السيستاني في دعوته إلى "الجهاد الكفائي"، أي ضرورة مشاركة العراقيين في الدفاع عن بغداد، وباقي مناطق العراق، ضد زحف الإرهابيين الدواعش. والميلشيات الإيرانية، التي تقسم الولاء لخامنئي، كانت تشكلت حتى قبل قيام "داعش" وفتوى السيستاني، لكنها أفادت من فتواه، وهو الرجل الذي تحمل كلمته الوزن الاكبر لدى الشيعة في عموم المعمورة.

منذ اندلاع ثورة العراق، اتخذ السيستاني مواقف ممتازة انحاز فيها للعراقيين ضد حكامهم الفاسدين وميليشيات إيران الماضية في ممارسة عنفها الدموي ضدهم. وبسبب شبه تلاشي دولة العراق، عمدت الأمم المتحدة للتواصل مع المرجع الشيعي في محاولة للتوصل إلى حلول للمأزق، الذي لا يبدو أن لأزلام خامنئي العراقيين حلولا له غير مواصلة العنف المفرط، كما في إيران وسوريا. ومن الحلول التي يتباحث فيها السيستاني، والأمم المتحدة، وعقلاء العراق، إقامة مفوضية مستقلة تشرف على انتخابات نزيهة مبكرة بموجب قانون انتخابي جديد وعادل.

على أن أي انتخابات نزيهة في العراق مستحيلة مع استمرار وجود ميليشيات "الحشد الشعبي"، إذ يمكن لهذه ممارسة العنف، على أنواعه، ضد المرشحين المنافسين، وإجبار العراقيين على الاقتراع لمصلحة مرشحي إيران، وهو ما يعني أن نقطة البداية لأي تسوية فعلية في العراق تقضي بحل "الحشد الشعبي" أولا، وحصر فرض الأمن بالقوى التي تشرف عليها الحكومة المنتخبة.

وحلّ "الحشد الشعبي" قد يبدو عملية معقدة، لكنه في الواقع أسهل مما يظن البعض، وهو يبدأ بإصدار السيستاني فتوى تنهي "الجهاد الكفائي"، وتدعو العراقيين إلى تسليم أسلحتهم لدولتهم.

وعلى حكومة العراق انتزاع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة من الميليشيات، ثم دمج مقاتليها بالقوى الأمنية العراقية، لا كوحدات مستقلة، بل تطويعهم كأفراد، وتوزيعهم على القوى الأمنية المختلفة، والأهم، إجبارهم على قسم يمين الولاء لحماية دولة العراق ودستوره وحكومته المنتخبة، بدلا من الولاء الحالي لخامنئي والأمة الشيعية المتخيلة.

في الأسابيع الأولى لسقوط نظام صدام حسين وقيام حكم أميركي مدني، تواصل الأميركيون مع السيستاني للاتفاق على كيفية إدارة مرحلة ما بعد العراق، وأراد الأميركيون أن يمنحهم السيستاني غطاء لبناء مؤسسات حكومية بدلا من المهترئة التي كانت قائمة، وإجراء تعداد سكاني، وتثبيت الأمن، وإسقاط ديون صدام، وإعادة إنتاج النفط كمورد رئيسي للدولة.

بعد ذلك، كان يمكن للحكومة العراقية الانتقالية الإشراف على تأسيس دستوري جديد، وإقامة انتخابات نزيهة. وفعلا، شاركت الأمم المتحدة بصياغة أول قانون انتخابي نسبي على أساس العراق دائرة واحدة، وهو الأكثر عدالة، شوّهه سياسيو العراق فيما بعد واستبدلوه بما يتناسب ومصالحهم الانتخابية.

رؤية السيستاني للديمقراطية يومها كانت شبيهة لديمقراطية لبنان العرجاء، أي اعتبار أن الغالبية السكانية الشيعية كتلة واحدة في مواجهة الكتلتين السنية والكردية، وهي رؤية تقوّض الديمقراطية، وتحوّل الكتل الناخبة إلى كتل ثابته مذهبية واثنية، بدلا من كتل متحركة عابرة للمذاهب والإثنيات وقائمة وفقا لبرامج انتخابية متغيرة حسب الظروف والحاجات.

بعد عقد ونصف من التجربة، ثبت خطأ السيستاني، إذ تبين أن لا الشيعة كتلة واحدة، ولا السنة، ولا الأكراد، وأن خلط السياسة بالمذهبية يعطي الحكام أدوات شعبوية يحرضون فيها العراقيين ضد بعضهم البعض، فيما يتقاسم الحكام ثروات البلاد التي ينهبونها.

هذه المرة، تقدم الثورة العراقية فرصة ذهبية للسيستاني، المرجع العراقي الوحيد الذي يتمتع بمصداقية لا تشوبها شائبة فساد أو عمالة لإيران، للإفتاء بحل الميلشيات، ودفع العراق في اتجاه دولة علمانية ذات حقوق وواجبات لكل مواطنيها، والاستغناء عن مصطلحات "المكوّن" المنتشر في الحياة السياسية للعراقيين، والذي ينظر إليهم كمذاهب وقبائل بدلا من النظر إليهم كمواطنين متساوين.

ما يزال العراق بحاجة لوقت لانتشار ثقافة الديمقراطية والحريات بين أفراد الشعب، بدلا من الرؤية القبائلية الريعية السائدة. لكن الثورة تعطي العراق والسيستاني فرصة للإفادة من أخطاء الماضي، ومحاولة تأسيس ثانية، فالديمقراطية لا تلد في ليلة، بل هي عملية تراكمية، مكلفة، لكن نتائجها لا تضاهى.

ليست هناك تعليقات:


Since December 2008